وثائقيات في "إدفا": أسئلة الفرد مطروحة سينمائياً

10 يناير 2022
"فلسطين الصغرى" لعبدالله الخطيب: رصدٌ وثائقي للخراب والموت (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يُعدّ "مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية" أكبر مهرجان سنوي للأفلام الوثائقية في العالم، يُعقَد منذ عام 1988. في 12 يوماً، يعرض المهرجان ـ الذي يُختَصَر اسمه بـ"إدفا" ـ بين 250 و300 فيلمٍ، بأنواع ومواضيع ولغات مختلفة، كاختلاف مدّة كلّ واحد منها. المهرجان، المنعقدة دورته الـ34 بين 17 و27 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، نجح ـ رغم القيود المفروضة، وقبل الإغلاق الشامل في هولندا ـ في المرور بدورته إلى برّ الأمان، مع أنّ أرقام هذه الدورة لا تُقارن بأرقام الأعوام السابقة، إذْ يبيع المهرجان عادةً، خاصّة في الأعوام الأخيرة، تذاكر يتجاوز عددها ربع مليون تذكرة، ويحضره نحو 300 ألف مُشاهد.

في أقسام المهرجان المتعدّدة، فاز الفيتنامي "أطفال الضباب"، للمخرجة ديم ها لي، بجائزة أفضل إخراج، في المسابقة الدولية. يُعدّ الفيلم دراسة شخصية وإثنوغرافية مُقرَّبَة، استغرقت 3 أعوام، توفّر رؤية نادرة ومتخصّصة وصادقة عن سكّان "مونغ"، القاطنين في جبال الشمال الفيتنامية. يشيع بين "مونغ" اختطاف العريس لفتاته في سنّ صغيرة، ما يعني رغبته في الزواج بها. تُركّز الأحداث على الفتاة الصغيرة دي (12 عاماً)، وكفاحها ضد مسار محدّد لها مُسبقاً، إذْ تزوّجت والدتها وأختها الكبرى "لا" في سنّ المراهقة الباكرة. (تبلغ "لا" الآن 17 عاماً، وحامل بطفلها الثاني). في تلك البقعة الجبلية المعزولة، يُعتبر زواج القاصرات عادة محلية راسخة منذ أمد طويل. رغم أنّ زواج القاصرات غير قانوني في فيتنام، تتزوّج فتيات "مونغ"، اللواتي لا تتجاوز أعمارهنّ 14 عاماً، ويؤسّسن عائلات.

 

سير أفرادٍ وجماعات

في بداية الفيلم، كانت دي تبلغ 11 عاماً. مُراهقة تلهو وتلعب وتعمل في الحقول، وتدرس أحياناً. بعد البلوغ مباشرة، تُخطَف من المُراهق فانغ، الذي تُصرّ عائلته على زواجهما فوراً. عندها، تصبح نغمة الفيلم أكثر قتامة، مع مفاوضات مُكثّفة بين العائلتين، والرغبة في المحافظة على العادات والتزامها، خاصة بعد رفض دي الزواج رفضاً مُطلقاً. في الواقع، لا يملك أيّ فرد من أفراد المجتمع، ذكراً أو أنثى، الوسائل أو الفرص للانقلاب على التقاليد، التي يبدو أنّها مكروهة من الأجيال الجديدة.

في فيلمها الأول، نجحت ديم ها لي في توثيق محنة دي، التي تتنازعها رغبة في التعليم والحياة خارج القرية، وضغوط القيم الثقافية، التي تنظر إلى الشابات على أنهنّ سلع تُباع بمهور عالية. هذا في دراما وثائقية مُقنعة ومهمّة، لم تُرصد فيها الصورة من بعيد، إذْ تورّطت المخرجة شخصياً في القصّة، أقلّه بتوثيق أحداثها. تتوق دي إلى حياة بعيدة عن الجبال. لكنْ، في ظلّ الأوضاع الراهنة، يصعب تبيان كيفية تحوّل حلمها إلى حقيقة.

