أمضت "يوتيوب"، مثلها مثل منصات التواصل الاجتماعي الأخرى، السنوات الأخيرة في تعزيز جهودها لمعالجة المعلومات المضللة. بعد انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016، وظّفت المنصة خبراء في السياسة ومشرفين على المحتوى، واستثمرت في تطوير أدوات تكنولوجية للحد من وصول الروايات الكاذبة إلى الجمهور، لكنّ ذلك يبدو في طريقه إلى النهاية.
في يناير/ كانون الثاني الماضي، قلصت "يوتيوب"، المملوكة من شركة غوغل، عدد فريقها الصغير من خبراء السياسة المسؤولين عن التعامل مع المعلومات المضللة، من دون الإعلان عن ذلك، وفق ما كشفه ثلاثة أشخاص على دراية بالقرار لصحيفة نيويورك تايمز هذا الأسبوع. وبحسب واحد منهم، أدى تقليص حجم الفريق، المرتبط بقرار الشركة الأم ألفابِت تسريح قرابة 12 ألف موظف، إلى ترك شخصٍ واحدٍ فقط ليشرف على سياسة مكافحة المعلومات المضلّلة في أنحاء العالم كافة.
يعكس تقليص عدد الموظفين ميلاً عاماً لدى شركات التكنولوجيا غير محصورٍ بـ"يوتيوب"، ما يهدّد العديد من الخطوات التي اتخذتها منصات التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة لمنع انتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة، كما جرى خلال جائحة كوفيد-19.
مالك شركة تويتر الجديد إيلون ماسك خفض أيضاً عدد الموظفين إلى أقلّ من النصف، بينما وجّهت "ميتا"، مالكة "فيسبوك" و"واتساب" و"إنستغرام"، تركيزها ومواردها إلى عالم ميتافيرس.
وفي ظلّ صعوبات اقتصادية وضغوطٍ سياسيةٍ وقانونية، أظهرت منصات التواصل الاجتماعي أخيراً أنّ مكافحة المعلومات الكاذبة عبر الإنترنت لم تعد أولوية قصوى بالنسبة لها، ما يثير مخاوف الخبراء الذين يتوقعون أن يؤدّي ذلك إلى مزيدٍ من التراجع في ثقة الناس بالإنترنت.
وقال رئيس هيئة الرقابة الإعلامية ذات الميول الليبرالية، ميديا ماترز فور أميركا، أنجلو كاروسوني، لـ"نيويورك تايمز": "لن أقول إن الحرب انتهت، لكنني أعتقد أنّنا خسرنا معارك رئيسية". بعد سنوات من العمل، أشار إلى أنّ "الشعور بالإرهاق قد نال من المجتمع"، ما يعني "خسارة الحرب" ضد المعلومات المضللة.
من جهتها، تؤكد الشركات أنّها لا تزال جادة في مساعيها. لكنّ في الحقيقة تراجعت الجهود المبذولة لمكافحة المعلومات المضللة، بعد انتهاء وباء كوفيد-19 والانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020، مع ظهور المزيد من المواقع والمنصات البديلة التي تتنافس لاستقطاب المستخدمين.
قبل أسبوعين، أعادت "ميتا" تفعيل حسابيّ الرئيس السابق الأميركي دونالد ترامب على "فيسبوك" و"إنستغرام"، بعد عامين على تعطيلهما بتهمة التحريض على العنف الذي سبق اقتحام مبنى الكابيتول. قامت الشركة بذلك، على الرغم من أنّ منشورات ترامب على منصته الخاصة، تروث سوشال، مليئة بالمحتوى المتطرف ونظريات المؤامرة التي تحظرها سياسات "فيسبوك". كما دعا إيلون ماسك ترامب مرة أخرى إلى "تويتر"، وهي إحدى الخطوات العديدة التي اتخذها لإنهاء عدد من سياسات المنصة السابقة التي يعتبرها نتاج قرارات رديئة اتخذها من سبقه. هذا عدا تسريحه الفريق المشرف على قضايا الثقة والسلامة، بما في ذلك مكافحة المعلومات المضللة.
لم تكن التسريحات بين موظفي "يوتيوب"، في يناير، بالحجم نفسه، ولكنّها كانت مؤثرة بالنسبة للفرق الصغيرة المكلفة بوضع سياسات المنصة وتنقيحها. فصلت "يوتيوب" اثنين من خمسة خبراء بالمعلومات المضللة، وفقاً لما أكده أحد الأشخاص المطلعين على القرار لـ"نيويورك تايمز". كذلك، تخلت المنصة عن اثنين من خبرائها الخمسة الذين يعملون على وضع السياسات المتعلقة بخطاب الكراهية والتحرش، مع العلم أن هؤلاء لعبوا أدواراً مهمةً في تحديد المحتوى المقبول من غير المقبول، إضافةً إلى تقديم الاستشارات إلى المديرين التنفيذيين حول القرارات الصعبة المتعلقة بالمحتوى. خفّضت "يوتيوب" عدد العاملين في الفرق التي تطبق سياسات وقوانين المنصة، وكذلك في فريق الاستجابة السريعة الذي يشارك في معالجة المحتوى الإشكالي. أمّا في "غوغل"، فاستغنى قسم الثقة والأمان عن فريق من مديري البرامج الذين ساعدوا خبراء وضع السياسات.
