نوري إسكندر... كل تلك الطرق الوعرة

05 يناير 2024
عمل على استخلاص الخصائص الحداثية من صميم الموسيقى السورية (فيسبوك)
+ الخط -

لطالما كان السؤال عن الهويّة الموسيقيّة السوريّة محطّ جدل وبحث، وخصوصاً في القرن العشرين، مع جيل رأى أمامه سورية الممتدة على آلاف الكيلومترات، والضاربة في تاريخٍ يصل إلى آلاف الأعوام قبل الميلاد. حينها، كانت سورية نضِرة تفيض بالخيرات والحضارة وتزخر بالإثنيات المختلفة.

لكن بالقدر الذي هو فيه الغنى الحضاري صفة مميّزة، يحتاج إلى العناية والعمل الجاد والمسؤول. في صدد الحديث عن المولفونو (المعلم) الموسيقي والمؤلف السوري نوري إسكندر (1938 - 2023)، الذي رحل في السويد في الخامس والعشرين من الشهر الحالي، نتناول إحدى أكمل التجارب البحثيّة والتأليفيّة، التي عالجت، بمستوى عال، قضايا الموسيقى السورية المتشعّبة، وتفردت بعلاقة الهوية بالتراث.

تشترك كل المحاولات التي تتناول الموسيقى العربية عامةً، بأنها قائمة على أعمدة علميّة تطمح إلى تقديم نموذج حداثي للموسيقى الشعبيّة. ولكن هذه الطموحات بمعظمها دخلت من بوّابة الحداثة الأوروبية، حاملة قواعد ونظريات قد تنطبق بشكل سطحي على بعض السلالم والإيقاعات العربيّة، ولكن تبقى غريبة عن فردانيّة شخصيتها.

جاءت رؤية نوري إسكندر مناقضة لهذه المحاولات، إذ عمل على استخلاص الخصائص الحداثية من صميم الموسيقى السورية، مستندًا إلى مخطوطات الأديرة السريانية بألحانها التي ترجع إلى القرون الميلادية العشرة الأولى. كان إسكندر باحثًا ومؤرخًا انتشر حوله كثير من التساؤلات عن استناده إلى الموروث السرياني، ومدى عمق بحثه في جذور ألحانه. لم تهدف هذه التساؤلات إلى التشكيك، بقدر ما فتّشت عن أرضيّة صلبة للمسلك الذي انتهجه إسكندر، ولا سيما أنه مقنع علميًا وتاريخيًا.

كل التساؤلات تتلاشى أمام عمل إسكندر المضني كمُوثّق وناقل لكل ألحان أديرة الرّها ودير الزعفران ضمن كتابين وبتدوين موسيقي حديث. يعود بعض تلك الألحان المحفوظة إلى ما قبل المسيحية، وبعضها الآخر كان من وضع الآباء الموسيقيين السريان.

وبالبحث أكثر، نتوقف عند كثيرين، منهم مار أفرام السرياني في منتصف القرن الرابع الميلادي، وهو شاعر وموسيقي، وضع ألحانًا (مداريش) متأثرًا بالألحان الشعبية من فترة ما قبل المسيحية، فنقل جزءًا منها إلى جانب ما وضعه هو من ألحان، كما فعل مار يعقوب السروجي، مار إسحق، وغيرهما. فكان أن لعبت الكنيسة دورًا عظيمًا في حفظ تراث موسيقى سورية ضمن جدرانها لما يقارب 1600 عام. ويَذكر إسكندر أن الموسيقى السريانية حصيلة الألحان الوثنية، والموسيقى الشعبية المنتشرة في بلاد الشام، والموسيقى التي وضعها الآباء في الكنائس، وتحتوي على التأثيرات اليونانية، والتاثيرات البيزنطية.

طوال ستين عامًا، اجتهد إسكندر للوصول إلى جذوة الموسيقى السوريّة، منعتقًا بها من الظرفيات الطقسية الدينية، والانجرارات القومية، والحزازيات العرقية، ومنطلقًا لتكريس مسار موسيقي وفكري متصالح والسيرورة الجدليّة للتاريخ، ومحافظًا على هويته كمولفونو سرياني نازعًا عن كاهله ثقل المظلوميات التاريخية، ليتعاطى مع الواقع الموسيقي بعقلية الباحث الذي ارتاد جلسات الأذكار في جامع العثمانية في حلب لعشرة أعوام، فهو لم يرَ في الموسيقى الإسلاميّة طغيانًا، بل استمرارًا مستندًا إلى الموسيقى السريانية.

لطالما اعتاد إسكندر تفريغ الحوار من المتفجرات الحزازية والنزعوية في مقابلاته وتحليلاته ودراساته، وبما يتعلق بالتراث، آمن بأنّ تقديس التراث فكرة مشوبة بصعوبة احتضان التراث في خضمّ الحداثة المعيشة، وسيادة النتاج الأوروبي المُقوعَد والمدروس والمنتشر، فالتراث يحوي في خفاياه آلاف السنين من موسيقى وألحان غُنّيت ورُنّمت ولم تدوّن أو تحفظ كمخطوطات، لكنها حتى اليوم مزروعة في روح الشعوب، في تراثهم الدنيوي، وفي طقسياتهم الدّينية. وهذا ما لا يمكن إنكار تجلياته كسمات هوياتيه تحتفظ فيها الشعوب وتناضل لأجل بقائها، ومن هنا يمكن أن ننطلق لتحليل مدرسة إسكندر والمنهج الذي أعدّه لتوليد الموسيقى المعاصرة من صميم التراث، حيث ارتكز على عدة تفاصيل، هنا أبرزها.


