استمع إلى الملخص
- نهاد قلعي ودريد لحام قدما برامج تجريبية مستلهمة من التلفزيون الأميركي، ونجحا في تقديم أعمال كوميدية شهيرة مثل "عقد اللولو"، مما ساعدهما على الانتقال إلى السينما.
- تميز قلعي في الكتابة، حيث كتب مسلسلات تلفزيونية تعكس رؤيته النقدية للمجتمع، واستمر في العمل الفني حتى وفاته، مؤكداً دوره الريادي في تطوير الكتابة للتلفزيون.
فجأةً، حضر التلفزيون في الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة. في عام 1960، افتتحت محطة تلفزيونية على ظهر جبل قاسيون المطل على دمشق، عاصمة هذا الإقليم أثناء الوحدة السورية المصرية. وهذه المحطة هدية من الحكومة الأميركية للدولة الوليدة، ودربت كوادرها في نيويورك لفترة قصيرة، وانطلقت في 23 يوليو/تموز من ذلك العام. كانت تبث من استديو وحيد في قمة الجبل بثاً مباشراً من دون تسجيل أو مونتاج ساعات معدودة في اليوم، والأخبار هي الفقرة الرئيسية فيها، وباقي الفقرات ــ وخصوصاً الترفيهية منها ــ تُدبر بما يشبه الارتجال.
وقد شكل حضور التلفزيون صدمة قوية لدى الجمهور؛ فهذا الصندوق لا يعرف أحد سر تشغيله وصيانته وحتى إصلاح أعطاله، ولا أحد يعرف محتواه ومدى تأثيره في الأعراف والتقاليد بوصفها ثقافة عامة اطمأنت للإذاعة مصدرَ معلومات وتسلية. وفي موازاة ذلك، لم يكن الفنانون يعرفون ما يفعلون بمنبر جديد يعدهم بآفاق التكريس والشهرة والمال. فما يعرفونه عن منابر الفن كان المسرح ثم الإذاعة والسينما، وهي تقنيات مفهومة مقارنة بهذا الاستوديو العجيب على ظهر جبل، حيث على الفنان الظهور كأنه على المسرح، ويتصور كسينما، ويبث كإذاعة، وهذا كله يحتاج إلى عاملين يعرفون أسرار مهنه المختلفة، حتى يستطيعوا العمل والإنتاج، ولكن العلم بهذه الأسرار لم يكن متاحاً، وعلى الفنانين المغامرة.
كان نهاد قلعي (1928 ــ 1993) من هؤلاء الذين اصطدموا بالحالة التكنولوجياتية التي هبطت عليهم من حيث لا يدرون، وعليهم إيجاد الحلول من أجل استعمالها بما هو أقرب للإمكانات المتوفرة لديهم ولدى الجمهور المتلقي، فكان برنامج "الإجازة السعيدة" (1960)، الذي يبدو الآن تجريبياً للغاية، يعلن عن معارف نظرية حول الدراما عامة، والكوميديا خاصة، كان الفنانون قد اكتسبوها من النوادي الفنية/ الثقافية التي انتشرت في النصف الأول للقرن العشرين، مثل استوديو البرق الفني (1946) و"النادي الشرقي" (1954). ثم كتب قلعي مع دريد لحام "سهرة دمشق" (إخراج خلدون المالح الذي تدرب في نيويورك)، وهو برنامج كوميدي يحاول التشبه بالبرامج الكوميدية الأميركية، ومعه توطدت علاقة لحام بقلعي، على أساس ثنائي كوميدي يقارب "لوريل وهاردي" مع اختلاف المواضيع والبيئات. وانطلق الممثلان في عالم الشهرة العربية ليمثلا أفلاماً ومسرحيات ومن بعدها مسلسلات ذات 13 حلقة، والمهم أن قلعي وزملاءه تجرأوا وقاربوا التعامل والتفاعل مع هذه التكنولوجيات المحدثة.
صحيح أن دريد ونهاد نجحا بصفتهما ثنائياً في التمثيل، ولكن قلعي انفرد أكثر في الكتابة للسينما والتلفزيون، إذ استوعب فكرة المسرح المذاع، وكتب دائراً في فلكها ثلاثة من أهم المسلسلات العربية وقتئذ، وذلك في خضم التحولات السياسية في العالم الثالث عموماً، والعالم العربي خصوصاً، حيث ظهر طاقم جديد من الحكام، متكئين على أيديولوجيات تعيد تشكيل الثقافة الجماعية، فلجأ قلعي إلى التورية والترميز للتعبير عن رؤيته للمجتمع الحديث، ناقداً هذه الثقافة عبر إدانته الدائمة للفهلوة والتحايل، والاستخدام الملتوي للقوانين التي تنتجها الأيديولوجيات، وليس المعرفة الحقوقية التي تأمل في أن تصبح كونية، معتبراً أن أي خطأ فيها، أو التعامي عنها، سيضع هذه التجمعات البشرية في مواجهة تحدي الفناء.
