وسام شرف: "الحبّ ملجأ وحيد لشخصياتي في هذا البلد القاسي"

06 ديسمبر 2022
وسام شرف: لم أتعمّق في العنصرية لتعاملي مع فقدان الإنسانية (الملف الصحافي)
+ الخط -

وسام شرف (1973) مخرج ومُصوّر لبناني فرنسي، بدأ العمل مع شبكة "آرتي" الفرنسية الألمانية، عام 1998، مُصوّرا إخباريا ومُحرّرا وصحافيا. منذ ذلك الحين، غطى مناطق صراع، كلبنان ودول في الشرق الأدنى وكوريا الشمالية وأفغانستان ودارفور وهايتي. أخرج 6 أفلام قصيرة، أولها "هزّ يا وزّ" (2004)، ثم "البطل لا يموت أبداً" (2006) و"جيش النمل" (2007) و"كلّ هذا وأكثر" (2012)، الفائز بجائزة "التانيت البرونزي" في الدورة الـ24 (16 ـ 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2012) لـ"أيام قرطاج السينمائية".

بعد فيلمه الروائي الأول "من السماء" (2016)، حقّق شرف "حديد، نحاس، بطاريّات" (2022)، المُشارك في قسم "لقاء الجيران" التنافسي، في الدورة الـ63 (3 ـ 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"مهرجان سالونيك السينمائي الدولي": نظرة سوداوية ساخرة عن مجتمع عنصري، عبر قصّة حبّ يائس بين لاجئ سوري (أحمد)، يعمل في بيع الخردة وشرائها، وعاملة منزل إثيوبية (مهديّة) في بيروت.

بعيداً عن مبالغات عاطفية، وإلقاء خطب ودروس، يتوغّل الفيلم في المجتمع اللبناني البورجوازي، وفي طبقات اجتماعية مهمّشة، لتقديم صورة ساحرة جديدة، يمتزج فيها الواقعي بشيءٍ من الخيال.

رغم قتامة المشهد، تردّدت ضحكاتٌ في صالة العرض، أثارتها عبثية بعض المواقف، ما دعا مُشاهداً إلى سؤال شرف عن اللجوء إلى الهزل أمام المأساة، فردّ عليه قائلاً إنّها وسيلته، فليس أمام من يرى أموراً على هذه الفجاجة والفظاعة "إلا السخرية أحياناً، حتّى لا يصبح مجنوناً".

في لقاء "العربي الجديد" معه، دعتْ صدفة إلى ذكر حادثة طريفة عن العمل الصحافي، ما أدّى إلى قلب ترتيب الأسئلة المُعدّة، لتسير على نحو عفويّ.

 

(*) يثير مشهد لقاء تلفزيوني لصحافيّة غربيّة مع مهديّة، الممدّدة على سرير في مستوصف لمخيم اللاجئين، ضحكاً وسخريّة، لما يبديه من سذاجة الصحافية في تصديقها كلّ ما تسمع، وفي أسلوبها في الحوار. لماذا أظهرتَها مع زميلها المُصوّر على هذا القدر من البساطة، بل الغباء؟

في عملي الصحافي، صادفت وأصادف صحافيين كثيرين، معظمهم يعملون على مواضيع لا يلمّون بها، ولا يدركونها، لكنّهم يرغبون في الكتابة عنها. كنت مرة في مستشفى بطرابلس (شمالي لبنان ـ المُحرّر). فجأة، هبط صحافيّون غربيون، بدوا تائهين، يُصدّقون كلّ ما يقال لهم. هذا المشهد بقي في بالي، ورغبتُ في إدراجه في فيلم لي. هذا حصل كما ظهر في الفيلم، حيث تأثّرت الصحافية لمجرّد أنّها رأت مهديّة تبكي، وكانت تصدّق ما يرويه أحمد عنها، فيما كان يُحوّر كلّ أقوالها. هناك تأثّر، مجرّد تأثّر لدى هؤلاء الصحافيين. أما محتوى كتاباتهم، ففارغ. عملي 20 عاماً في الصحافة، وترحالي الدائم في شتّى الأرجاء، وكما يقال "لم أترك شيئاً من شرّي"، مَنَحاني رؤية شخصية عن مهنتي.

