ناجي إسماعيل: الكتابة للسينما علاج نفسي وتمرين جيّد

26 ابريل 2023
ناجي إسماعيل: جلسات النساء حرّضتني على اختيار السينما (الملق الصحافي)
+ الخط -

 

أمٌّ تحتضر. تُفكّر في مصير ابنها وابنتها، لأنّها تُدرك جشع العمّ، ورغبته في الاستحواذ على الشقّة. كما تُدرك أنّ القانون سيكون ضدهما، فتُقرر الالتفاف عليه ومُراوغته، بأنْ تطلب من ابنتها عدم إعلام أحد بوفاتها، وتأخير دفنها إلى حين بلوغ الابنة السنّ القانونية، لتفلت من الوصاية.

ما سبق تفاصيل نشعر بها من دون أنْ نراها في الفيلم القصير "ماما" (2022)، جديد المخرج المصري الموهوب ناجي إسماعيل، الذي له "أم أميرة" (2014) و"البنانوّة" (2016)، وغيرهما. فيه يطرح برقّة قضية الوصاية على الفتيات في مصر.

مقتبس عن قصّة حقيقية، أعاد إسماعيل كتابة سيناريو روائي قصير مؤلم. بناؤه منسوج بحكمةِ فنان صادق، وبصيرته. فنان مهموم برؤية مُشْرّعة على المستقبل.

 

(*) درست في معهد السينما بعد الثانوية العامة، رغم أنّك من الصعيد. عامة، يصعب إقناع الأهل بدراسة الفن السابع، فماذا لو كان الشاب من الصعيد. هل كان سهلاً إقناع أهلك باتّجاهك إلى دراسة السينما؟

لم يكن سهلاً أبداً، خاصة أنّي الابن الأكبر لرجل صعيدي، يعتقد أنّ ابنه سُيكمل مسيرته. لكنْ، في النهاية، هو من ساعدني، وله الفضل في التحاقي بالمعهد.

 

(*) كيف يكون هذا التناقض: يرفض، ثم يساعدك؟

في البداية، لم يكن يُدرك أنّي أتحدّث عن الموضوع بجدّية. اعتقد أنّي سأستسلم بعد قليل. لكنْ، عندما وجدني مُصرّاً على رغبتي، استسلم هو، ثم بدأ يُساعدني، ويسير في الخطوات التي تهيئ لي ذلك.

 

(*) وكيف ولدت علاقتك بالسينما؟

أولاً بسبب علاقتي الفريدة بأمي. امرأة ريفية بسيطة، لكنّها حكّاءة بشكل ظريف. تغزل الحكايات الحقيقية بأساطير من الصعيد. كنت أستمع إليها كثيراً. أثارت فيّ فكرة أنْ أكون سينمائياً، خاصةً أنّها ربّتني في "الحلقة"، أي جلسات النساء التي تُقام عندنا في البلد.

نتيجة نشأتي في هذا الطقس الحكائى السردي، ونتيجة ولادتي مُصاباً في قدمي، ما يحول دون أنْ أتحرّك، بسبب عمليات جراحية أجريتها، كنتُ أجلس بينهنّ، وأستمع إليهنّ. في أحد الأيام، فاجأني أبي بإحضاره لي جهاز فيديو، فكنت بسبب الإصابة أبقى في السرير، وأتفرّج على الأفلام، مُشاهداً كلّ الأنواع. لم أكن أختار. أذهب إلى "نادي الفيديو" في سوهاج، وأستعير الأفلام وفق دورها وترتيبها على الأرفف. لم يكن لديّ ذوق معين. كنت أشاهد لتمضية الوقت.

 

(*) أعتقد أن هذا أفادك كثيراً؟

جعلني أتقبّل كلّ الأذواق الفيلمية.

 

(*) لوالدك أيضاً دور مهمّ.