في قسم "أساتذة"، تُعرض أهمّ أفلام العام، التي يُنجزها أساتذة، أو روّاد الإخراج الوثائقي المعاصرين، منها "أتلانتيك"، للإيطالي يوري أنكاراني، عن فترة حرجة في حياة الشاب الانطوائي المنعزل أنيلي، الذي يعيش طول الوقت في قاربه البخاري، ويقطن إحدى الجزر المعزولة في فينيسيا، والمصير المؤلم الذي يلقاه في النهاية. هناك أيضاً فيلم السيرة الحياتية "أنِّيُو" لجوزيبّي تورناتوري: قصيدة حبّ وتقدير من تورناتوري للموسيقي العبقري الراحل أنّيُو مورّيكوني (1928 ـ 2020). في 156 دقيقة، استعرض الفيلم لحظاتٍ فارقة في حياة الموسيقيّ، إنساناً ومُلحّناً عالمياً ذائع الصيت، وقدَّمَ شهادات مهمّة لكثيرين عملوا معه، واحتكوا به عن قرب.

أمّا "الإبحار في الجبال"، فيسرد سيرة عائلة مخرجه، البرازيلي كريم عينوز، في رحلة بصرية آسرة ومؤثّرة في أفكاره ومشاعره وهواجسه، مغامراً في زيارة الجزائر، بلد والده. يرى عينوز الجزائر للمرّة الأولى في يناير/كانون الثاني 2019. بلد الأب الذي لم يلتقه أبداً، والمولود في أعالي جبال الأطلس، في منطقة القبائل. رحلة، يكون فيها عينوز غير متأكد مما سيجده، لكنّه يعتقد أنّ هناك إجابات عن أسئلة كثيرة لديه. والدته إيراسيما، الراحلة مؤخّراً، انفصلت عن والده عندما كانت حاملاً به. انضمّ الوالد إلى الثورة الجزائرية، ولم يلتق الابنُ أباه إطلاقاً، باستثناء اتصالات هاتفيّة، آخرها قبيل سفر المخرج إلى الجزائر.

يتساءل كريم عينوز كيف كان يُمكن لحياته أنْ تكون عليها لو نشأ في الجزائر؟ كيف كان والده وأقاربه؟ هل يشبههم؟ أساساً: كيف تبدو الجزائر؟ هل تُشبه البرازيل، حيث ولد؟ هناك أسئلة أخرى أيضاً، تتعلّق بالغربة والمكان والهوية، تُلحّ عليه، فيكشف معظمها عبر تعليقٍ صوتي، مُوجّه ـ على شكل خطاب وهمي ـ إلى والدته الراحلة. في الفيلم تغييرات في لوحة الألوان، وحبيبات الصور، والفلاتر، وتطعيم لمواد أرشيفية، تتيح للمخرج إلقاء نظرة على تاريخ الجزائر، وسرد مختصرٍ عن معركة الاستقلال والديمقراطية، من دون الخوض في تفاصيل كثيرة عن ويلات الحكم الاستعماري الفرنسي، واضطهاد الماضي، وثقله وقسوته ودمويّته على الراهن.

من جهته، يروي الفرنسي جان غابرييل بَريو، في "العودة إلى رَنْس (مقاطع)" ـ عبر أطنان من المواد الوثائقية، وبتعليق سردي ذكي للغاية بصوت الممثلة أديل إنِلْ، وتوظيف هائل للمونتاج (جان ـ غبريال بيريو) ـ جوانب مهمّة جداً من تاريخ الطبقة العاملة الفرنسية، من أوائل خمسينيات القرن الـ20 إلى الآن. فيلم موجع وصادق للغاية، عن الآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومدى الفقر والجوع والبؤس الذي كانت عليه فرنسا وعمّالها، ومُكابدة هذه الطبقة للحصول على معظم مكتسباتها الراهنة، عبر قوانين إنسانية، راسخة ومصانة قدر الإمكان.