في مشهدٍ آخر، يُلقي عمّار (عمّار عبد ربّه، مبعوث الأمم المتحدة في مخيم للاجئين ـ المُحرّر) خطبة عبثية عن الأمل أمام أطفال اللاجئين. صادفتُ شيئاً كهذا حين استمعتُ إلى مبعوث كوفي عنان في مخيم للاجئين في دارفور. سجّلتُ حينذاك خطابه بالكامل، وأصبح مشهداً في "حديد، نحاس، بطاريّات". يستقلّ هؤلاء المبعوثون سيارات فخمة، تُطعِمُ أثمانها آلاف اللاجئين، ويزورون بها أناساً يموتون جوعاً في المخيّمات، ليُسمعونهم رسائل أمل.

 

(*) الأمل. أصررتَ على فكرة "اليأس" في الفيلم، إلى أنْ سألتْكَ مُشاهدة عن أملٍ يبعثه المشهد الأخير.

في المشهد الأخير عبثية تُذكّر بالممثل الفرنسي لوي دو فونيس في مشهدٍ من "الجندرمة وسكان الفضاء" (1979، لجان جيرو ـ المُحرّر). ربما هناك أمل. وصل أحمد ومهديّة، أخيراً، إلى القارب. لكنْ، بأي ثمن؟ أحياناً، تتيح أسئلة صحافيين بعد عرض الفيلم تحليلَ بعض ما ورد فيه. تذكّرتُ مثلاً شعراً لمحمود درويش، غنّته ماجدة الرومي في حفلة حضرتها في "المدينة الرياضية" في بيروت. فيها ما معناه أنّ مقاتلاً وقعت ذراعه على أرض المعركة، فالتقطها وضرب بها أعداءه (قصيدة "أشلاؤنا أسماؤنا" ـ المُحرّر). في الفيلم، يسير أحمد مع مهديّة باتجاه القارب، وسيبقى التساؤل: هل سيترك ذراعه المتحوّلة إلى معدن، التي سقطت أرضاً، بما تُجسّدُه كتعبيرٍ عن ماضٍ رحل، والاستعداد لمستقبل مقبل؟ أمّ يلمّها ويتابع، حاملاً إياها كلعنة تلاحقه؟ هناك جدلٌ حول هذا المشهد في فريق العمل، إلى درجة جعلتني أصوّر الاحتمالين، ولاحقاً اخترتُ أحدهما: اللجوء إلى أسلوب الهزل الساخر. إمّا ينفر الناس منه فوراً، أو يحبّونه. لا حلّ وسط.

هذا فيلم حزين يائس، لكنّه مُثير للضحك. لا نهاية محدّدة المعالم له، لا سوداء ولا بيضاء. من يريد رؤية الأمل، وجود الباخرة يدعم موقفه. ومن يريد رؤية اليأس، يجد ما يدفعه إليه. مع هذه الذراع التي تقع، أريد للمُشاهد أنْ يفتح قلبه ويختار. هذه مسؤولية المخرج.

