منذ اللحظة الأولى، صُوّر العدوان على غزة بكل تفاصيله، وحُمّلت صوره ومشاهده على وسائل التواصل من دون فلترة. وهو ما لم يبد مستغرباً، إذ أدى ظهور مواقع التواصل إلى تغيير جذري في كيفية تفاعل البشر مع الحروب، بعدما أصبح الوصول إلى لقطات المعاناة الإنسانية أكثر سهولة من أي وقت مضى.
تجربة حيّة
تنقل النسخة الإنكليزية من موقع "العربي الجديد" عن الأستاذ المشارك في معهد الدفاع السويدي، ماثيو فورد، أن "كل ما نشاهده هو بوساطة التكنولوجيا الرقمية، عن طريق الرقمنة، عن طريق الوسائط الرقمية بطريقة أو بأخرى. لا يمكنك الفصل بين التناظري والرقمي، فهما مندمجان نوعاً ما".
إن نتيجة هذه التجربة الحياتية الرقمية ونقلها للحروب عبر وسائل التواصل هي ما أطلق عليه فورد وزميله في جامعة غلاسكو، البروفيسور أندرو هوسكينز، اسم "إيكولوجيا الحرب الجديدة".
يقول فورد إنها تجربة حية حيث لدينا "أجهزة متصلة رقمياً، وتقنيات متصلة، ويدور العنف السياسي والحرب من حولنا". وكجزء من هذا الارتباط، أصبح الأشخاص الأكثر بعداً عن الحرب أقرب إلى مشاهدتها من أي وقت مضى، والجميع، بمن في ذلك المدنيون، مشاركون عبر وسائل التواصل.
بالنسبة لفورد، كان هذا واضحاً بشكل صارخ في أوكرانيا، إذ تقوم الوحدات العسكرية الأوكرانية، في محاولة لإظهار كيفية قتالها في ساحة المعركة، بتصوير مقاطع فيديو، ووضع علامة مائية للشعار، وتحريرها، وتحميلها على الإنترنت، مما يمكّن الأشخاص من مشاهدة لقطات للقتال، بينما يراجع باحثون مستقلون الخسائر ويجمعون البيانات مفتوحة المصدر.
بداية التغيير من سورية
كل هذا ليس جديداً، فمشاهدة الحروب مباشرة باتت أمراً معتاداً في القرن الحادي والعشرين. لنأخذ على سبيل المثال الثورة السورية. في البداية، انتشرت مقاطع فيديو لقمع النظام للاحتجاجات في البلاد. وبعد فترة وجيزة، ظهرت مقاطع فيديو لانشقاق عناصر من الجيش السوري، ثم بدأت لقطات المعارك والمواجهات والتظاهرات تتدفّق عبر مختلف المنصات، خصوصاً "يوتيوب".
وفي "تويتر" (إكس لاحقاً) رسم المستخدمون خرائط للخطوط الأمامية من المواجهات في حمص وحلب وغيرها وحدّثوها بانتظام، بينما شارك آخرون معارك السيطرة على الأكاديمية العسكرية.
وسائل التواصل تبث الحرب على الهواء
لكن في السنوات الأولى للثورة السورية، كان البث المباشر نادراً، فكانت اللقطات تبث بعد ساعات من حدوثها، وهو ما تطوّر في السنوات اللاحقة، وصولاً إلى الحرب الروسية في أوكرانيا، حيث بات البث المباشر جزءاً أساسياً من الحرب الإعلامية.
يعد البث المباشر أيضاً جزءاً من بيئة الحرب الجديدة لأنه "أزال طبقة أخرى من الانفصال" عن الأحداث، كما يقول مدير جمع المعلومات مفتوحة المصدر في معهد نيو لاينز، آرام شعبانيان. ويوضح "لم نعد نعتمد على الشبكات التلفزيونية لتقدّم لنا البث المباشر"، كما فعلت عندما قصفت الولايات المتحدة بغداد عام 2003، "الآن يمكننا البحث عنه ومشاهدته بإسهاب في الوقت الحقيقي".
أكثر واقعية أكثر قساوة
ما سبق جزء من تفكك أوسع نطاقاً لسيطرة وسائل الإعلام الرئيسية على الأخبار. فمثلاً العدوان على غزة يُبّث لحظة بلحظة على "إكس" و"إنستغرام" من دون الحاجة إلى القنوات الإخبارية التقليدية. يقول شعبانيان إن اللقطات الأولية التي لم تخضع لتعديل تجعل من الحرب أكثر واقعية.
لكن المشاهدة مباشرة عبر الإنترنت تعني مشاهد أقسى وأكثر رعباً وبلا فلترة. وهو ما يحصل مع المجازر الإسرائيلية المتواصلة في غزة، سواء بعد قصف المستشفى المعمداني، أو في استهداف المدنيين في شمال القطاع بداية ثم في مختلف المناطق. فظائع بلا فلتر لا يمكن منعها.