 

 

مآزق الراهن

في قسم "تخيّل"، المُكرّس للأعمال الفنية الإبداعية والمبتكرة، فاز "أخبطوط"، للبناني كريم قاسم، بجائزته الأولى: صورة صادقة وموجعة عن الواقع الأليم لبيروت بعد انفجار مرفأها في 4 أغسطس /آب 2020. كما نال "جلد"، للبرازيلي ماركوس بيمينتل، "إشادة خاصة" من لجنة التحكيم: رصدٌ بارع وبناء متماسك للغاية، ومن دون كلمة واحدة، لتفاعلات سكّان المدن البرازيلية، السياسية والرومانسية والاجتماعية والاقتصادية، المُعبَّر عنها ـ بحرية وابتكار ومهارة ـ برسومات جدران المدن، وبعضها رموز لا تُفسَّر، وشعارات وأفكار سياسية وإعلانات حبّ وشظايا ذاكرة وصراخ صامت، تكشف كلّها ـ بصدق وحزن ـ رغباتٍ ومخاوف وأوهاماً وأحلام يقظة، وانتفاضات وثورات وإجهاضات.

يُكرّس قسم "أفضل ما في المهرجانات" برنامجه لاستعراض أكبر عددٍ من الأفلام، من مختلف المهرجانات الوثائقية الدولية، أو المُبرمجة في مهرجانات رئيسية كبرى، فازت غالباً بجوائز مهمّة. منها "خنادق"، للصحفي الحربي والمخرج الفرنسي لو بورو: بالأسود والأبيض، تدور أحداثه في إقليم دونباس في أوكرانيا. بينما يتفاوض الدبلوماسيون على هدنات ووقف إطلاق نار محفوف بالمخاطر، يقاتل الأوكرانيون الشباب ضد الانفصاليين، المدعومين من روسيا. ينقل المخرجُ الواقعَ اليوميّ من قلب الخنادق، على خط النار، حيث يقاتل رجال ونساء في الخطوط الأمامية، ويُفرض عليهم حفر الخنادق والعيش فيها، بينما تستمر القنابل في التساقط عليهم.

إلى نوعٍ آخر من الحرب والقتال، تذهب الهندية بايال كباديا، في "ليلة الجهل بكل شيء"، عبر دفتر مذكرات عُثر عليه في خزانة في "معهد السينما والتلفزيون" في نيودلهي، يضمّ رسائل غرامية بين فتاة تُدعى "إل" وحبيبها. بفضل الرسائل، تنكشف فترة اضطرابات في المعهد لتحسين الأوضاع. من المعهد وإضراب الطلبة 139 يوماً، تنقل كباديا ـ مستعنية بلقطاتٍ أرشيفية وحيّة سجّلتها مع زملائها ـ لحظاتٍ فارقة في تاريخ الحركة الجامعية في الهند، ضد الظلم والعنصرية والتمييز الطبقي والديني.

يتناول "ترويض الحديقة"، للجورجية سالومي ياشي، حكاية بدزينا إيفانيشفيلي، الملياردير الجورجي ورئيس الوزراء الأسبق، الذي يهوى شراء الأشجار العملاقة والمُعَمِّرة لقرنٍ أو أكثر، ونقلها عبر البحر إلى حديقته الخاصة. من بين أشياء كثيرة، يُلامس الفيلم ـ برهافة ـ التهجير القسري، واقتلاع كلّ ما يمكن شراؤه بالمال. في "سيميائية البلاستيك"، للروماني رادو جود، لمحاتٌ عن حياة البشر، من الولادة إلى الشيخوخة. المثير للانتباه أنّ هذه الحياة لا يجري تمثيلها استعانة ببشرٍ، بل بدمى بلاستيكية مصنوعة يدوياً، ومُكرّسة أساساً كألعاب للأطفال. مادة جرى توظيفها، بشكل ما، في سياق فيلمه الروائي الأخير، "مُضاجعة فاشلة أو بورنو مجنون". لكنّه توسّع فيها، وطوّرها بذكاء ومهارة وفنية، في "سيميائية البلاستيك".

 

تساؤلات وانشغالات

"الضوء كلّه في كل مكان"، للأميركي ثيو أنتوني، استكشافٌ للتاريخ المشترك للكاميرات والأسلحة والشرطة والعدالة. لأنّ تقنيات المراقبة أصبحت عنصراً أساسياً في الحياة اليومية، يستفسر الفيلم عن مدى تعقيد وجهة نظر الموضوعية، برصده نظام مراقبة جويا ذكيا، ابتكرته السطات الأمنية في أميركا للحدّ من العنف والجريمة، إذْ يُزوَّد رجال الشرطة بكاميرات خاصة، كأداةٍ لإدانة المشتبه بهم، أو حمايةً لأنفسهم.

