في شهرين، تقريباً، تُقوِّض الصور المقبلة من غزّة، تحديداً، كلّ ما تصوّرناه، أو ارتسم في مُخيّلتنا، واعتادته ذاكرتنا، عن بشاعة الاحتلال، وقُدراته الفتّاكة على التدمير، ومدى توحّش بشر وهمجّيتهم ولا إنسانيّتهم. ورغم ما شاهدناه، أخيراً وقبل سنوات، في حروب العراق وأفغانستان وسورية وغيرها، فاقَت المَشاهد اليومية لغزّة، عن التدمير المُمنهج للبشر والحجر، كلّ تصوّر مُعاصر، وخيال جامح، سينمائي أو أدبي، أو غيرهما.
المُثير للانتباه أنّه رغم الأموال الطائلة المُنفَقة على أضخم الإنتاجات السينمائية وأكثرها إبهاراً، لمُقاربة أشكال الدمار والخراب والفناء، لا تُقارن (الإنتاجات) نهائياً بما نشاهده يومياً من تدمير، وذلك رغم تفنّن السينما الهوليوودية، تحديداً، لعقود، في تخيّلها وابتكارها وإبداعها أشكالاً وأنماطاً وتصوّرات وعلاقات مُختلفة، فاقت كلّ خيال مُعاصر، عن بلدان ومُدن وقارات، راهناً أو في المستقبل، في أعقاب تهديدات وكوارث كونية خارجية، وغزوات فضائية، وهجوم مخلوقات وكائنات خرافية، وفضائيين وغيرهم، يستهدفون كوكب الأرض، تدميراً وإخضاعاً واستيلاءً، ويبغون إفناء البشر، أو خطفهم في أحسن الأحوال، بصرف النظر عن ماهية هؤلاء، ومن أين جاؤوا، وكيف جاؤوا.
التهديدات المرصودة في أفلام هوليوود، كخيال علمي أو كوارث أو قيامة أو نهاية العالم أو غزو فضائي، أو حتى ما وراء الطبيعة، اقتصرت، غالباً، على قوى خارجية آتية من خارج كوكب الأرض أو المجرّة. لم يلتفت معظمها إلى تهديدات أخرى، أكبر وأخطر، تأتي من كوكب الأرض نفسه، ومن البشر أنفسهم، ضد بعضهم بعضاً؛ وكيف أنّ البشر ليسوا بحاجة فعلياً إلى كائنات أخرى، شبه بشرية أو غير بشرية، خارقة الذكاء، تكرههم وتبغض سلوكياتهم، وترغب في تدميرهم وإفنائهم، أو حيازة كوكبهم وما عليه. كما عمدت هذه الأعمال، أساساً، باتّساعها واختلافها وتباينها وشططها، على تقديم أميركا والأميركي، أو الأبيض تحديداً، كمُخلّص وحيد لكوكب الأرض والإنسان، والمُنجز البشري كلّه، من كلّ خطر، بحكم الذكاء والتقدّم والتطوّر والثراء، وغيرها.
من هنا، ألهب هذا النوع من الأفلام خيال الجماهير العريضة وأبْهَرها، بمدى براعة الأجهزة والمؤسّسات الأمنية الأميركية المختلفة، وحنكتها وحذقها وتمكّنها ودهائها. وكيف أنّها يقظة دائماً، لا يفوت على عناصر فروعها ـ المخابراتية والتجسّسية والتنصّتية والتقنية، التي تضمّ خيرة العلماء والمبتكرين والنابغين وأصحاب المواهب الفذّة، وطبعاً أرقى العملاء والجواسيس والمتعاونين ـ أي شاردة وواردة تحدث في الكوكب. مما أبرزته السينما الغربية عامة، ورسّخته لعقود، مدى تفوّق العقل البشري الأميركي والإنسان الأبيض، وقدراته البارعة على اختراع وامتلاك وتوظيف أضخم ترسانات الأسلحة على وجه الأرض، واستخدام آخر ما توصّل إليه العقل البشري من قدرات فتّاكة، تقتل وتسحق وتدمّر، وتُفجِّر الكواكب الصغيرة والنيازك. أفكار ومعتقدات وأنماط وسيناريوهات، وأحياناً حقائق، كثيرة، رسّختها أفلام كهذه.
