أكثر من مرّة، يعلو صوت سينمائي مُعارض للخطّ الهوليوودي العام، وبالتالي للسياسة الرسمية في الولايات المتحدّة الأميركية، في شأن فلسطيني. صوتٌ يطلقه عددٌ أقلّ بكثير ممن يصمت، أو يقول دعماً لإسرائيل، في حروبها ضد فلسطينيين وفلسطينيات، أو في أي "مناسبة" أخرى. صوت الدفاع عن فلسطينيين وفلسطينيات خافتٌ (قياساً بضجيج آلة الصناعة السينمائية في هوليوود). لكنّه، كما يبدو، مؤذٍ بالنسبة إلى سلطة تتحكّم بـ"صناعة الترفيه" (السينما والتلفزيون تحديداً)، فترفض تلك السلطة أيّ حرفٍ يُنطَق أو يُكتَب به، يُستشفّ منه أنّه "مُعادٍ" للسامية، أو "مُدافع" عن "إرهابٍ".
الرفض مُرفقٌ، هذه المرّة، بطردٍ أو بخفض رتبة مهنيّة. سوزان ساراندون تُطرد من UTA (وكالة لإدارة أعمال عاملين وعاملات في هوليوود) بسبب موقفٍ متضامن مع مدنيين ومدنيّات في غزّة. مهى الدخيل، الليبية الأصل، تُخفَّض رتبتها في CAA (وكالة أخرى لإدارة أعمال السينمائيين والسينمائيات)، للسبب نفسه. يتردّد أنّ توم كروز يرفض التخلّي عنها مديرةً لأعماله، ويزورها شخصياً في مكتبها قبل أنْ تغادره، لتأكيد دعمه لها "أمام الشركة التي تنبذها". هناك أيضاً، في اللائحة "الأخيرة" من أسماء المغضوب عليهم وعليهنّ، مليسا بارّيرا (ممثلة مكسيكية) التي "تُخلَع" (بحسب عنوان خبر منشور في francinfo Culture، في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، أو "تُطرد" (مقالة رومان تيزوريار، "لو باريزيان"، 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) من Scream VII، "بعد تصريحات مُثيرة للجدل".
تقول ساراندون إنّ هناك أناساً كثيرين يشعرون بالخوف من أنْ يكونوا يهوداً في المرحلة الراهنة، "لديهم (الآن) تذوّقٌ لما يشعر به المرء حين يكون مسلماً في ذاك البلد" (فيديو لـ"نيويورك بوست"، 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2023). سابقاً، تقول ما يُمكن اعتباره امتداداً لهذا وتكاملاً معه ("العربي الجديد"، 17 مايو/أيار 2021). فاعتداء مستوطنين إسرائيليين متشدّدين على "حيّ الشيخ جرّاح" (القدس)، في إبريل/نيسان 2021، وبعده بقليل، دافعٌ لها إلى إعلان موقفٍ صارم وواضح، إذْ تقول إنّ الحاصل في فلسطين (حينها) "ليس اشتباكات"، وإنّ هناك "جيشاً متقدّماً تكنولوجياً (بمعنى آخر: "جيش فائق التسلّح") يقتل المدنيين لسرقة منازلهم". تحسم الأمر: "هذا هو الاستعمار". تُعلن تضامنها مع الشعب الفلسطيني "الذي يواجِه تطهيراً عرقياً وترهيباً من الحكومة الإسرائيلية ومنظّمات المستوطنين اليهود". تُنهي أحد تعليقاتها بجملة مكتوبة بأحرف إنكليزية كبيرة: "العالم يُراقب".
