ناجي العلي... غزة تدير ظهرها للعالم

25 ديسمبر 2023
من أعمال الشهيد ناجي العلي (فيسبوك)
+ الخط -

لو كان ناجي العلي حياً، لربما رسم طفله حنظلة يقف مكتوف اليدين، يراقب صواريخ الاحتلال الإسرائيلي تمطر غزة، أو لربما عاين أشلاء أطفال متناثرة وسط الدمار، أو تأمل مليونين و200 ألف إنسان وقد حُشروا في مساحة 360 كيلومتراً؛ هذه غزة المحاصرة منذ 17 عاماً.

يرى ناجي العلي أن "للكلمة والخط المرسوم وقعا أقوى من طلقات الرصاص"، وربما هذا ما جعل الأصوات تعلو، عسى أن يسمعها الرأي العام العالمي. عشرات التظاهرات في العالم، وسيل المقاطع والصور المؤلمة الآتية من قطاع غزة، والمناشدات لوقف إطلاق النار، كلها لم توقف جرائم الاحتلال في القطاع المحاصر. توجه وزير الخارجية الفلسطيني، رياض المالكي، للعالم بتصريح مفاده بأن قطاع غزة تحوّل من أكبر سجن مفتوح، إلى أكبر مقبرة في العالم، ويا لها من مقاربة في كاريكاتيرات ناجي العلي، إذ تحول الغزيون جميعاً إلى موتى.

لم تكن القضية الفلسطينية، بما فيها من مأساة شعبية وخيبات سياسية، محوراً لرسومات العلي فحسب، بل هي محور حياته وتفكيره ونضاله، إلا أن انغماسه في قضية بلاده، لم يمنعه من اتخاذ موقف، فحين رسم حنظلة؛ كان ذلك امتيازاً، وبات هذا الطفل، ذو العشرة أعوام، عيناً تراقب المشهد تارةً، وتنخرط فيه تارةً أخرى. يمكن أن نجد في أرشيف العلي، الذي يتجاوز 40 ألف رسمة كاريكاتيرية، رسومات تتقاطع مع المشاهد الحية التي تصلنا من غزة، فالتاريخ الدموي لم يبدأ بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.

وُلد حنظلة على صفحات صحيفة السفير اللبنانية، وعرّف في ظهوره الأول عن نفسه، هو المولود في تاريخ نكسة يونيو/ حزيران 1967. اشتق العلي اسمه من المرار، وعام 1973، أدار وجهه ولم يلتفت بعد ذلك، عقد يديه خلف ظهره في وضعية تشير إلى رفضه لأي تسوية للقضية الفلسطينية. تُشكل ملابسه الرثّة، وقدماه الحافيتان، ملامح شخصيته، كما رسمت المعاناة الفلسطينية ذاكرته وحاضره، وصاغت وعيه السياسي.

معرض لرسومات ناجي العلي في الكويت عام 2018 (ياسر الزيات/ فرانس برس)

يقول ناجي العلي في معرض حديثه عن طفله: "ولد حنظلة في العاشرة من عمره، وسيظل دائما في العاشرة، ففي تلك السن غادر فلسطين، وحين يعود إليها سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تسري عليه؛ لأنه استثناء كما هو فقدان الوطن استثناء".

رأى ناجي العلي أن شخصية حنظلة ستبقى امتداداً له بعد رحيله، فصاغ عبرها رؤيته الثاقبة للمستقبل، هو إذ يتماهى معها يذهب إلى أبعد من صفة "المثقف العضوي" وفق التعبير الغرامشي، فناجي العلي الذي اتخذ موقفاً سلبياً من مثقفي السلطة واصفاً إياهم بـ"ﺍﻟﺫﻴﻥ ﻻ يملكون ﻤﻥ ﺃمرﻫﻡ شيئاً"، دفع حياته ثمناً لآرائه الواضحة، التي لا تعرف المهادنة أو المواربة، عام 1987.

حاله حال حنظلة، خرج ناجي العلي الطفل من قريته الشجرة في الجليل الأعلى عام 1948 عندما كان في العاشرة، ولا ريب أن المشاهد التي نقشت ذاكرته في سنته العاشرة، ستلقى تجلياً في مشاهدات حنظلة، فأعاد معالجة الواقع وفق مخزونه البصري الذي تشكل إبان النكبة، لكن الطفل الكاريكاتيري الذي لا يكبر، ينظر إلى الماضي ويسجل الحاضر ويستشرف المستقبل.