يبدأ "المأوى الأخير"، لعثمان ساماسْكو (مالي)، بمقبرة مرتجلة على حافة مدينة غاو في مالي، جنوب غرب الصحراء. هناك، سكن المدفونون في بيت المهاجرين، الذي يستضيف أمثالهم منذ عقود، وهم في طريقهم إلى الجزائر، على أمل الذهاب إلى أوروبا؛ أو أولئك الذين عادوا بعد محاولة فاشلة في إيجاد مكانهم في الجنة الخيالية للغرب.

 

موقف
التحديثات الحية

 

يُركّز الفيلم على المُراهقتين إستر وكادي (بوركينا فاسو)، الهاربتين من قسوة حياة وعائلة وبلد. يشرح مدير المنزل المخاطر المحدقة، راوياً تجارب شابات أخريات، انتهى بهنّ الأمر ببيعهنّ عبيداً للجنس في الجزائر، أو ما هو أسوأ من ذلك. مَشاهد عدّة قوية، يبرز منها مشهد يُعتبر لحظة عاطفية وإنسانية فاصلة، تصل إلى عمق محنة المهاجرين، وفرصهم الضئيلة في النجاح. إذْ ليس عبور الصحراء، والوصول إلى شمال الجزائر، سهلاً أبداً. يقع كثيرون فريسة احتيال المُهرّبين، أو يتعرّضون للسرقة أو الاغتصاب أو القتل على أيدي جماعات مُسلّحة وقطاع طرق، أو تنظيم القاعدة. في حال النجاة، والتمكن من ركوب قاربٍ إلى أوروبا، هناك تحدّي الغرق، أو الانتهاء في سجن أوروبي، أو في أحسن الأحوال، الإقصاء والتمييز والقيام بأحقر الأعمال، في جنّتهم المتخيلة.

عربياً، هناك "ذاكرتنا لنا"، للسوري رامي فرح، الذي يلتقي فيه مجدّداً بأصدقائه يَدَن دراجي وعدي طلب وراني محمد. على خشبة مسرح في مدينة أوروبية، يستعرضون ويتذكّرون معاً وقائع ما جرى في مدينتهم درعا، عام 2011، قبل أن يتفرّق كلّ واحدٍ منهم في سبيلٍ. يقف الأربعة وهم يشاهدون مئات المقاطع المُصوّرة، ويستعيدون الوقائع بين ضحكاتٍ ودموع وحزن وأسى. هناك 12756 مقطعاً مُصوّراً، تمّ تهريبها على أقراصٍ صلبة من سورية، تخضع حالياً للتجهيز، كي تصبح جزءاً من الأرشيف المفتوح لـ"جامعة بيرمنغهام سيتي". الفيلم مهدى إلى ذكرى الصحافيين والأسرى في سجون النظام السوري.

في "فلسطين الصغرى: يوميات حصار"، للفلسطيني عبدالله الخطيب، رصدٌ ـ يمتدّ بين عامي 2013 و2015 ـ ليوميات "مخيم اليرموك" في دمشق، الذي يؤوي أكبر تجمّع للشتات الفلسطيني في العالم، وذلك بعد أنْ حاصره نظام الأسد، الذي منع الأهالي من الدخول أو الخروج، وقَطَع المياه والكهرباء والغذاء والدواء عنهم. معاناة يومية للسكّان والمرضى، بحثاً عن دواء ومياه وطعام في المخيم، رصدها الخطيب عن كثب، من خلال تنقّلات والدته الممرضة، أم محمود، بين الأهالي. أهدى المخرج فيلمه إلى 181 من السكّان الذين ماتوا جوعاً في الحصار، وإلى غيرهم من شهداء الواجب والمسجونين وأهالي المخيم، الذين تشرّدوا في العالم بعد تدميره، ومنع السكان من العودة إليه.

المساهمون