لأبي دور مهم في إحضار جهاز الفيديو، ثم ساعدني في الالتحاق بالمعهد. السبب الرئيسي في دخولي المعهد أستاذي المخرج علي بدرخان، ففي الاختبارات، كان مؤمناً بي جداً. كنت أنجح دائماً في اختباراته. منذ أول لحظة رآني فيها، قال لي: "ستكون معي هذا العام".

 

(*) تخرّجْتَ عام 2006. في 16 عاماً، أنجزت 3 أفلام قصيرة. أين كنت بخلاف الإخراج؟

"يا خبر". مرّت 16 عاماً؟ ما هذا العدد القليل من الأفلام؟

 

(*) لا تُقيَّم الموهبة بعدد الأفلام. أعتذر عن سؤالي المزعج.

أنشأت شركة إنتاج صغيرة، "رحالة للإنتاج والتوزيع"، قدَّمَتْ 5 أفلام، منها: "رمسيس راح فين" لعمرو بيومي، وفيلمان لي، و3 أفلام لمخرجين آخرين، منها "فتحي لا يعيش هنا بعد الآن" لماجد نادر.

 

(*) لماذا اتّجهت إلى الإنتاج باكراً؟

كنت أعتقد أنّه سيكون مُنقذاً لأفلامي. ثم، عندما وجدت زملاء لي يحتاجون إلى الفرصة نفسها، قرّرت أنْ نعمل معاً.

 

(*) لماذا لم تنتج بنفسك أحدث أفلامك، "ماما"؟

لأنّي أنا المخرج. لا أحبّ الجمع بين الإخراج والإنتاج. مُنتج الفيلم منصّة "فيو"، التي أعلنت عن مسابقة للأفلام القصيرة، فقدّمت السيناريو، وفزت. ثم طلبت من مارك لطفي وكوثر يونس أنْ يكونا معي، كمنتِجَين منفّذين، فرحّبا وتولّيا المسؤولية.

 

(*) ما يجمع فيلمي "البنانّوة" و"ماما" هاجس مشترك. صحيح أنّهما مأخوذان من قصص حقيقية، لكنْ، يبدو لي أنّ هناك أمراً يشغلك: يُمكن أنْ يموت الإنسان من دون أن يعرف به العالم. يموت ويختفي من دون أنْ يترك أثراً، ومن دون أنْ يشعر به أحد؟

هذا حقيقي. ربما أيضاً لأنّي أعيش بمفردي، بعيداً عن أهلي. ربما أثّر بي هذا، فأنا أعمل على أفكار تشغلني فقط. أفكار غير لطيفة وغير مبهجة أبداً. يُشغلني هذا حقيقةً: الإنسان صغيرٌ جداً في مدينة كبيرة، يمكن أنْ يحدث له أي شيء في أي لحظة، ويصبح مجرد رقم، لا يشعر به أحدٌ، ولا ينتبه إليه أحدٌ.

 

(*) ما الهواجس الأخرى؟

أفكار كثيرة تتعلّق بي: لماذا نحن هنا؟ ماذا نفعل؟ ما مصيرنا؟ ما الذي سنتركه؟ ما الذي سيتحدث عنه الناس بشأننا، بعد أن نموت؟ لكنْ، يمكن اعتبارها نوعاً من علاج نفسي، لأن الكتابة عندي هكذا. أستخرج ما في أعماقي كي لا أصاب بالاكتئاب، ثم تتحوّل الكتابة إلى أفلام، تظل في الأدراج فترة طويلة، بحسب مدى نجاحي في العثور على منتج أم لا. في النهاية، أكتبها وأنا أشعر بها.

 

(*) كأنك تتطهّر؟

أُسمّيها معالجة نفسية. الطبيبة التي تعالجني تقول لي: "هذا تمرين جيد".

 

(*) أنت تتابع مع طبيبة نفسية؟

طبعاً طبعاً. لا بُدّ للإنسان أنْ ينتبه إلى صحّته النفسية. بدأت هذا منذ سنتين، منذ فترة كورونا، لأنّها جعلتني أعيش مع نفسي طويلاً، وأغلق الباب على نفسي. حينها، أصبحت وحيداً لفترة طويلة. هذا غير جيّد أبداً، للإنسانية كلّها.