منذ عملية طوفان الأقصى، تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي كاريكاتير نُسب إلى ناجي العلي، يظهر فيه حنظلة يراقب هبوطاً مظلياً لقتلى من الجنود الإسرائيليين في محيط المسجد الأقصى، في إشارة إلى النظرة الثاقبة التي امتلكها الفنان الذي اغتيل منذ أكثر من 35 عاماً.

قد يصعب إثبات ما إذا كان الرسم لناجي العلي، إلا أن هذا يستند على عدد من الرسوم التي استشرف من خلالها مستقبل بلاده السياسي القريب والبعيد. يصرّ العلي أن لفلسطين طريقاً واحداً، وهو البندقية. لهذا، يحضر برسومه مع كل عملية للمقاومة الفلسطينية، فانتشر رسماً على مواقع التواصل الاجتماعي من وحي أعماله، يظهر حنظلة أثناء هبوطه بمظلته غير العسكرية في المستوطنات الإسرائيلية، في مشهدٍ مستوحى من الحدث الذي استفاق العالم عليه في يوم عملية طوفان الأقصى. يحمل هذا الرسم في أعماقه تحية لروح الشهيد ناجي العلي.

قدمت الكاتبة الفرنسية، سيفان هيلفي، كتاباً يحمل عنوان "حنظلة... رسوم ناجي العلي المقاومة". أودعت كتابة المقدمة لخالد ناجي العلي، نجل الفنان الراحل، الذي يؤكد آنية رسومات والده وارتباطها بالحاضر، إذ تتعدى أهميتها كونها مادة أرشيفية تتعلق بالتاريخ الفلسطيني، لتصل نحو قراءة المستقبل. يشير خالد إلى أن رسوم والده عكست نبوءة تؤكد صحتها التطورات السلبية التي ما زالت تعرفها قضية الشعب الفلسطيني والمنطقة العربية بوجه عام. فالراحل لم يتنبأ بمقتله فحسب، فقد رأى نفسه منذ أن قرر الرسم لفلسطين أنه في عداد الشهداء؛ فقال متيقناً: "اللي بدو يكتب عن فلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين بدو يعرف حاله ميت".

معرض لرسومات ناجي العلي في الكويت عام 2018 (ياسر الزيات/ فرانس برس)

الأمر لم يتوقف عند كاريكاتيره الشهير الذي كتب فيه صحافي وصيته بعد مقاله عن الديمقراطية، ولا على كاتم الصوت الذي قضى العلي برصاصه بعد كاريكاتيره الذي يحمل عبارة "لا لكاتم الصوت" كتبت فوق جثّة لفّت بالكوفية الفلسطينية. الأمر عند ناجي العلي يتجاوز النبوءات الفردية حول مصيره الشخصي، نحو مستقبل بلاده.

غداة اغتياله بأربعة أشهر، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في الثامن من ديسمبر/كانون الأول عام 1987، والتي انطلقت من مخيم جباليا الغزي، ووصلت إلى مدينة نابلس ومخيم بلاطة للاجئين الفلسطينيين، الموقع الذي حدده العلي في كاريكاتيرٍ له يصوّر فيه حنظلة يحمل حجارةً مستعداً لقذفها نحو الجندي الإسرائيلي، كما جسد هذه النبوءة في أكثر من عمل، فنشر رسماً يظهر فيه حجاجاً عائدين من الأراضي المقدسة مستعدين لقذف الجنود الإسرائيليين بالحجارة عوضاً عن رجم الشيطان. 

في أحد رسومه، نلاحظ حنظلة يحمل بيده صخرة عظيمة يهوي بها ضد الاحتلال، كتب تحته: "وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم". وفي رسمٍ آخر، يحرر المسيح الفلسطيني يديه من المسامير ويقذف بحجارة. لطالما اعتبر العلي مفاوضات إنشاء حكم ذاتي فلسطيني بمثابة تخلّ ﻋﻥ كامل التراب الوطني، فرأى في الحكم الذاتي تنازلاً عربياً عن تحرير الأراضي المحتلة. في إحدى رسوماته، جعل فتيةً صغاراً يكتبون: "ﻻ"، بالحجارة رداً على جندي إسرائيلي يحمل ﻭﺭﻗﺔ كُتب ﻋﻠﻴﻬﺎ "الحكم الذاتي".

