في كتابه النقدي الجديد، "رحلة في السينما الفرنسيّة" (دار خطوط، 2021)، يغوص الناقد السينمائي الأردني ناحج حسن في تركيبة الفيلم الفرنسي، صناعة وتأليفاً وتخييلاً. مقالات ودراسات عن أفلام فرنسية قديمة وحديثة، لكنّ مُنطلقات كاتبها في تشريح الخطاب السينمائيّ تمنح القراءة متعة لا تُقاوم، في تاريخ السينما الفرنسية المعاصرة.
يتجنّب المُؤلّف كلاماً عن المدارس والتيارات والأساليب الأكاديميّة، لكنّه يُضمرها ببراعة في المتن النقديّ. طريقة ذكية لتحرير الكتابة النقدية من طابعها الإنشائي، القائم على اجترار النظريات وإسقاطها على أفلامٍ لا تتوفّر فيها شروط الصناعة السينمائية. هذا في مقابل وعي المؤلّف لهذا التضخم اللافكري، الذي يعيشه النقد السينمائي العربي، في تدوير وتوليف وترجمة نظريات غربية تُسقَط على الفيلم العربي.
عن كتابه الجديد هذا، حاورت "العربي الجديد" ناجح حسن:
(*) ما الذي يجعل ناقداً سينمائياً أردنياً يكتب عن السينما الفرنسيّة، بدلاً من الأردنية أو العربيّة؟
أنجزتُ هذا الكتاب انطلاقاً ممّا تُمثّله صناعة الأفلام الفرنسية من بصمة راسخة في مسيرة الفن السابع، بعد تأليفي 6 إصدارات سينمائية عن السينمات في الأردن والدول العربية والعالم. في الإصدار الجديد، رغبت في اقتصار موضوعه على بعض العوالم الرحبة للفيلم الفرنسي، لامتلاكي مخزوناً وافراً من الكتابات عن أفلام وشخصيات في السينما الفرنسية، حصيلة مشاهدات شخصية تابعتها في مهرجانات عربية ودولية، فضلاً عن اختياري عروضاً في المشهد السينمائي الأردني، أتاحت لي الاقتراب منها في فعاليات النادي السينمائي الأردني، ولجنة السينما في "مؤسّسة عبد الحميد شومان"، وعروض "الهيئة الملكية الأردنية للأفلام" و"المعهد الثقافي الفرنسي"، ونشاطات "مهرجان الفيلم العربي الفرنسي" ومهرجاني "الفيلم الفرنسي" و"الفيلم الأوروبي"، المنعقدة سنوياً في عمّان.
(*) في "رحلة في السينما الفرنسيّة"، قراءة عاشقة في أفلام سينمائية فرنسية قديمة وحديثة. ما الذي تعنيه لك هذه المقالات، علماً أنّ المرحلة التي يعيشها النقد السينمائي العربي تفترض تأليف كتب ذات بناء مفاهيميّ وصرح معرفي؟
فضّلت اختيار مواضيع وعناوين متنوّعة، تجمع نتاجات السينما الفرنسية القديمة والحديثة، أو أفلاماً أنجزها بعض أبرز مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة، إلى أفلامٍ تحاكي السائد في السينما الفرنسية، التي نجحت شبكات العرض والتوزيع العالمية في التقاطها وتسويقها في الصالات المحلية، لما تمثّله من ظواهر نجومية، وما تنهض عليه من مواضيع تاريخية ملحمية آسرة، أو بفعل ما حقّقته من جوائز رفيعة في مهرجانات عالمية، جرّاء ما انطوت عليه من إحالات ودلالات فكرية وجمالية بليغة.
هناك أفلامٌ عادية بسيطة تناقش قضايا الفرد وأزماته في العيش اليومي، وتمتلئ بأسئلة هذا الواقع الصعب. معلومٌ ومؤكّد أن السينما الفرنسية طافحةٌ بأشكال وأساليب درامية وإبداعية، وهذا يُصعِّب على ناقد يعمل في صحيفة يومية أنْ يغوص فيها أو يُحيط بها، لأنّ هذا يتطلّب دراسات أكاديمية ومنهجية، تنهل من الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وتدعمه مؤسسات تُعنى بهذا الحقل الإبداعي.
(*) برأيك، ما السبيل إلى تحقيق مشروع نقدي سينمائيّ عربي، في غياب مؤسّسات فنيّة قادرة على دعم النقد السينمائي وجعله في صلب الحياة الثقافية العربية؟
للأسف، نفتقر في البلدان العربية إلى هذا النوع من المؤسّسات المعنية بدراسة فنون الآخرين وإبداعاتهم، خاصة في مجال الفن السابع، رغم وجود جامعات ومراكز دراسات ومعاهد بحث كثيرة، تهتم ـ قليلاً أصلاً ـ بدراسة العلوم والفلسفة والفكر والأدب. إلا أنّ السينما غائبة أو مُغيّبة تماماً، وهذا عائد إلى عدم وجود اهتمام جدّي بعالم صناعة الأفلام وتوثيقها، فما بالك بالنقد السينمائي، الذي لا نجده هذه الأيام إلا في زوايا محدودة من هذه الصحيفة أو تلك. وإذا وُجد، فلا يتعدّى عادة بثّ أخبار نقلاً عن وكالات أنباء إخبارية، عن جائزة ممنوحة إلى هذا الفيلم أو ذاك، في مهرجان ما، أو عن نجمٍ أو نجمة. لك أنْ تنظر ملياً في عشرات المجلات الصادرة عن مؤسّسات عربية. عندها، ستلاحظ كم أنّ النقد السينمائي مظلومٌ ومُغيبٌ عن ثقافتنا العربية.
