تواصل القناة الأولى الروسية، منذ يوم الجمعة الماضي، عرض حلقات مسلسل الجواسيس الأسطوري السوفييتي "17 لحظة من الربيع"، من إخراج المخرجة الراحلة تاتيانا ليوزنوفا، وإنتاج استديو غوركي، وذلك بمناسبة ذكرى مرور 50 عاماً على عرضه الأول في أغسطس/ آب عام 1973، حيث كان يصل عدد مشاهديه إلى 80 مليوناً وتخلو شوارع المدن السوفييتية من المارة في أوقات عرضه.
تدور أحداث المسلسل، المكون من 12 حلقة، في الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية (1939 ــ 1945)، في ألمانيا وسويسرا، حين كانت أشهر قليلة تفصل العالم عن نصر الحلفاء بقيادة الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا على ألمانيا النازية وانتهاء الحرب الأكثر دموية في القرن العشرين.
يتلقى بطل الفيلم ضابط المخابرات السوفييتي مكسيم إيساييف، المزروع في الجهاز المركزي للأمن الألماني تحت اسم "ماكس أوتو فون شتيرليتس"، والذي أدى دوره نجم السينما السوفييتية فياتشيسلاف تيخونوف (1928 ــ 2009)، تكليفاً لمعرفة مَن مِن بين القيادة العليا للرايخ الثالث يجري مفاوضات منفصلة بشأن التوصل إلى اتفاق هدنة مع بريطانيا والولايات المتحدة.
تتخلل ذلك سلسلة من المغامرات يتعرض لها شتيرليتس، وسط توجس الاستخبارات الألمانية المضادة وفقدانه الاتصال مع موسكو، بعد وقوع معاونته للاتصال اللاسلكي كاترين إيفين بين أيدي الشرطة السرية الألمانية (غيستابو) وتعرضها لضغوط بالغة تصل إلى حد التهديد بقتل طفلها الرضيع.
ومع ذلك، لا يخلو مسلسل الجواسيس من الرومانسية مثل مشهد مؤثر للقاء صامت قصير بين شتيرليتس وزوجته جالسين على مائدتين مختلفتين نظم لهما في أحد المطاعم من دون تبادل أي حديث بينهما لعدم إثارة أي شبهات، فيما تزيد النغمة الموسيقية الحزينة، من تأليف الملحن السوفييتي الراحل ميخائيل تاريفيردييف، المصاحبة للقطات، من رومانسية المشهد.
ونظراً للشعبية الكبيرة التي حظي بها شتيرليتس في الاتحاد السوفييتي، بات هناك كثيرون يظنون شخصيته مستوحاة من شخصية استخباراتية حقيقية زرعها الاتحاد السوفييتي في ألمانيا النازية، وسط انتشار مختلف الروايات حول هوية الشخصية الحقيقية الأقرب للنسخة السوفييتية من عميل الاستخبارات البريطانية "جيمس بوند".
إلى ذلك، يشير رئيس النادي الأوراسي للتحليل في موسكو، الخبير في تاريخ المخابرات والتجسس نيكيتا ميندكوفيتش، إلى أن مسلسل "17 لحظة من الربيع" يتناول أحداثاً تاريخية حقيقية وقعت في نهاية الحرب العالمية الثانية، موضحا في الوقت نفسه أن شتيرليتس لم يكن شخصية حقيقية.
ويقول ميندكوفيتش، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "الأحداث الرئيسية للمسلسل لها قاعدة حقيقية، إذ إن قسماً من القيادة الألمانية حاول عام 1945 إجراء مفاوضات منفصلة مع الولايات المتحدة، والاستخبارات السوفييتية كانت على علم بذلك عبر شبكة من العملاء، ولكن لم تكن هناك شخصية موحدة مثل شتيرليتس، والشخص الحقيقي الأقرب إليه هو ويلي ليمان، الذي عمل في ألمانيا خلال الفترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وفي بدايتها".
ومن اللافت أن الاستخبارات السوفييتية حافظت لعقود طويلة على سرية اسم ليمان الملقب لدى المخابرات السوفييتية كعميل "برايتينباخ". كان موظفاً في جهاز "غيستابو"، وكشف عن التاريخ الدقيق لهجوم زعيم ألمانيا النازية أدولف هتلر على الاتحاد السوفييتي، في 22 يونيو/ حزيران عام 1941، قبل فقدان الاتصال به ومصرعه في ظروف غامضة عام 1942.
وعلى ضوء شعبية شخصية شتيرليتس بين سكان الاتحاد السوفييتي ودورها الأيديولوجي في تمجيد أفراد الاستخبارات في الوعي المجتمعي، أثيرت تساؤلات حول مساهمتها في صعود الضابط السابق في جهاز الأمن السوفييتي "كي جي بي" فلاديمير بوتين، والذي خدم في ألمانيا أيضاً، إلى السلطة في روسيا عام 2000.
إلا أن ميندكوفيتش يقلل من أهمية مثل هذه المزاعم، قائلاً: "في سبعينيات القرن الماضي، حرصت الاستخبارات السوفييتية على تحسين صورتها، عبر مجموعة من الأعمال الفنية والتلفزيونية، وربما تكون قد ساهمت في حسم فلاديمير بوتين خياره للالتحاق بكي جي بي"، لكن "رواية صعوده إلى السلطة بفضل شتيرليتس تنطوي على مبالغة".
ومن اللافت أن بوتين الذي ولد عام 1952 كان يبلغ من العمر 21 عاماً وقت عرض المسلسل، والتحق بـ"كي جي بي" عقب تخرجه من كلية القانون في جامعة لينينغراد عام 1975.
وبصرف النظر عن دوره في التطورات السياسية في روسيا ما بعد السوفييتية، يبقى "17 لحظة من الربيع" من بين الأعمال التلفزيونية السوفييتية الأكثر شعبية بين الروس حتى الآن، إذ حظيت حلقاته بملايين المشاهدات على "يوتيوب". وإلى جانب إعادة عرض المسلسل في ذكراه الـ50، يقدم التلفزيون الروسي مجموعة من البرامج الوثائقية تتناول ملابسات تصوير حلقاته وسياقه التاريخي والسينمائي