يشير الباحث خالد الفقيه، في ورقته "حركة الوعي في كاريكاتير الفنان ناجي العلي"، إلى أن ناجي العلي كان فناناً رادارياً ومتنبئاً. حذر الفنان في رسوماته من خطورة خروج ﺍﻟﺴﻼﺡ الفلسطيني من ﻟﺒﻨﺎﻥ، وما يترتب على ذلك من عواقب ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺨﻴﻤﺎﺕ وسكانها. يوضح الفقيه أن نبوءة ﺍﻟﻌﻠﻲ صدقت، ﻓﻤﺎ إن خرجت الثورة من بيروت حتى انقضت القوى ﺍﻟﻤﺘﺤﺎﻟﻔﺔ مع إسرائيل ﻋﻠﻰ مخيمي صبرا وشاتيلا ونفذت ﻓﻴﻬﻤﺎ مذابح وحشية، كما امتلك ناجي العلي نبوءةً تخص بناء إسرائيل للمستوطنات ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺽ ﺍﻟﻤﺤﺘﻠﺔ، وحذّر من ذلك.

وإثر انتفاضة السكاكين التي اندلعت في أكتوبر 2015، كشف خالد ناجي العلي عن مجموعة من رسوم والده القديمة التي اعتبرها استشرافاً لـ"انتفاضة السكاكين"، وتضمنت خمسة رسوم كاريكاتيرية عن المقاومة بالسكين، واستخدم فيها شبان فلسطينيون السلاح الأبيض في تنفيذ عشرات عمليات الطعن لأفراد جيش الاحتلال، ويظهر حنظلة في أحد الرسوم وهو يراقب جنود الاحتلال يرتدون دروعاً خشيةً من عمليات الطعن.

وعلى صعيدٍ عربي، امتلك العلي ﺭﺅية مستقبلية ﻓﻲ تجسيده انجرار بعض القيادات الفلسطينية ﻭﺭﺍﺀ قطار التسوية، ﺍﻟﺫﻱ ﺍﻓﺘﺘﺤﻪ ﺍﻟﺭﺌﻴﺱ ﺍﻟﻤﺼﺭﻱ الأسبق أنور ﺍﻟﺴﺎﺩﺍﺕ، واتخذ موقفاً واضحاً ضد التسوية معتبراً إياها خطوة نحو الإذعان والاستسلام. وعبر عن الأمر حين قال: "كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي. أنا أعرف خطا أحمر واحدا: إنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة استسلام وتنازل لإسرائيل". وعن رفضه التسوية، رسم رجلا فلسطينياً متشحاً بكوفيته يتصفح مقالاً معنون بقطار التسوية، بينما يرتسم قطاراً على أطراف الكوفية في إشارةٍ منه إلى أن التسوية تقتضي تصفية القضية الفلسطينية.

امتلك العلي عقلية تحليلية وقدرة استثنائية على التعبير عن الراهن وقراءة المستقبل المتعلق بالقضية الفلسطينية والشأن العربي، ولم يختر الحياد؛ فأعلن انحيازه للفقراء: "فهم الذين يموتون، وهم الذين يُسجنون، وهم الذين يُعانون المعاناة الحقيقية" على حد تعبيره.

مع العدوان الإسرائيلي على غزة، تعود رسومات ناجي العلي إلى الأذهان؛ فهو الفنان الذي جعل من رسمه حاضراً في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، ولا سيما تلك الأعمال التي تجسد فلسطين النازفة، بشخصياته المستقاة من البيئة الفلسطينية؛ كحنظلة وفاطمة المرأة التي تعلق في عنقها مفتاح العودة والشهيدة والرجل الطيب، إضافة إلى رسومات تتناول المجزرتين الوحشيتين في صبرا وشاتيلا، تلك التي تقارب في دمويتها المشاهد التي نراها حالياً عند العدوان على قطاع غزة.

المساهمون