أفلامٌ عربية عدّة تُعرض في النسخة الـ9 (1 ـ 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022) لـ"أيام فلسطين السينمائية". تنويعات درامية وجمالية، بعضها يوازن بين نصّ يعاين مسائل وحالات وانفعالات، وأشكالٍ بصرية تتوافق والشرط الفني للصورة السينمائية. بعضها الآخر يغلب النصُّ فيه الشكلَ والاشتغال، لما فيه من ثقل إنساني وثقافي وأخلاقي، في مقاربته السجالية اجتماعاً وسلوكاً وتربية.
التوثيق السينمائي حاضرٌ أيضاً، وبعضه يعود إلى ماضٍ مليء بما يُحرِّض على ابتكار إطار بصري، يعكس وقائع عيش، وأنماط حياة، وجمالية صُور فوتوغرافية (بالأسود والأبيض) عن تلك الوقائع والأنماط. بعضه الآخر يستلّ من راهنٍ قريبٍ لحظاتٍ يعيشها أفرادٌ، فيروون أمام الكاميرا نتفاً منها (اللحظات). الذاتيّ أساسيّ، وثورة ـ يُحوّلها طاغية إلى حربِ قتلٍ وتهجير وإقصاء وتدمير وإلغاء ـ نواة نصّ يجمع شيئاً منها بكثيرٍ من يوميات لاحقة عليها.
"استعادة" (2021)، للفلسطيني رشيد مشهراوي ("العربي الجديد"، 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2021)، وثيقة بصرية تجمع ذاكرة وتاريخاً بحميمية ذاتٍ وروح وانفعال، في مقاربة سردٍ شفهي لشاهدٍ على خراب وبقاء وتهجير. صُوَرٌ فوتوغرافية كثيرة (مأخوذة من أرشيفات عدّة لأفراد ومؤسّسات) تُشكِّل إحدى ركيزتي الوثائقي، باستعادتها نبضَ حياةٍ وتحوّلات في يافا، منذ ما قبل "نكبة 48". الركيزة الثانية تتمثّل بعثور مشهراوي، صدفةً، على أشرطة "في. أتش. أس."، مُسجَّل عليها حوار مع طاهر القليوبي، يروي فيه ذاكرة فردية، وتاريخاً جماعياً، وعيشاً مفتوحاً على هناء يسبق أهوالاً وخيبات.
مرويات القليوبي ـ المدعومة بتلك الصُوَر الفوتوغرافية، ذات الجودة الفنية العالية والباهرة بما فيها من جماليات فنّ التصوير، والمضامين التي توثّقها ـ حكاياتٌ يرويها بهدوء وحماسة، فتتكامل مع ما ترويه الصُوَر نفسها، في كتابة نصٍّ (بالصُوَر والمونتاج والسرد والمرويات) غير مُنفضٍّ عن ذاكرة فردية لمشهراوي نفسه.
الفرديّ ماثلٌ في "حكايا بيتية" (2021)، للسوري نضال الدبس، لكنّه مفتوحٌ على شيءٍ من ذاكرة سينمائية متداخلة مع الاجتماعي والتربوي في القاهرة. "ثورة 18 مارس" (2011) في سورية بدايةٌ، والهجرة إلى مصر لاحقةٌ، والانتقال بين دمشق والقاهرة يكاد يتساوى والانتقال بين أزمنةٍ وحالاتٍ. الهوس بالسينما، صالات وأفلاماً وحكاياتٍ ونقاشات، يُرافق نضال الدبس، ويدفعه إلى تأليفِ وثائقيٍّ ("العربي الجديد"، 13 يونيو/حزيران 2022)، تتداخل فيه تفاصيل شخصيّة وعامة، واتصالات هاتفية مع أهلٍ في دمشق، وتسجيلات عائلية، مُصوّرة وفوتوغرافية، مع زوجته ليلى وابنتهما سلمى، ومعاينة ـ تبدو لاحقاً استمراراً للهوس السينمائيّ نفسه في دمشق ـ لأحوال صالة سينمائية في القاهرة، تمتلك تاريخاً، وتحتوي على ذكرياتٍ، يرويها أناسٌ يُقيمون إلى جانب مبناها المقفل.