رغم هذا، وأخذاً بالاعتبار ضخامة الإنتاج وعوامل الإبهار في عقود، كلّ هذا لم يصمد أمام ما حدث في صباح عملية طوفان الأقصى، وما تلاها من تطوّرات واحتدام لمعارك، واشتباكات قتالية شرسة في غزّة. ما جرى أمام أعيننا، أثبت، صوتاً وصورة، مع ما صاحبه من مُبالغة وتهويل وافتعال، كيف انهارت تماماً تلك الصُوَر الخالية الزائفة، التي رُوِّج لأوهامها في عقود، بنوعية أفلام كهذه.
منذ صباح ذاك اليوم وحتّى اللحظة، تضرب غزّة بأعتى السيناريوهات والأفلام عرض الحائط، مُقدّمة سيناريوهات وأفلام مبتكرة، واقعية وآنية وصادقة، يعجز المرء عن حصر عددها، أو الإحاطة بها. وعليه، هل ستُعيد صناعة السينما حساباتها، ويعدّل أو يُبدّل كتّاب السيناريو رؤاهم وتصوّراتهم، بعد ما جرى، للخروج بما يُقارب ما حدث ويحدث هناك؟
مثلاً: مُقابل التهديدات الخارجية المرصودة، المقبلة من بُعدِ سنواتٍ ضوئية، هل ستتفتّق أذهانهم عن سيناريوهات، تتخيّل وتتأمّل وتُقارب ما يخرج من باطن الأرض مُهدّداً؟ هل ستُلهمهم أنفاق غزّة وغياهبها، وصمود مدينة الأنفاق هذه أمام ترسانة الأسلحة الحديثة، ذات التفوّق التكنولوجي البالغ، التي تسبر أعماق الأرض والبحار والمحيطات، وترسم وترصد طبوغرافية الأرض؟
لمُقاربة هذا الموضوع، وليس الإحاطة الكاملة به، تحتاج أنفاق غزّة إلى عشرات السيناريوهات، ومئات الأفلام، بدءاً من الفكرة، وكيفية التخطيط لها، مروراً بسرّية تنفيذها، وطبعاً التوقّف مليّاً عند آليّتها.
مثلاً: كيفية التخلّص من كَمّ الرمال الهائل المُستخرج من جوف الأرض، ومدى استحكاماتها، وقدرتها على الصمود، المحسوبة بدقّة، إزاء ضغط أعتى وأحدث الضربات الجوية، أو أعمق وأسرع وأفتك القذائف المُوجّهة بالأقمار الصناعية. وأيضاً: إلى أي مدى يُمكن البقاء والعيش فيها، قبل الحرب وفيها وبعدها. وطبعاً آليات التحرّك فيها، وكيف يتّسع بعضها لدرّاجات نارية وسيارات، وللآخر، أي أجساد أفراد. وماذا عن فتحات الدخول والخروج، والتهوية والمياه والصرف الصحي، وإدخال المعدّات والأسلحة، والحفاظ على الأفراد والأسرى، وحياتهم ومعيشتهم بشكل طبيعي وآمن؛ وآليات تصوير وتسجيل ومونتاج وإخراج، ثم تسريب وبثّ المواد الفيلمية المُصوّرة، بصرف النظر عن انقطاع الكهرباء والاتصالات والإنترنت، من دون أدنى رصد وانكشاف.
