وثائقيات "الإسماعيلية 24": سِيَرٌ بين السينما والريبورتاج التلفزيوني

27 مارس 2023
"حياة كغيرها" لفوستين كروس: اكتئاب وانتحار وادّعاءات (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

فنّ السينما ليس رفاهية، ولا مجرّد تسلية. إنّه ضرورة لفهم الآخر، برؤية أعمق. هذا ما أكّدته برمجة الدورة الـ24 (14 ـ 20 مارس/ آذار 2023) لـ"مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة". أفلام مشاركة طرحت تساؤلات عن الفن ودوره في المجتمع والعالم المرتبك حالياً، كما في التشيكي "عرض المواهب (art talent show)" لتوماس بوجار وأديلا كُمَرْزي.

الدورة هذه رحلة سينمائية ثرية ومثيرة، عبر طرق سردية مختلفة، وحكايات عدّة، بقطاراتٍ قديمة على قمم جبال بيرو، وسيارات قديمة فاخرة في منطقة مهملة في روسيا. شاهد الجمهور صوراً لعائلات، نساءً ورجالاً وأطفالاً، أمهات وأبناء، آباءً وبنات. عاش آلامهم وفجيعتهم، وعرف أسباب اكتئاب بعضهم، وشعر باغترابهم، ومحنة سنوات الشتات، والنضال والانفصال، مروراً بإرادة صحافية قوية، تكشف فساداً عميق الجذور في سلوفاكيا، وتحريك الجماهير في البلد، بينما مجتمع آخر يغضّ الطرف عن تاريخه المروع في الإبادة الجماعية، في يوغوسلافيا السابقة، وتتبّع تاريخ جمعي، وسنوات قهر سوداني للمرأة. ثم تجدّدت الآمال، وارتفع سقف الطموح بجيل جديد من التعاون الأفريقي.

غالبية هذه البرمجة الثرية، المتفاعلة مع هموم عالمية آنية، جعلت مشاركين كثيرين وأعضاء لجان التحكيم، ليلة الختام، يشكرون ليس فقط الفائزين، بل صانعي الأفلام وفريق المبرمجين أيضاً، والمتطوّعين الذين كرّسوا أنفسهم وجهودهم، بحبّ شديد وتفانٍ كبير، لإنجاز مهمة أعضاء لجان التحكيم على أكمل وجه.

من أبرز أفلام هذه الدورة، المتميّزة بحضور نسائي كبير، "بلادي الضائعة" (إنتاج مشترك بين العراق وتشيلي وكوستاريكا ومصر)، للعراقية التشيلية عشتار ياسين غوتيريز، الفائز بجائزتي "فيبريسي (الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية)"، ولجنة التحكيم الدولية (ألفا دولار أميركي).

فيلمٌ يجمع بين الشخصي والجمعي بشكل ساحر. مُكثّف ومتعدّد الأصوات والطبقات. نُسِجت خيوطه في مزيجٍ، شاعري هامس ورقيق، بين الأسطورة والواقع والحلم، وبين التاريخ والجغرافيا والفن. مفردات السيرة الذاتية المسرحية، التي تخصّ المخرج المسرحي سعدون ياسين، والد المخرجة، تروي قصّة بالغة الدلالة عن مخرج عاش الشتات، بعد إبعاده عن وطنه، الذي صار سجناً لأخوته في عهد صدام حسين. بعد الاحتلال الأميركي فضّل ألّا يعود، مُلخّصاً حقيقة الغزو بجملة كاشفة ومتهكّمة: "آه، لو كان نفط العراق عراقي". بعد وفاته، بدأت الابنة البحث عن بلدها الضائع. عبورها الحدود بحثٌ عن الوطن والأب، والثقافة والفن، ولَمّ شمل الجسد والعقل والروح.

فيلمٌ يُرمّم الذاكرة، ويسعى لتوثيقها. يربط الماضي بالحاضر، ويفتح الأفق على المستقبل بجرأة ملحّة. يبحث عن الجمال غير التقليدي في السرد، بانحياز غوتيريز إلى لغة سينمائية خالصة، مؤكّدة أنّها امرأة مبدعة، تحتاج السينما العربية والعالمية إلى كثيرات مثلها.

هناك أفلام يصنعها مبدعون (منتجون أو مخرجون)، تتحدّث عن نفسها. هناك آخرون يُثيرون ضجيجاً حول أعمالهم الركيكة، ويدّعون أنّهم يعملون عليها سنوات عدّة، لكنّها "ريبورتاجات تلفزيونية"، يمكن إنجاز مثلها في أسبوع، كأنّها تُذكّر بهذا المثل: "النعاج كثيرة الصياح لا تُنتِج صوفاً".

من هذه الأفلام "حكاية شادية وأختها سحر"، للمصري أحمد فوزي صالح، الذي ادّعى أنّ فكرته بدأت عندما كان طالباً في "معهد السينما"، منذ أكثر من 17 عاماً، حين كان يُجاور بطلات الفيلم فى العمارة نفسها. أضاف أنّ التصوير حصل بين عامي 2017 و2022، مُشيراً إلى أنّ الحكايات البسيطة للنساء تجذبه، وأنّه تأثّر في طفولته بـ"يوم حلو يوم مُرّ" (1988) لخيري بشارة: "شعرتُ أنّي أريد صنع فيلم بالبساطة نفسها. مجرّد حكايات يومية".

