3 أفلام لبنانية جديدة: جماليّات سينمائية تتفاعل مع الواقع

27 ديسمبر 2021
يمنى مروان وعلي سليمان في "النهر": تمزّقات حبيبين (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

"أخطبوط" و"عقيق أخضر" و"النهر": 3 أفلام لبنانية حديثة الإنتاج (2021)، ذات رؤى وأساليب ومعالجات وتجارب مختلفة، بتوقيع 3 مخرجين من أجيال عدّة، يتباين تفاعلهم وتعاطيهم السينمائي مع الواقع من حولهم. اللافت للانتباه تقاطع الأفلام بصدق وجدّية في طرحها مشكلات عميقة، عامة وشخصية. مشكلات تخصّ حاضر ومستقبل بلدٍ وبشر يعيشان، منذ عقود طويلة، معاناة وجودية، تسبق المعاناة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويتوقان إلى الهروب من حربٍ نفسية، تُشكّل امتداداً لحروبٍ حقيقية، انقضت أو لا تزال حاضرة، والانعتاق من رغبة حارقة في العزلة.

يستعرض "أخطبوط"، لكريم قاسم (1990)، بيروت ما بعد انفجار مرفئها (4 اغسطس/آب 2020) بأيامٍ. لا حوار فيه، بل أصوات مبهمة ومتداخلة تصدر من جهاز راديو، وأخرى طبيعية مقبلة من الشارع، أو غيره. "أخطبوط" ـ الفائز بالجائزة الأولى (15 ألف يورو) في مسابقة "التخيّل"، في الدورة الـ34 (17 ـ 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2021) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية" ـ مليءٌ بروح الاستكشاف والحيوية، ويُعتبر رحلة سينمائية رائعة، لكنّها حزينة وصادمة في صدقها ورصدها الواقعي للحياة، في بيروت بعد الانفجار الكارثي.

كريم قاسم مهووس بالمشهد البيروتي، في معظم أفلامه. في مرثيّته البيروتية هذه (أخطبوط)، هناك وفرة كبيرة من اللقطات لأبنية مُهدّمة، وجدران منهارة، وسيارات منبعجة، وأدخنة متصاعدة. رغم النوافذ المهشّمة، والمباني المتضررة، والأنقاض والحرائق على جانب الطريق، هناك حركة مرور تملأ الشوارع، كالمعتاد. سكّانٌ يتطلّعون من نوافذهم في شرود أو وجوم. صغار يلهون في الطرقات، ويلعبون كرة القدم. المَشاهد المتلاحقة تستعرض كلّ أنواع النشاط البيروتي بعد الانفجار، وتنقل نبض الحياة في مدينةٍ تقاوم وتنتفض.

بينما تبدو الحياة طبيعية، أو شبه طبيعية، يُلاحظ بسهولة أنّ الوجود الكابوسي المطبق على المدينة يحاصرها ويلف أهلها، الذين بالكاد يبتسمون، فأذهانهم منشغلة بما جرى، في محاولةٍ لاستيعابه. يحدّقون في الأفق البعيد، لاستشراف المجهول المقبل إليهم.

 

 

لكنْ، هل من إمكانية للهرب من الذكريات أو المكان أو المستقبل؟ السؤال غير مطروح. هناك "كيفية" غريبة لاستمرار الحياة في المدينة، حتّى في أبسط أشكالها، وقابلية غريبة أيضاً على التكيّف والمواصلة، رغم كلّ شيء. في "أخطبوط"، رمزٌ يبتكره قاسم في السياق، لربط الأحداث فيما بينها. هناك غموض فني رائع، وسرد مُحبّب وذكي، ورغبة في الاسكتشاف والتجديد الأسلوبي. الفيلم دعوة صادقة إلى النظر والتأمّل والتفكير في ما جرى، رغم أنّه لا يحدث الكثير تقريباً.