للصُوَر الفوتوغرافية، في "حكايا بيتية"، حضورٌ أيضاً، وإنْ يبق أقلّ انفلاشاً من حضورها في "استعادة" رشيد مشهراوي. خصوصية صُوَر الدبس تتناقض مع صُوَر يافا، المفتوحة على سِيرة حياة وتحوّلات. لكنّ الصُوَر كلّها تقول معنى هذا الفنّ وأهميته إلى الآن، ومدى قدرته على سرد حكائيّ بلغته الخاصة، رغم كلّ التطوّرات الحاصلة في اشتغالاته.
فنّ التصوير الفوتوغرافي يظهر أيضاً في "بيروت في عين العاصفة" (2021)، للفلسطينية مي المصريّ، عبر شخصية الشابة اللبنانية حنين رباح، التي تحمل آلة تصوير فوتوغرافي في جولاتها في مخيمات فلسطينية، فالتداخل بين اللبناني ("انتفاضة 17 أكتوبر" 2019، تحديداً) والفلسطيني، سينمائياً واجتماعياً وإنسانياً، حاصلٌ دائماً في اشتغالات المصري.
جديدها هذا ("العربي الجديد"، 27 أبريل/نيسان 2022) معقودٌ على مرافقة بصرية لـ4 شابات، إحداهنّ عراقية تُدعى لجين ج.، تُقيم في بيروت لحظة انتفاضتها المُعطّلة، ما يُتيح استحضاراً لواقع عراقيّ يترافق ووقائع لبنانية في اللحظة نفسها. هناك أيضاً الشقيقتان نويل وميشيل كسرواني، وحنين. معهنّ، تُروى تفاصيل وانفعالات وتفكير وسجالات، تختصّ أساساً بالانتفاضة المعطوبة، وبعض السابق عليها، كما اللاحق بها، وللذاتيّ مساحةٌ مهمّة أيضاً. "التورّط" في الانتفاضة، حراكاً وتأليفاً (الشقيقتان كسرواني تؤلّفان أغنيات وتُلحنانها وتُغنّيانها) وتساؤلات، جزءٌ من انسجامٍ ذاتيّ مع أهوال تؤدّي إلى اختبار مدى قدرة الشارع على المواجهة، التي تنتهي بخيبة وانكسار.
مع المصري، يكون للهمّ الفلسطيني حضورٌ وانتباهٌ دائمان، لكونه جزءاً أساسياً من همومها الشخصية والتزاماتها الثقافية والفكرية والإنسانية والاجتماعية، ونظرتها إلى الحياة والعلاقات والناس. "بيروت في عين العاصفة" وثيقة سينمائية تعكس يوميات حالةٍ لبنانية تُصاب بأعطابٍ، وتمرّ بآلامٍ وانكفاءات، وبعض الانكفاءات ناتجٌ من اشتداد الأزمة الاقتصادية، ووحشية المواجهة السلطوية، وتفشّي كورونا، والتفجير المزدوج لمرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020). وثيقةٌ غير منفضّة عن معضلة التعاطي اللبناني مع مسائل اجتماعية وعلاقات بشرية، ومع فلسطينيي المخيّمات وفلسطينياتها.
أفلامٌ أخرى، عربية وأجنبية، تُعرض في برامج ومسابقات. "أيام فلسطين السينمائية" تتجوّل في 5 مدنٍ (القدس ورام الله وغزة وبيت لحم وحيفا)، مانحةً لقاءات مع أنماطٍ مختلفة من مقاربة مسائل آنية وذاكرة محمّلة بأسئلة وخبريات. المهرجان تجربةٌ تحتفل في العام المقبل بإنهاء أول عشريةٍ لها، وهذه مناسبةٌ لقراءة مسارٍ وتأثيراتٍ وآليات عمل وتواصل.