بعيداً عن سيناريوهات الأنفاق، يُمكن التوقّف عند سيناريوهات صالحة لأفلام التجسس. مثلاً: أعمال عن "الأنتي جواسيس"، أو "الجواسيس المضادين"، إن جاز التعبير، أي المقابل والنقيض للجاسوس، ممن يجري تجنيدهم للتغطية والتعمية، وتضليل العدو عن عمد، لسنوات، كي تنفّذ المخطّطات بسرّية. المُثير أنْ يحصل هذا في بقعة جغرافية مُكتظّة بمليوني بشري، علماً أنْ أيّ تجمّع، مهما بلغت درجة انسجامه وتناغمه وتكاتفه وإيمانه بقضيته، لن يُعدِم جواسيس ومُتعاونين ومُخربين، ورافضين وساخطين وناقمين، وهؤلاء نواة أي شبكة تجسّس وعمالة، ترغب مُخابرات وأجهزة أمنية في توظيفهم والاستفادة منهم. الدليل؟ فشل محاولات الـ"موساد" والـ"سي آي إيه" وغيرهما، وعدم الإمساك بأي قائد، أو العثور على أي نفق، حتّى اللحظة، بعد تدمير نصف غزّة.
لو جرى تخيّل هذا، أو تصوير سيناريوهاته سينمائياً، سيُعتبر من المُبالغات. في سياق الجاسوسية أيضاً، مما يُمكن تناوله سينمائياً، أو نقله واقتباسه من الواقع من دون توظيف ـ استخدام مُفرط للخيال، قصة دولة تُفاخر بأنّها تملك أحدث برنامج تجسّس في العالم وأخطره، وتدّعي أنّها صاحبة شُهرة تكنولوجية متقدّمة في صناعة وتطوير أجهزة التجسس والاستشعار فائقة الحساسية، القادرة على التقاط دبيب النمل فوق الأرض وتحتها، وأجهزة ومعدّات ثبت نجاحها بزرعها في هواتف رؤساء ووزراء وسياسيين وغيرهم. لكنْ، أين هي؟ ماذا عن دورها؟ ما الذي جرى لها في غزّة؟ بالتالي: ماذا عن مستقبل الصفقات والعقود الضخمة، المبرمة لصناعة هذه المعدات التكنولوجية وبيعها وتصديرها، التي تدرّ مليارات الدولارات الأميركية سنوياً، لأميركا وإسرائيل؟
كيف لكاتب سيناريو أنْ يُقنع الجمهور بأنّ أجهزة كهذه تتوقّف وتتعطّل، بل تُخترق على أيدي قراصنة، ليسوا فقط من أبناء العالم الثالث، بل أيضاً ممن امتدّ الحصار الفولاذي عليهم وعلى أنفاسهم لسنوات مديدة، بحراً وبراً وجواً، وكان يُفترض به أنْ يُعيدهم إلى القرون الوسطى؟ الأدهى، كيف لـ"جامعة غزّة"، غير المُدرجة في أي تصنيفات من أي نوع، عربياً حتى، أنْ يخرج منها نابغة يتسبّب في حيرة أعتى أجهزة المخابرات في العالم، الـ"مُوساد" والـ"سي آي إيه"؟
أيّ سيناريو سينمائي يُفترض به إقناع المُشاهد أنّ هذا الغزّي العشرينيّ استطاع فكّ شيفرات برمجة صواريخ ما يُطلق عليه "القبة الحديدية" واختراقها، تلك التي كلّفت مليارات الدولارات الأميركية، وغيرها من برامج التجسّس.