 

(*) لكنْ، ما الذي دفعك إلى اختيار هذا الجانب الخيالي: ذراعٌ تتحوّل تدريجياً إلى معدن؟ ألا يكفي الواقع بما فيه من عبث؟

لا يكفيني. السينما الواقعية موجودة، وتعبّر عن كلّ عذابات العالم، وليس علينا سوى إخراج المحارم الورقية ومسح الدموع. أجدُ في هذا سهولة ورُخصاً. هناك مأساة السوريين، يا لها من فكرة حسنة، لنعمل عنهم أفلاماً. إنّه المستوى الأول والأسهل: إبكاء الناس أمام شقاء الآخرين. كثيرون حقّقوا ذلك، وربما هم أفضل منّي. لكنّي فضّلتُ شيئاً من الروحانية والرمزية، ومعهما الخيال. فضّلتُ شيئاً لا يحدث في الحياة العادية. هذا الإنسان المُصاب في الحرب السورية يُفترض به أنْ يموت، ويتحوّل إلى رماد. لكنّه هنا تحوّل إلى حديد، الشظايا تأكل جسده شيئاً فشيئاً. بعض هذا مستوحى من تجربة أليمة في حياتي.

 

 

(*) هل يُمكن أنْ تذكرَها؟

عام 1982، كان عمري 9 أعوام، انفجرتْ فيّ قنبلة عنقودية إسرائيلية، بقيت شظاياها في جسدي إلى اليوم. عام 2020، أصبْتُ في انفجار مرفأ بيروت، وأجريتْ لي 70 قطبة في ظهري. هذا الجسد المخترق بالمعادن ليس غريباً عليّ. تحوّل إلى فكرة سينمائية. في فيلمي الأول "من السماء"، يعود أخوان إلى العيش معاً، بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وتُطلق النار على أحدهما لكنّه لا يموت. إنّها طريقتي في سرد أحداث واقعيّة. آخذُها، ثم أفجّرها (يضحك). ما الفائدة، إنْ لم أقدّم جديداً؟ على المخرج الابتكار قليلاً، والخروج من التقليد.

 

(*) إذا كان الجسد المُصاب بالشظايا/المعادن فكرة استوحيتها مما أصابك، فماذا عن قصة الحبّ؟ هل هي حادثة معينة صادفتها؟

حين بدأت الحرب في سورية، بتنا نشاهد شباباً سوريين في أحيائنا البرجوازية في بيروت، يلفّون الشوارع طوال النهار، وهم ينادون "حديد نحاس بطاريّات"، يجمعونها من البيوت لبيعها، وليست لديهم إلا أذرعهم للعمل. يمشون بلا نهاية، في الحرّ اللاهب لبيروت. رأيتُ فيهم أطلس وسيزيف، بَطَلَي الميثولوجيا الإغريقية. من جهة أخرى، كانت العاملات الإثيوبيات يمشين في الشوارع نفسها، وهنّ يسندن رجالاً عجائز، وتبدو أجسامهنّ الرقيقة على وشك الانكسار من عبءٍ ثقيل. جاءتني فكرة ربط الحالتين. ومع أنّ كل حالة تستحق بمفردها فيلماً، أردتُ هذا الربط بينهما عبر قصة حبّ بين شخصين. إنّه أحسن سلاح ضد شقاء الوضع، والملجأ الوحيد في هذا البلد القاسي عليهما.

 

(*) هل اختيارك شخصين غاية في الجمال لتأدية أحمد ومهديّة جاء صدفة؟ كيف وصلت إليهما؟

كأنّي أقول ليس لأنّهما فقيران مسكينان يجب أنْ يكونا بشعين. الوصول إليهما شاقٌّ. ما لفت نظري فيهما ليس الجمال، بل نظرة العيون. جذبني ما فيها من حزن. في البدء، وجدت أحمد، زياد جلّاد الممثل المصري اللبناني. أحضرتُ له مدرّباً لتعليمه نطق عبارة النداء في الفيلم: حديد نحاس بطاريات. الصعوبة الحقيقية كامنة في العثور على مهديّة، كلارا كوتور، لأنّ التصوير سيتمّ في كورسيكا. كيف أجد إثيوبية تحكي لهجة لبنانية هناك؟ بحثنا في مصر وكل أوروبا، لكنّه كان كالبحث عن إبرة في كومة قشّ. لم نجد ما يناسب، فعملنا "كاستنغ" لإثيوبيات في فرنسا، ووجدنا كلارا، الفرنسية ذات الأصل الإثيوبي. بدأتْ تتعلّم اللهجة، وحفظت الحوار في شهرين. هي ممثلة، عملت في فيلم قصير، ولم تعش في إثيوبيا. كانت مهتمّة بالعودة إلى جذورها، وجرى ذلك بطريقة بشعة، لأنهّا شهدت كيف يتعامل اللبنانيون مع أبناء جنسها، مع أنّ دارينا الجندي (ربّة المنزل الذي تعمل فيه مهديّة ـ المحرّر) أخبرتها ضاحكة أنّ الأسرة في الفيلم أفضل الموجود. أنا لم أرد التعمّق في العنصرية، بل التعامل مع الشخصيتين كإنسان وإنسانة فَقَدا هويّتهما الإنسانية بسبب الظروف.