وأوضحت منصة يوتيوب أنّ تسريح الموظفين كان مرتبطاً مع قرار الشركة الأم ألفابت بتخفيض عدد العاملين فيها بنسبة 6 في المائة. وقالت المتحدثة باسم "يوتيوب"، إيلينا هيرنانديز، في بيان: "سنواصل دعم الفرق والتعلم الآلي والسياسات التي تحمي مجتمع يوتيوب، وسنواصل العمل بنفس التركيز والجدية للمضي قدماً." ولفتت إلى أن "يوتيوب" تحاول عرض معلومات للمستخدمين من مصادر موثوقة. وأشارت إلى وجود فريق متخصّص بمتابعة المحتوى المتعلق بالانتخابات النصفية الأميركية أزال أكثر من 10 آلاف مقطع فيديو حتّى الآن.
على الرغم من أنّ الشركات لم تقل أنّها تخلت عن مكافحة المعلومات المضلّلة، فإن الخبراء يبدون قلقهم من أن شركات وسائل التواصل الاجتماعي تضع مصلحتها قبل الصالح العام.
بعد إعادة ترامب إلى "فيسبوك"، كتب رئيس الشؤون العالمية في "ميتا"، نيك كليغ، أنّ المنصة ستستمر في التدخل "حين يكون هناك خطر واضح بإمكانية حدوث ضرر في العالم الحقيقي". وأضاف: "يجب أن يكون الجمهور قادراً على سماع ما يقوله السياسيون، سواء أكانوا صالحين أم سيئين، وذلك ليتمكن الناس من اتخاذ خياراتهم عن معرفة خلال الانتخابات"، مشدّداً على أنّ ذلك لا يعني "عدم وجود حدود لما يمكن أن يقوله الناس على منصتنا".
ووجد الباحثون في "ميديا ماترز فور أميركا" أمثلة على نشر معلومات خاطئة عن فيروس كورونا خلال الأسبوع الماضي، عبر خاصية "شورتس" على "يوتيوب"، وهي مقاطع فيديو لا تتجاوز مدّتها الدقيقة الواحدة. كذلك، وجدوا مجموعة من مقاطع الفيديو التي تبثّ آراءً معادية للنساء ولمجتمع الميم. وقالت نائبة مدير الأبحاث في الهيئة، كايلا غوغارتي، إنّ "التزام يوتيوب ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى بإنفاذ شروطها وسياساتها متفاوت وليس ثابتاً".
من جهتها، صرحت "يوتيوب" بأنها دائماً تعمل على "تحقيق توازن بين السماح بحرية التعبير وحماية المجتمعات على الإنترنت وفي العالم الحقيقي من الأذى". وقالت المتحدثة باسم الشركة نيكول بيل، لـ"نيويورك تايمز"، إنّ المنصة أزالت 6 مقاطع فيديو أبلغت عنها "ميديا ماترز فور أميركا"، لانتهاكها سياساتها. لكنّها أبقت على معظم مقاطع الفيديو الأخرى التي يفوق عددها العشرين، لأنّها لا تنتهك قواعد المنصة الأساسية، حسب قولها.
العام الماضي، حذّرت الشبكة الدولية لتقصي الحقائق التي تمثل أكثر من 80 منظمة، في رسالة موجهة إلى "يوتيوب"، من أن ّالمنصة مثّلت "إحدى القنوات الرئيسية للتضليل والمعلومات المضللة عبر الإنترنت في أنحاء العالم كافة"، وأنها لا تبذل ما يكفي من الجهد لمعالجة المشكلة.
أمّا على "تويتر"، فقد أضحت عواقب التراخي في مكافحة المعلومات المضللة واضحة، وذلك منذ استحواذ إيلون ماسك على ملكية المنصة. على الرغم من إقرار ماسك صراحةً بسعيه لتخفيف القيود، فإن المنصة علقت أخيراً حساب مغني الراب الشهير كانييه وست، بعد سلسلة من التعليقات المعادية للسامية. ورأت كبيرة المستشارين في مجموعة فري برس لمناصرة الحقوق الرقمية، نورا بينافيدز، أنّ تجربة "تويتر" في الفترة الأخيرة تدلّ على أنّ الإشراف على المحتوى لا يزال مهماً لاستمرارية المنصات، بغض النظر عن الاعتبارات الاقتصادية. وقالت: "الإشراف على المحتوى مفيد للأعمال التجارية، وهو مفيد للديمقراطية". وأضافت: "تفشل الشركات في القيام بذلك لأنّهم يعتقدون أنّهم لا يتحملون مسؤوليةً كبيرةً في معالجة هذا الأمر".