المقارنة بين الفيلمين ظالمة، إذ إنها بين عمل عظيم وآخر شديد التواضع، بين عمل يجعلك تتفهّم وضع النساء الفقيرات والمعيلات والكادحات، في الأحياء الشعبية، وآخر نقيضه، يدفع إلى عدم التعاطف مع بطلاته، اللواتي يُصدِّرن شعوراً بأنّهن يمثّلن أمام الكاميرا، ويُقدمن أداءً مفتعلاً. نساء يصرخن معظم الوقت بشكل هستيري، ولا يفعلن شيئاً في الحياة، ولا يُطوّرن حياتهن. نساء سليطات اللسان، أصواتهنّ مرتفعة دائماً، ما يجعلنا نتفهم لماذا هجرهنّ الرجال. الأسوأ، أنّه عمل سطحيّ جداً، ومباشر، وبعيد عن السينما، وقريب من فيلم تلفزيوني متواضع.

 

 

المثير للدهشة والاستنكار، دعوة المهرجان لفوزي صالح، القادم مع 5 نساء من بطلات الفيلم، بينما لم تُدعَ هالة لطفي مثلاً، المشاركة في إنتاج "بلادي الضائعة"، الفائز بجائزتين مُهمّتين. المدهش أيضاً أنّ لطفي أحضرت الفيلم بنفسها إلى إدارة المهرجان، ما أثار تساؤلاً عن تجاهل المخرجة/ المنتجة، وعدم دعوتها إلى العرض، والمشاركة في مناقشة هذا الفيلم، الذي يجب أنْ يفتخر كلّ مصري بكون مصر منتجة مشاركة له.

الفيلم الفائز بالجائزة الأولى (3 آلاف دولار أميركي) "حياة كغيرها" (إنتاج بلجيكي فرنسي) للشابّة فوستين كروس: قصّة اكتئاب أمّها، ومحاولتها الانتحار. في أرشيف طفولتها، تتردّد كلمات في الحوار، ضمن لقطات، تقول إنّ فوستين سبب حزن أمّها. بل إنّها تعتقد أنّ أمها حاولت الانتحار بسببها.

لعلّ شعور كروس بالذنب، وإنْ في عقلها الباطن، دافعٌ إلى إنجازها الفيلم. فبسبب مسؤوليات الأمومة، حُرمت هذه المرأة مواصلة عملها. وعندما اتّخذت قرار العودة إلى العمل، كفنانة ماكياج لها اسمٌ ومكانة في السينما، كانت المعضلة أنّه لا بُدّ أنْ تعمل دواماً كاملاً، ما يتعارض مع مسؤولياتها كزوجة وأم، عليها رعاية طفليها. هذا سلبها حريتها ورغبتها في الحياة، رغم لقطات أرشيفية عدّة تبدو فيها كأنّها تعيش حياة سعيدة.

الفيلم أول تجربة لمخرجته. لكنّها نجحت في الحفر أسفل الجبل الجليدي المختبئ تحت المحيط. أثارت ابتسامات، ونقّبت تحت الجلد بحثاً عن أسباب تعاسة والدتها. استخدمت أرشيف عائلتها، فوالدها مهووس بالتصوير، ويفكّر في صنع فيلمٍ عن العائلة، لكنّه لم يفعل، مكتفياً بتصوير أفرادها في كلّ لحظاتهم، حتّى وهم نائمون. عندما سألته الابنة: "لماذا صوّرت كلّ هذا؟"، قال: "لأقنع والدتك أنّ حياتنا جميلة. عندما تراها على الشاشة، ستدرك أنّها حياة سعيدة، وليست كما تتوهّم. هكذا أساعدها في العلاج من الاكتئاب".

لكنّ كلمات الأب وتصرّفاته تكشف أمرين: لم يكن يساعد زوجته بشكل حقيقي، لأنّه لم يفعل شيئاً جوهرياً لإنقاذها من الاكتئاب. كان يحاول إقناعها من دون فعل حقيقي، متوارياً خلف آلة التصوير. من دون نسيان أنّ هناك أشياء لم تُقل في الفيلم، وأخرى أُسقطت وحُذفت، ويمكن إدراكها ببساطة من نظرات متبادلة، ولغة كاشفة للجسد، والمونتاج في حديث الأب، الذي رفض الإجابة عن تساؤلاتٍ لابنته. كان يُقدِّم نفسه على أنّه يرعى الأسرة، ويطهو، لأنّ زوجته تتعلّم الرقص للتخلّص من الاكتئاب.

الأم لم تُعبّر عن المرأة، في أنحاء كثيرة في العالم، أي المرأة المستهلكة والمشتّتة بين حياتها العملية والأسرة. رغم ذلك، لم يكن "حياة كغيرها" عميقاً كفاية، لحاجته إلى مزيدٍ من التفكير، وكشف ادّعاءات الأب، وربط الخاص بالعام لإثرائه. بهذا، يختلف عن "بلادي المفقودة" و"أجسام بطولية"، للسودانية سارة سليمان، الذي يتضمّن أرشيفاً ثرياً، كشف قهراً طويلاً تعرّض له جسد المرأة السودانية، في ظلّ الوضع الاجتماعي والسياسي والنفسي، وسياسات التعنيف والإذلال والقمع، وما يُقابلها من تمرّد، ومحاولة تحقيق الذات، بتوثيق شهادات مناضلات ثائرات. مع ذلك، فإنّ مشكلة الفيلم كامنةٌ في انتهاج المخرجة، في أول تجربة لها، أسلوب الريبورتاج التلفزيوني، وفي عدم تمكّنها من خلق معادل بصري سينمائي خلّاق، رغم توافر مادة أرشيفية استثنائية.

المساهمون