 

(*) لِمَ صوّرت في كورسيكا، وليس في لبنان؟

في الفيلم ممثلون سوريون لم يمكن بإمكانهم دخول لبنان لأسبابٍ عدّة. صوّرت 10 بالمئة منه في لبنان، أي كلّ المناظر الخارجية التي جرت في الأشرفية ومخيم القاع على الحدود السورية. سمح لنا هذا بالاقتراب من أولاد المخيم، وأصبحت بيننا علاقة ودية. الأكثر تأثّراً بحالتهم، رامي (صديق أحمد المُصاب في الحرب، في الفيلم ـ المحرّر)، إذْ كانت المرة الأولى التي يعيش فيها أوضاعهم.

 

(*) لم تكن ليّناً مع البطلين. أظهرتَ جوانب سيئة ومكروهة في شخصيتيهما. هي تبصق في قهوة سيّدتها، وهو يكذب ويسرق.

ليسا ملاكين. لإظهار إنسانيّتهما، يجب أنْ تختلط في شخصية كلّ منهما ملامح الملاك والشيطان، أو الملح والعسل. أحمد يفعل ذلك ليبقى حيّاً هو ومهديّة، وليس لأنّه شرير.

 

(*) أدخلتَ شخصيات في الفيلم، وجعلتها تتصرّف بشكلٍ غريب، كالعجوز (رفعت طربيه) بجنونه وثوبه الأصفر، والخادمة البنغلاديشية، التي تتحدّث لغة لا يفهمها أحد، فكان مشهد صراخ الخادمتين وحوارهما كحوار الطرشان مُثيراً للضحك والحزن في آنٍ واحد.

اعتمدتُ كوميديا الموقف، وأردتُ أنْ يبدو البيت كبرج بابل، لا أحد يفهم فيه على أحد. المشهد المذكور للإحساس بعذاب الشخصيات وخوفها. إنّهما شابتان تعيشان رعباً. مهديّة تخشى الطرد، والبنغلاديشية المجهول. أردتُ أنْ أظهر عنصرية اللبنانيين ونظرتهم إلى الخادمة بالتسمية التي أطلقتها السيدة (دارينا الجندي) على الخادمة البنغلاديشية، "كوسوما"، التي تُعدّ شتيمة في لبنان. كلّ هذه الحوادث عاودتني، لعيشي إياها يومياً منذ 30 عاماً في البلد.

أما العجوز، فأنا أحبّ كبار السنّ، وأحبّ التحدّث معهم. يذّكروني بعائلتي. نتقبّل كلّ شيء منهم، وهم ينتظرون هذا منّا. رفعت طربيه ممثلٌ له حضور قوي، فرض وجوده، كأنّ الفيلم عنه هو بالذات.

 

(*) تعمل في مجالات عدّة، فأيّها أحبّ إليك؟

السينما طبعاً. لكنْ، لدي 3 أولاد، ولا أريد أنْ أبقى فقيراً. هذا ثالث فيلم لي، وفي كلّ مرة أبدأ من الصفر.

المساهمون