فالثقافة الحقوقية هي تربية تلجأ إليها المجتمعات من أجل البقاء وليس أقل، لذلك نلحظ أن المجتمعات الرمزية التي ابتكرها كانت من تجمع عشوائي من البشر (مقهى، حمام شعبي، فندق شعبي)، وأغلب الشخصيات لا تنتمي إلى منظومة قيمية واحدة، إذ يظهر مفهوم الخلاص الفردي مفهوماً مدمراً، على الرغم من تأكيده إبراز الشخصية الفردية عبر الإضاءة على دورها الإبداعي المغامر، على الرغم من كل معيقات الجماعة البشرية الغافلة عن معنى المجتمع الذي يبنى على المصالح بين أعضائه وليس على أي شيء آخر، وهنا (على ما أعتقد) جوهر مشروع قلعي في الكتابة للتلفزيون، مؤجلاً صدمته التكنولوجياتية للأجيال اللاحقة، حين سيكون تأثير التلفزيون ماحقاً، في قراءة أعمق لجزء "ملح وسكر" الملحق بمسلسل "صح النوم".
كانت السينما (في الأيام التي كان فيها جمهور يرتاد الصالات) هي المحطة الكبرى في سيرورة قلعي (مع دريد لحام طبعاً) ممثلاً، فعلى الرغم من انطلاقهما من التلفزيون، إلا أن السوق السائدة للفن وقتئذ هي السينما بصالاتها التي جمعت على كراسيها كل فئات المجتمع، فقد كانت النافذة الأكثر اتساعا لتداول مدهشات الحكايات، والإنصات إلى فن التمثيل. ولم يكن قلعي ممن حباهم الله بمظهر يناسب نجومية هاتيك الأيام، فقد كانت السينما المصرية تسيطر على تصنيفات كهذه، وانتقال قلعي (مع لحام) إلى صفوف النجومية كان بسبب الكوميديا التي أحبها الجمهور، وبالإفادة حتماً من ثنائية "لوريل وهاردي" التي عرفها الجمهور سابقاً، على الرغم من أن هذه الثيمة الدرامية معروفة وأصلية في ثيمات الدراما. أضف إلى ذلك العامل اللبناني، حيث كان المنتجون يستثمرون في الأفلام، ومغامرتهم بإنتاج أفلام لهذا الثنائي الكوميدي وسع دائرته العملية ليذهب إلى مصر أيضاً، ويقدم الاثنان نفسيهما ممثلين لهما سوق واسعة تجعل المغامرة مضمونة النتائج، ليصيرا ممثلين مشهورين، ينتظر أفلامهما الجمهور.
فيلمهما "عقد اللولو" مع صباح وفهد بلاّن (1964، إخراج يوسف معلوف) حصد نجاحاً باهراً، مع أنهما لم يكونا بطليه، إلا أنه كرسهما "معاً" في الصفوف الأولى للممثلين العرب، فتتالت الأفلام حتى قاربت 30 فيلماً بين ستينيات العقد الماضي وسبعينياته، وهنا علينا ملاحظة أن جودة التمثيل متأتية من وجود هذا الثنائي، وكأن أحدهما مفتاح لخيال الآخر، لذلك لم نر فيلماً من شغل نهاد قلعي وحده، وكأنه لا يكفي وحده، أو أن كاراكتيره التمثيلي لا يكتمل إلا بشريكه، وهنا ربما علينا التدقيق في إمكانيات الممثل لديه لإننا لم نر له عملاً ينفرد به، على الرغم من استمرار لحام في تقديم أعمال سينمائية بعد غياب قلعي بعيد تقديم مسرحية "غربة" (1976).
كان قلعي شغوفاً بالفن كتابة وتمثيلاً وإخراجاً، مسرحاً وسينما وتلفزيون، وكان يراه أرقى وسيلة توصيل وتواصل، ولم يتوقف عنها حتى وفاته، فقد كان يكتب في فترة مرضه في مجلة "سامر" قصصاً كرتونية للأطفال، كما ألف مسلسلاً تلفزيونياً للأطفال ولم يوفق في تسويقه، على الرغم من ادعائنا أنه أستاذنا جميعاً في الكتابة للتلفزيون.