في "عقيق أخضر"، لسليم مراد (1987)، يُلاحظ الانتقال بين المقال السينمائي والسينما التسجيلية والدراما الخالصة، وتوظيف التصوير الفوتوغرافي. قبل ذلك، هذا فيلم سيرة ذاتية، يُعتبر قصيدة مبتكرة، أو لوحات غير عادية عن الحياة والموت والبعث. كما يبدو استعارة، أو مغامرة استكشافية لاستشراف مستقبل غامض، أو رحلة تطهّرية من ماضٍ أو حاضر، يسودهما الألم والإحباط والخذلان.

يؤدّي سليم مراد شخصيته في فيلمه الخاص. يزور طبيبه في البداية. في أثناء ذلك، يكسر الجدار الرابع، ليكشف عن ورمٍ عميق الجذور في خصيته، يُجبره على إنهاء ثلاثيّته القصيرة بهذا الفيلم. هذا يقوده إلى التأمّل في سرعة الزوال، وخفّة الحياة، واضمحلالها الحتمي. تفتح وفاته اللاحقة رحلة غريبة ومربكة، وذاتية الانعكاس، عن الزوال والانحلال والعدم، من خلال التركيز البصري القوي على الجسد والذكورة، والحياة والموت والاندثار. هذا يفسّر ذكر قائمة طويلة لأسماء أنواع وكائنات منقرضة، بينها اسمه، يتلوها المخرج بصوتٍ هادئ في البداية.

مع وفاة سليم، يميل "عقيق أخضر" إلى بنية شبه درامية. يظهر المخرج في صُوَر مصطفّة على حائط معرض في بيروت، مؤطّرة بشكلٍ دائري. ليس واضحاً إنْ كانت مشاهد الفيلم من خلال عينَي سليم، أو بعد تجسّده مستقبلاً، أو بعينَي قرينه أو آخره، الذي يطلّ مُجدّداً، إذ تعود شخصيّته إلى الحياة ثانيةً، ومعها الحبيبة تمارا (تمارا سعدي). بينما تكافح الشخصيات الأخرى لإنهاء علاقتها بالمجتمع، مع شعور جاثم بالحنين إلى الماضي. يختار البعض مغادرة بيروت، وإعادة الاتصال بالطبيعة، وبحريته. في النهاية، الجميع يبحثون عن إجابة أو عن مَخرجٍ، في مجتمع وبلد لا يتوافر عليهما. ما يجعل "عقيق أخضر" ـ بطريقته الخاصة، شكلاً ومضموناً ـ رؤيةً مشوّشة للمستقبل، ومرثيّة للحياة.

"عقيق أخضر" ـ المعروض ضمن الدورة الـ50 لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي"، المقامة افتراضياً وواقعياً في الوقت نفسه بين 1 و7 فبراير/شباط 2021 (بالإضافة إلى عرضٍ للأفلام بين 2 و6 يونيو/حزيران 2021) ـ مُطعّم بتجريبية كبيرة، وبانفتاحٍ على أكثر من نوع سينمائي. لذا، الصورة جديدة، وإنْ كانت مُربكة بصرياً، وغير مألوفة عربياً، خصوصاً من حيث الجرأة على أكثر من مستوى. إجمالاً، يمكن وصفه بفيلمٍ عديم الشكل والبناء. لكنّ انفتاحه وجَوّه العام يقاومان الحدود والأشكال، أو أيّ بناء معتاد يجمع بين الحقيقة والخيال.

يركز الفيلم على استكشاف الخوف من الفناء، وفهم دورة الحياة والموت، والولادة والوفاة. ورغم روايته المتشظّية والمُبهمة عمداً، وترك مساحة كبيرة للارتجال والعفوية، تمثيلاً وكتابة، يُقدِّم سليم مراد تشريحاً جيداً للموضوع، ومعالجة ذاتية صادقة، تعكس خوفاً عاماً من الفناء، وهشاشة الجسد والروح، وتُصوّر بفنيّة، إلى حدّ كبير، جوهر دورة الحياة والموت والبعث، التي لا يمكن إيقافها.