 

(*) لكنْ، لماذا لم تفكر في فيلم عن كورونا، وهاتين العزلة والوحدة؟ ألم يُحرّك هذا كلّه شيئاً فيك؟

هذا كلّه مكتوبٌ على الورق. لكنْ، نحن كمخرجين وكتّاب، ليست لدينا رفاهية أنّ الأشياء التي نكتبها تُنتَج فوراً. الموضوع صعبٌ للغاية. المرحلة الأولى موجودة، أي الكتابة وتفريغ المشاعر. المرحلة الثانية، الإنتاج، في علم الغيب، لأنْ لها علاقة بالفرص المتاحة للإنتاج.

 

(*) "ماما" مُقتبس من قصة حقيقية، لكنّك لم تنسخ الواقع طبق الأصل فيه.

لا، أبداً. الحادثة، التي قرأت عنّها عام 2017 في أخبار الحوادث، حصلت في الاسكندرية، في موقع التصوير الحقيقي. في فترة كورونا، كنت أرغب في كتابة شيءٍ، فاستعدتها وكتبتها، لكنّي بنيت فيلماً مختلفاً، وفق رؤيتي الشخصية، لأنّ الحادثة الحقيقية بعيدة عن ذلك، قليلاً أو كثيراً.

 

(*) لماذا فكّرت في ضرورة وجود اختلاف عن القصة الحقيقية؟

بسبب الدراما. في القصة الحقيقية، أغلقت الفتاة الشقّة، واستأجرت شقة أخرى، أقامت فيها إلى أنْ بلغت 21 عاماً. بالنسبة إلي كمخرج، هذا لنْ يخلق دراما. سألت نفسي: لو لم تكن لديّ رفاهية امتلاك شقّة أخرى، ولا فرصة لي لاستئجار شقّة أخرى خلال هذه الفترة، ماذا أفعل؟ هذه دراما. هذا يجعلني أتساءل، وهذا سبب الكتابة.

 

(*) هل تشعر بأنه ضروري أنْ يقرأ لك أحدٌ ما انتهيت منه في الكتابة؟ أم تبحث مباشرة عن تمويل؟

لا أطلب من أحدٍ أنْ يقرأ لي ما كتبته. أبحث مباشرة عن تمويل.

 

 

(*) ما التحدي الذي واجهك في صنع هذا الفيلم؟

الاسكندرية نفسها، لأنّي لست منها. الإسكندرية كانت دائماً لي مهرباً لطيفاً من القاهرة. عندما أشعر بالاكتئاب، أذهب إليها لتمضية بعض الوقت. ذات مرة، قرّرت أنّي، عندما يكون لديّ مشروع فيلم أحبّ إنجازه، سأصوّره في الإسكندرية. أيضاً، كنت أريد تصويره هناك لشعوري بأنّ فيه شاعرية تُخيّم عليها سوداوية، ولو قليلاً. لي رغبة في جعل هذه المأساة تحدث على البحر. هذا التضاد/التناقض بين فكرتي الشاعرية والمأساة جاذبٌ قوي لي.

 

(*) بالفعل. لو دارت الأحداث في القاهرة، لأصبح الفيلم كئيباً جداً، وقاتماً للغاية. البحر خفّف من وطأة المأساة.

البحر جعل الفيلم يتنفّس إلى حدّ ما. أيضاً، هناك تحدّي التصوير في فترة كورونا، في الإسكندرية. فريق التصوير بالكامل، في مكان واحد لـ5 أيام معاً. التحدّي أن ننظّم أنفسنا لإنجاز التصوير.

 

(*) مي ألغيطي أجادت تأديد دور الابنة. ما الذي دفعك إلى اختيارها؟

سببان: الأول لأنّها ممثّلة جيدة، وتُعجبني كممثلة؛ والثاني له علاقة بالسنّ، فهي مُلائمة لعمر الفتاة بطلة الفيلم.

