نضال الدبس يروي "حكايا بيتية": صالات مُقفلة كبلدان وحياة

13 يونيو 2022
شهودُ مرحلة منتهية في راهن القاهرة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يروي نضال الدبس فصلاً من سيرته، في "حكايا بيتية" (2021). يختار فقراتٍ منها. يُدخل الذاتيّ في العام، مع أنّ العام متداخلٌ بشدّة مع الذاتيّ. السينما، صالة وأفلاماً وحكاياتٍ ونقاشات، نواةٌ أساسيّة، تمتزج سرديّتها الوثائقيّة في ثورةٍ وهجرةٍ، وفي إغلاق صالاتٍ، وجهدٍ لإعادة فتح أبوابها، أو أبواب بعضها على الأقلّ، في الذاكرة كما في الواقع.

الثورة، في جديد الدبس ـ المعروض في الدورة الـ11 (10 ـ 19 يونيو/حزيران 2022) لـ"أيام بيروت السينمائية" ـ تبدأ في القاهرة (25 يناير/كانون الثاني 2011)، واندلاعها في سورية لاحقاً (18 مارس/آذار 2011) دافعٌ إلى تأمّل في مستقبلٍ مرغوبٍ فيه، فلعلّه يكون أفضل، قبل أنْ يُسمَع صوت رصاصٍ، وتُقام جنازات، ويودَّع أصدقاءٌ ومعارف قبل خروجٍ، يريدونه من أجل أمانٍ وخلاصٍ.

الهجرة قدرٌ، فالوحش يفتك بالناس، والقاهرة أقرب إلى دمشق، والسينما في سورية ومصر سيرة نضال الدبس نفسه. للمخرج ـ المولود في حمص (1960)، التي يُشاهِد أفلاماً أولى في صالة قريبة من منزل أهله فيها ـ هوسٌ بالفنّ السابع، فينقاد إليه مُشاهداً ومُشاركاً في تأسيس نادٍ للسينما، قبل أنْ يُخرج أفلاماً، ويكتب مشاريع سينمائية، آخرها عن نادي السينما نفسه، وعن الصالات المغلقة في الشام؛ وشاهداً على اندثار حياة ونهاية مرحلةٍ، فيختار، رفقة زوجته ليلى وابنتهما سلمى، القاهرة ملاذاً، ففيها ثورة وسينما وحياة، وأجزاء كثيرة من تلك الثورة والسينما والحياة مُعطَّلة ومنتهية أيضاً.

المسارات، التي يرويها نضال الدبس بصرياً، متناسقةٌ في كشف حكاياتٍ، بعضها حميميّ وخاص، كالمنزل المتروك في سورية، وكالتفاصيل الصغيرة في يوميات سلمى، وبعض تلك التفاصيل التقاط صُور كثيرة لها، إذْ يُصوّرها الدبس منذ ولادتها، لأنّه يريد مشاهدة تلك الصُور معها حين تكبر، "ونضحك (سوياً)". لكنّه، كما يقول، لم يكن يتوقّع من هذه الصُور "أنْ تحكي الحكاية".

بداية "حكايا بيتية" مرتبطةٌ بالصورة، فوتوغرافية وآلة فيديو ثم كاميرا وثائقية، وهذا غير هامشيّ. السينما طاغيةٌ. مشروعٌ عن صالاتها المغلقة في دمشق ترفضه "المؤسّسة العامة للسينما"، ثم ثورة وحرب، ثم هجرة إلى القاهرة، التي تشهد أيضاً إغلاق صالاتٍ، قبل تعطيل ثورة أيضاً، فيُغامر نضال الدبس في رحلة بحثٍ فيها عن ذاكرة وحكايات.