أيّاً يكن، فالمُعلن على ألسنتهنّ، في حربٍ إسرائيلية جديدة على غزّة أولاً وأساساً، منذ "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، غير ذاكرٍ كلمةً واحدةً تُشير إلى دعمٍ لـ"حماس". تكتب بارّيرا (تنقله "لو باريزيان" عن "إنستغرام"): "غزّة تُشبه معسكر اعتقال. الجميع مُجَمّعون هناك، من دون كهرباء ولا مياه. الناس غير متعلّمين شيئاً من تاريخنا. الناس مستمرّون في المراقبة بهدوء، على الهامش. هذه إبادة وتطهير عرقي". الجملة الأخيرة تُترجمها شركة الإنتاج Spyglass بأنّها "معاداة للسامية". الحاصل في الواقع الفلسطيني، بالنسبة إلى أصحاب النفوذ، لا علاقة له بـ"إبادة" أو بـ"تطهير عرقي". فهل يكون "التطهير العرقي" و"الإبادة" حكراً على يهودٍ فقط؟ الحاصل ضد فئات من شعوب بلدان كثيرة، في التاريخين القريب والبعيد، أليس "إبادة" و"تطهيراً عرقياً"، أمْ أنّ المفردتين غير صالحتين لغير اليهود، والحاصل مع اليهود فقط، بسبب النازية، "إبادة" و"تطهير عرقي"؟
نقاش كهذا غير منتهٍ، وغير مؤدٍّ إلى نتيجة مُفيدة، طالما أنّ أصحاب النفوذ، ومن يُسيطر عليهم وعليهنّ، غير قابلين بأنْ يُسمّى القتل الجماعي لفلسطينيين وفلسطينيات، وتدمير كامل لمنازل وأحياء ومستشفيات وبنى تحتية، "إبادة" أو "تطهيراً عرقياً". استخدام مفردات كهذه يُفترض به ألّا يكون حكراً على فئة من دون أخرى، إنْ تعرّضت أي فئة لقتل وطرد وتغييب، لأسباب متعلّقة بلون بشرة، أو التزام ديني، أو انتماء اجتماعي ـ إثني، أو باختصار: أنْ يكون المُضطَهَد مختلفاً عن المُضطَهِد.
طرد سوزان ساراندون، وخفض رتبة مهى الدخيل، و"خلع" مليسا بارّيرا، مسائل تستعيد فصلاً خطراً في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، مع تفشّي المَكارثية بين عامي 1950 و1954، المعروفة أيضاً بـ"الخوف الأحمر" و"قنص الساحرات" (أو "مطاردة الساحرات"، بحسب المفردة الفرنسية). كلّ صوتٍ يعلو باختلافٍ، متأتٍّ من قناعةٍ بأنّ ما يُدافَع عنه يستحقّ الدفاع، أخلاقياً وبشرياً وقانونياً، يجب أنْ يُخنَق. كلّ قولٍ يُراد له أنْ يعكس شعوراً وتفكيراً، منبثقَين من مفاهيم مغايرة لسائدٍ متسلّط، يجب أنْ يُمنَع قائله ـ قائلته من أي عملٍ. هذا محصورٌ، كما يبدو، بفلسطين فقط، لأنّ حرباً روسية، مثلاً، تستدعي موقفاً كـ"هذا" مع مدنيين ومدنيّات في أوكرانيا، وهؤلاء كغيرهم ـ غيرهنّ ضحايا حروبٍ، من دون طرد أو تخفيض أو "خلع".
لا مبالغة في هذا. تشبيه الحاصل، راهناً، في هوليوود بمَكارثية خمسينيات القرن الـ20 ملائم لوصف حالة. طرد فرد من مؤسّسة أو مشروع، بحجّة إعلانه موقفاً أخلاقياً، أساساً، إزاء بلد أو قضية أو شعب أو وضع، يتناقض مع موقف جماعيّ، غير مختلف البتّة عن ملاحقة "متّهمين" و"متّهمات" بانتماء ـ التزام شيوعيَّين، في زمن حربٍ باردة بين أميركا "الحرّة" (!) والاتحاد السوفييتي، الديكتاتوريّ القامع.