 

(*) ماذا عن مشروعك المقبل؟

"سكن للمغتربات"، روائي طويل مختلف، عن مُغتربات يُقِمْن في فيلا، وتحدث لهنّ أشياء عدّة.

 

(*) من المؤكّد معرفتك أنّ فكرة المغتربات تمّ تناولها في أكثر من عمل روائي ووثائقي.

طبعاً. هناك الكثير.

 

(*) إذاً، لا بُد أنّ لديك إضافة، أو زاوية جديدة لتناول هذا الموضوع؟ في أحد أفلامه، قدّم محمد خان مَشاهد في سكن المغتربات.

سيكون فيلم رعب وتشويق، وليس فيلماً اجتماعياً.

 

(*) ربما يبدو هذا مختلفاً. لكنّ مشاهد "البنانّوة" و"ماما" يجد أنّك تسير على الطريق نفسها، وأنّ لديك مشروعاً، وفي أفلامك حسّ تشويقي منسوج مع الرعب، وإنْ كنت تقدّمه بروح متوارية بعض الشيء.

صحيح. أحبّ تقديم الرعب بشاعرية. سيكون فيلماً مناسباً للسوق، يرتكز على التشويق، وتمثّل فيه شابات لطيفات، يتمتّعن بخفّة الدم. أتمنى العثور على منتح يتحمّس له.

 

(*) لماذا عرضت "ماما" في "مهرجان القاهرة السينمائي (الدورة الـ41، المُقامة بين 20 و29 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 ـ المحرّر)، ولم تقدّمه في مهرجانات خارج مصر أولاً؟

لأنّي لم أحضر "مهرجان القاهرة" قبلاً. كان مهمّاً لي أنْ أعرضه في بلدي، وفي "مهرجان القاهرة" تحديداً. لذا، قدّمته بنفسي.

 

(*) عادة، يكون عند المخرجين طموح لتقديم أعمالهم في الخارج، قبل مصر.

عرضت "أم أميرة" في برلين، و"البنانّوة" في دبي. الموضوع لا يتعلّق بأنْ أعرض في مكان عالمي فقط، فالسؤال كامنٌ في: ماذا أريد من عرض الفيلم؟ مَنْ أول جمهور أريده أن يراه؟ عندما أحدّد هدفي، يصبح الأمر واضحاً بالنسبة إليّ، وأحسم التفكير في أي مهرجان سيكون ملائماً لعرضه.

 

(*) هل تقصد أنّ قضية "ماما" يهمّك عرضها في مصر أولاً، رغم أنّها ربما تُثير اهتماماً دولياً؟

طبعاً، لأنّ قضية ميراث النساء في مصر يُنظَر اليها بشكل مختلف، وفي القوانين أشياء غير مناسبة، تحتاج إلى تعديل. الفيلم كلّه مبنيٌّ على التالي: إذا القانون لم يكن موجوداً بهذا الشكل، لم تكن هذه الأحداث لتحصل، لأنّ في القانون شيئاً خطأ، ليس في صالح الإناث. العمّ يريد الاستحواذ على الشقّة، وهذا فقط يُشغله. لا أدري لماذا يفرض القانون الوصاية على الفتاة، إذا لم تبلغ 21 عاماً؟ الانسان يبلغ الوعي والإدراك، ويستطيع التصرّف بحقوقه باكراً، قبل أنْ يبلغ 21 عاماً. القانون نفسه يسمح للفتاة استخراج "بطاقة الرقم القومي" عندما تبلغ 16 عاماً، ومؤخّراً تمّ تعديله إلى 15 عاماً، واستخراج رخصة القيادة عند بلوغها 18 عاماً. في الخارج، تصبح الفتاة مسؤولة عن نفسها عند بلوغها 18 عاماً. لا بُدّ من تعديل القانون في مصر.

المساهمون