في "النهر"، تتمة ثلاثيّة جديدة له بعد "الجبل" (2010) و"الوادي" (2014)، يختار غسان سلهب (1958) الاستعارة، مُجدّداً، للتعبير عن راهن لبنان، والاضطرابين النفسي والوجودي، والارتباك الحاصل في الأصعدة كلّها، والتوجّس من مستقبل غامض. كعادته، يحاول سلهب التخلّص من الأشكال التقليدية للسرد، وتصدير غير المطروق، ودفع المتلقّي إلى التفاعل ـ النفسي والحسّي والعاطفي والفني ـ مع العمل، وهذا قبل التفاعل الفكري، والتلقّي الذهني. إلى جانب اهتمامٍ واضحٍ بجماليات فنية وبصرية، توظّف الاستعارة توظيفاً جيداً. في "النهر"، يستكشف سلهب، عاطفياً، الارتباط المرتبك ببلدٍ مشوّش ومضطرب، يبحث عن ذاته وبوصلته، قبل كلّ شيء.

 

 

أسلوبياً، يحاول "النهر" أنْ يتلامس مع التراث السينمائي للواقعية الشعرية. تتّخذ الغابة الخريفية في جبال لبنان (حيث تدور الأحداث) أبعاداً خيالية وأسطورية، تُحيل إلى قصص الخرافات. أجواءٌ تلائم الموضوع العاطفي للحبكة، وترسّخ الاستعارة أكثر، غير المرتبطة بحدثٍ بحدّ ذاته، أو إحالة إلى أمر بعينه. لا يعني هذا انتفاء الواقع تماماً، فالطائرات الحربية تحلّق باستمرار فوق الغابة، وعلامات الألغام الأرضية في الأرض ترسّخ الواقعيّة، كما الأسوار المحطّمة، والذباب الذي يحوم حول جيفة ثعلب، والكلب البرّي الشارد، والأسلحة والذخيرة في الكهف المُكتشف في قلب الغابة. وأخيراً، صوت انفجار مُدوِّ.

هناك توغّل تدريجي بطيء إلى قلب الغابة، يقوم به حبيبان سابقان، امرأة مجهولة الاسم (يمنى مروان) وغسان (علي سليمان)، كانزلاقٍ اضطراري، يدفعهما إلى تعبيرٍ ملتبس عن مشاعر، أو بقايا مشاعر، منتهية، أو في طريقها إلى الذبول والنسيان. كما يلمس كيفية التعامل مُجدّداً مع الآخر والمحيط والمستقبل. في حالتهما، يكون التواصل غير لفظي، أو بنبرات هادئة هامسة، أو بصمت، غالباً. المثير للانتباه أنّ الاتصال الجنسي لا يزال قوياً، والرغبة الحسّية لم تخفت، رغم انتفاء القبلات أو لقاء الوجهين.

يتمحور "النهر" ـ المشارك في المسابقة الرئيسية للدورة الـ74 (4 ـ 14 أغسطس/آب 2021) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي" ـ حول علاقة لا يُعرف عنها الكثير، بل تُستشفّ تمزّقاتها عبر تحديقاتٍ غير مريحة بين الحبيبين، أو الزوجين السابقين، وعبر الصمت الطويل والممتد. رغم أنهما، كما يبدو، التقيا لمعالجة أخيرة لبعض المشكلات، أو لسماع كلمة وداع نهائية، أو لمجرّد شعور برغبة حارقة. المؤكّد أنّ شيئاً ما سيحدث، في مكان ما حولهما، لكنّهما لا يدركانه، ولا أحد يُدركه أيضاً.

الشيء الوحيد، الذي يتواصل معه غسان سلهب جيداً، شعورٌ عام بالغموض والخوف. كذلك، طرحه الفني الجيّد للتوتر والخيبة والضياع واليأس، ولثقل علاقات وروابط، شخصية وعامة، تُرهق حبيبين، وبلد بأكمله.

المساهمون