يُظنّ، لوهلة أولى، أنّ الوثائقيّ مُعبَّأ بمواضيع كثيرة. هذا صحيح. لكنّ المواضيع الكثيرة تُختزل بالأهمّ: السينما والحياة. والمونتاج (ميشال يوسف شفيق، ومستشار التوليف سْتِن يوهانّسن) يُساوي بينها في نسقٍ سلسٍ ومُبسّط، يُساهم في إشراك المُشاهد في تلك الرحلة، المفتوحة على مسائل تمسّ عصب اليوميّ في حياة مخرجٍ وعائلته، وفي هواجسه ورغباته وأحاسيسه في الثقافة والفنون والعيش، وفي ارتباطه بليلى وسلمى أساساً، وفي تواصله مع أقارب في مدينةٍ مُصابة بلعنة البطش والقتل والتدمير.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

كأنّ إغلاق الصالات في دمشق انعكاسٌ لإغلاق البلد على ناسه، الممنوعين من حياةٍ يريدونها. وإغلاق الصالات في القاهرة امتدادٌ لثقافة العزلة والتقوقع وقطع كلّ تواصل ممكن مع الذات والآخر. لكنّ منفذ خلاصٍ أو راحةٍ أو سكينةٍ يحضر في ثنائيٍّ، يراه الدبس في السينما والعائلة. أو هكذا يوحي، بتكرار ظهور سلمى في احتفالاتٍ وخبريات وحالاتٍ، وليلى حاضرةٌ، والصُور أيضاً، كما السينما وحالاتها وأشكالها.

فشل نضال الدبس في تحقيق مشروعه في دمشق دافعٌ إلى إنجاز "حكايا بيتية" في القاهرة، من دون الابتعاد عن دمشق. الإغلاق فعلٌ يجعله الدبس وسيلة بوحٍ، توثِّق نمط حياةٍ في مدينتين وذاكرتين، وفي عشقٍ واحد، له أشكال مختلفة للبوح به. فقدانه صُوراً، مُلتَقَطة لمشروعه الدمشقي غير المُنجز، أشبه بفقدانه جزءاً من حياةٍ له، في دمشق أساساً: "صُور كثيرة ضاعت. صُورُ سورية، التي ربما لم تعد موجودة إلا في ذاكرتنا"، يقول الراوي بلسان نضال الدبس، وبروحه وانفعاله وقلقه.

تلك الصُور المفقودة محفوظةٌ في "فلاش ميموري"، لن يعثر عليه أحدٌ. هذا فقدانٌ إضافيّ، فالدبس ينتقل من فقدان إلى آخر، وفي الوقت نفسه يواجِه الفقدان بإصرارٍ كبير على إنجاز فيلمٍ، إحدى حكاياته متمثّلة بالفقدان أيضاً: إغلاق صالات سينمائية في مدينتين عربيتين، له فيهما حياة وذكريات وأعمال وعيش ومشاعر. كما بإصرارٍ جميلٍ على حياةٍ، يصنعها بهدوءٍ وثباتٍ.

لن يكون عابراً جعل الحكاية الأولى، من "حكايا بيتية"، سرداً لقصّة قبو صغير في الشام، يُصبح نادياً للسينما، بجهد شبابٍ عديدين. هذه بنية النصّ الوثائقيّ برمّته، ومنه تُروى حكايات أخرى، وتُصوّر لقطات كثيرة لتلك الحكايات، وينكشف نضال الدبس، فرداً ومخرجاً وزوجاً وأباً، أمام كاميرا (تصوير: محمود لطفي، شارك في التصوير: إسلام كمال وأيمن النقلي ومحمد عبد الرؤوف)، تتجوّل في ذاتٍ وروح وأزقّة وأزمنة وحالات، وتوثِّق سيرة سينمائيّ وعائلته ومدينته وهجرته، ومرويّاته عن السينما والحياة.

"حكايا بيتية" ـ المُنجز ببساطة وسلاسة سينمائيتين، تُتيحان تمعّناً أكبر في ما يُقال ويُروى ويُصوَّر ويُعاش ـ شهادة بصرية عن خرابٍ يعتمل في بلدٍ واجتماع وثقافة وحياة، وبوحٌ حميميّ عن سيرة وعلاقات وحبّ وتأمّلات ورغبات.

المساهمون