الارتجالات: اعتبر إسكندر أنّ المواد الموسيقيّة الفطريّة، كالموال والعتابات والميجنا والارتجالات الآلية الشعبية وغيرها، هي المنبع الأصدق والصّفة الغالبة على التّراث والمحبّبة فيه ليومنا هذا، فتوخى التّمحيص والعناية بتفاصيلها كالاهتزازات والانزلاقات الصوتيّة والتّحليات، وأيضاً الفروق المايكروتونية التي تتوافر بشكل عفوي فيها، مصبغةً عليها الخصوصيّة التي تُعدّ من كبرى التحديات الحسّاسة. فكان على إسكندر، لكي يُنتَج عمل مثل كونشيرتو التشيللو بشكله الأخير المتكامل، أن يجرب احتمالات كثيرة جدًا من التآلفات الموسيقية والألحان الدرامية، لينتقي منها خيارًا واحدًا مُتلائمًا وروح الموسيقى الشّعبية وشخصياتها الارتجالية وتنويعاتها الكثيرة.

ونظر نوري إسكندر إلى المقامات في موسيقى المنطقة على أنها مؤلفات، وذلك لسبب أول تاريخي يبحث في السيرورة الزمنية التي تشكلت خلالها شخصية المقامات، حتى وصلت إلينا اليوم بشكلها الحالي، خصوصًا أنّ الألحان الثمانية السريانية ضاربة بالقدم، إذ وردت لأول مرة في القرن السابع الميلادي في كتاب "اللؤلؤ المنثور" للبطريرك أفرام برصوم الأول، باسم "أكاديا" أي الألحان الثمانية، كما ذكرها الفارابي في القرن العاشر الميلادي في كتاب "موسيقى السماع"، مشيراً إلى أنها أقدم نظام موسيقي معروف نشأ في بلاد ما بين النهرين، وهذا ما تؤكده الدراسات الموسيقية الآثارية، بأن السلالم الموسيقية الثمانية جاءت إلينا من رقيمات اكتشفت في مقبرة أور الملكية.
 
أما السبب الثاني، فهو تحليلي، يعالج المقامات كتراكيب من مجموعة مسافات صوتيّة، تتولد منها انطباعات حسيّة تتنوع باختلاف ترتيب تلك المسافات. تؤدي هذه الآليّة إلى مُخرجات تختلف عن الصّيغ الجمالية التّقليديّة، واحتمالات حسيّة أكثر تعدّديّة، فتفتيت المسافات المايكروتونية بين الأصوات، والتعاطي مع المنظومة المقاميّة بمبدأ تجزيئي يُكثر من مفردات المادة الموسيقيّة.

من جهة أخرى، عالج إسكندر الأصوات على أنها كائنات تحتاج إلى محيط ملائم تنمو فيه بظروف طبيعية، وجسدها عمليًا باجتراح تآلفات عضويّة غير مأخوذة من قواعد مسبقة الصنع، تلعب هذه التآلفات الدّور الهارموني، وأحيانًا البوليفوني. فتارة تكون الوسادة للألحان، وتارة أخرى الندّ والمُحاور، ما أفرز درامية مُعقّدة وخارجة عن طيف الانطباعات الكلاسيكية المندرجة بين حدّي الحزن والفرح، وبثّ فكرًا أكثر مرونة، وحرّر مساحات مريحة للتأمل بالأصوات باعتبارها عنصرًا موسيقيًا مكتمل القوام.

عمل إسكندر على تكريس التّعامل العضوي مع اللحن والإيقاع والقالب، كاسرًا الأطر والحدود المقدّسة، فالقوالب التي نتعامل من خلالها مع موسيقى هي قوالب سردية مُقفلة، تقوم على فرش الألحان ضمن الضغوط الإيقاعية التقليديّة، من دون الاستجابة للتعبير الفني الحر، كذلك فإنها تنتقص للعنصر الدرامي والجدليّ ما بين الأفكار الموسيقيّة، وبذلك تقف عائقًا أمام استرسال المادة الفنية الموسيقيّة لتقديم أفكار وانطباعات أوسع من حدود القالب، وفي كلتا الحالتين فإن اقتراح قوالب جديدة أو اعتناق قوالب حرة سيؤدي إلى تحرير الفنان من ضوابط مُسبقة، لذلك كانت أعماله أشبه بقصيدة نثريّة موسيقيّة.

تتالت على سورية طبقات حضاريّة ابتداءً من قبل الميلاد وحتى اليوم، فراكمت هذه الأرض كل ما أنتجته الشعوب التي سكنتها، ولكن كم كانوا أوفياء أولئك الآباء الذين كتبوا ووثقوا الألحان وحفظوها لأكثر من ألف عام.

وكم نحن محظوظون بوجود معلّم لم يكتفِ بنقل هذا الموروث للعالم فقط، بل حرص على استخراج مُستَخلصاته الحضاريّة، ولم يكتب مئات المؤلفات ليبني جسرًا بين التراث والحداثة فقط، بل سلك كل تلك الطرق الوعرة ليخلق مدرسة ومذهب موسيقي سوري صاف، يحتوي على القواعد والمنهج. فأسئلة نوري إسكندر لم تنتهِ، والشكر لكل ما قدّمه يكمن بالمتابعة والبحث.

المساهمون