ماذا عن أي محاولة سينمائية لمُحاكاة سيناريو حرب، يجري تصويرها بكاميرات حقيقية، تنقل وقائع اصطياد أمضى الأسلحة فتكاً، المُزوّدة بأحدث التكنولوجيا تقدّماً وتطوّراً واتصالاً بالأقمار الصناعية والإنترنت، وتصوير آليات، بآلاف ـ ملايين الدولارات، تُعطَب وتُستهدف بمنتهى السهولة والبساطة، وبواقعية ومصداقية تبزّ أعتى اللقطات في تاريخ السينما؟ ما آلية إقناع المُشاهد بأنّ أمضى الأسلحة وأكثرها تطوّراً في العالم، الخارجة لتوّها من أحدث مصانع الأسلحة ومخازنها، تفشل أمام أسلحة محلية بدائية، صناعة وتنفيذاً وتكنولوجيا، وحتى مدى وتأثير وقوة نيرانها؟ الأفدح، كيف الكتابة ـ التصوير عن جنود مُدرّبين ومُدجّجين بأحدث الخوذات والملابس والأحذية، وأكثرها أماناً وأريحية، "يُؤدّون" مهماتهم بهذه الكيفية أمام أفراد مُقاومة يُواجهونهم بصدور عارية ورؤوس حاسرة، وبنعال وملابس شبه عادية؟
أمام سيناريوهات لانهائية كهذه، تأتينا مُباشرة يومياً على نحو يفوق الخيال، وأمام الطريف والغريب والشاذ منّها، كمشاهد وداع الأسرى لآسريهم، أو اصطحاب كلب يحار المرء في كيفية إطعامه والسيطرة عليه، من دون التسبّب في رصد حركاته، يتساءل المرء: هل ستعود السينما، خاصة الهوليوودية، إلى انشغالها حدّ الإغراق في الصراع الخارجي ـ الفضائي في السنوات أو العقود المقبلة؟ أمْ آن أوان تأمّل مذابح وإبادة ونزوح ومآسي وبطولات وملاحم هذا الشعب، وتضحياته غير المحدودة؟ وكيف أنّ أطنان القنابل والقذائف الهيروشيمية فتكت بالحجر، ولم تزد أهل غزّة إلّا صلابة وإرادة وعزيمة؟
وإنْ تمّ تجاهل هذا كلّه، وغضّ الطرف عن قصف مدارس ومُستشفيات ودُور عبادة، أو جرى تناوله مُزيّفاً أو مُحرّفاً أو مُخفّفاً، فأي حجج أو ذرائع سيسوقونها سينمائياً، دفاعاً عن مدى إنسانيتهم وتعاطفهم وحمايتهم، بل وهوسهم بالدفاع الدائم عن الآخر وحقوقه وحريته؟ أمْ سيظلّ كتّاب السيناريو، وغيرهم من أرباب الفنون، يجترّون القصص نفسها عن تفوّق الرجل الأبيض وتقدّمه وتطوّره وتحضّره، ومدى جدارته وحقّه في أنْ يكون الوحيد صاحب التقدّم والتطوّر والتحضّر؟ وذلك في مُقابل أمم أدنى، ستظلّ بنظرهم أمّية ومتخلّفة وغير متطوّرة، تُعاني الجوع والفقر، وغياب الديمقراطية، وحرية الإعلام، وتكميم الأفواه، والبطش بالإنسان، وازدواجية المعايير، وفوق هذا وذاك، تُهدّد سلامتهم وأمنهم وسلامهم بإرهابها ومهاجريها ولاجئيها؟
يتساءل المرء: هل انتهت سيناريوهات غزّة، المُتجدّدة يومياً في الواقع؟ الإجابة: قطعاً لا، ما دامت غزّة باقية. لكنْ، هل سيتعلّم البشر من دروسها؟ وكيف أنّ الأمر ليس معقوداً دائماً على من يمتلك المال والعلم والأسلحة والتقدّم والتطوّر والتكنولوجيا ـ رغم أهمية كلّ هذا وضرورته، بل وحتميّته ـ بل على من يعرف ويفهم ويُؤمن بتوظيف واستخدام وتوجيه أقلّ أو أبسط ما يحتكم إليه. وقبل هذا، يؤمن بالمبادئ والقيم الإنسانية، ويحتكم إلى الضمير والقوانين الدولية؟