(*) استناداً إلى قراءاتك ودراساتك، أيّ واقع ترسمه للسينما الفرنسية منذ سبعينيات القرن المنصرم؟
عقب نجاحاتها المتتالية في ستينيات القرن الـ 20، بفعل تنامي موجة السينما الجديدة وتنوّع اشتغالاتها، سايرت السينما الفرنسية ـ في العقود التالية ـ تيارات السينما السائدة، وحاكت النموذج الهوليوودي، وبالتالي خرجت من حدودها، وقدّمت نتاجات مشتركة مع السينما الأوروبية، ثم اتّجهت إلى بلدان ناطقة باللغة الفرنسية، وتحديداً في آسيا وأفريقيا، وأتاحت فرصاً كثيرة لعشّاق السينما هناك للعمل وراء الكاميرا، فقدّموا قصصاً عدّة عن أعوام ما قبل وما بعد التحرّر والانعتاق. بالتالي، غدت السينما الفرنسية من بين أكثر سينمات العالم وفرة في الإنتاج وتنوّع المواضيع، والقدرة على النفاذ إلى أسواق توزيعية جديدة.
(*) ماذا عن الفيلموغرافيا الفرنسية الجديدة: هل هناك إبدالات مفاهيمية وخصائص جماليّة شهدتها في الأعوام القليلة الماضية، بحكم تغيير المركزية الهوليوودية وارتباك أفلامها، ما يجعل مركز الإنتاج السينمائي يتحوّل إلى بلدان أخرى، منها فرنسا؟
في الأعوام الأخيرة، تابعت قدرة صنّاع السينما الفرنسية وبراعتهم في خوض غمار مواضيع جريئة، تتناول دواخل النفس البشرية، وتحوّلات عصيبة عاشتها مناطق ساخنة كثيرة. ثم اتّجهت الى الغوص في ملاحم وأسفار أدبية، قدّمتها بتلاوين إبداعية متميزة، نافست فيها الصناعة الهوليوودية، مع اتّجاه بعض صنّاعها إلى العمل في أفلام الترفيه والمغامرات والكوميديا والتشويق والحركة والخيال العلمي، التي نافست فيها نتاجات استوديوهات هوليوود، ومنحتها رونقاً خاصاً ومميّزاً، تعزّزت فيها مكانة الفيلم الفرنسي في دنيا الأطياف والأحلام.
هذا ثبت في تلك المعطيات والاحصائيات التي أوضحت أسباب زيادة أعداد مشاهدي الفيلم الفرنسي. لكنْ، هناك نقّاد يتمنّون ألا تطغى هذه الأعداد المتزايدة من أفلام السينما الفرنسية على تلك الأعمال المدهشة، التي لا تزال عالقة في ذاكرة عشاق السينما، وظلت موضع افتتان كثيرين من مؤرّخي ونقّاد ومنشّطي نوادي السينما وأصحاب الشغف، بعروض الفن والتجربة.
(*) شهدَتْ السينما الفرنسيّة الجديدة ارتباكاً كبيراً على مستوى صناعتها، بحيث إنّ المُشاهد يدهش من سذاجة بعض الأفلام، نظراً إلى أنماط وصور هذه السينما، وتاريخها المُشرق، إلى حدود الموجة الجديدة.
أعتقد أنّ الثورة التكنولوجية التي عرفتها السينما، وأدّت إلى ازدياد عدد صنّاع الأفلام وتعدّد وتنوّع الأعمال السينمائية، روائية ووثائقية وتجريبية ومتفاوتة الطول، ساهمت (الثورة المذكورة) في تغليب نماذج من السينما السائدة على تلك الإنجازات الشاعرية والحالمة بالتغيير. لكنْ، لا يزال هناك بصيص أمل وتفاؤل في القدرات الشابّة الجديدة، التي أخذت على عاتقها تطوير أفكار جديدة ومهمومة بالاشتغال على منظور غير مألوف في تناول وصوغ مفردات لغة سينمائية، تتناغم مع إيقاعات مُبتكرة، بغية إثراء وتفعيل ما قدّمته السينما الفرنسية في موجاتها المتتالية، عبر أكثر من حقبة.
(*) يتميّز كتابك في كونه يجمع قراءات تمزج بين قديم وجديد، ما يجعله قادراً على فهم تحوّلات أنطولوجية شهدها الفيلم الفرنسي. كيف تفهم طبيعة هذه العلاقة بين القديم والجديد، في مسار هذه السينما؟ هل يتعلّق الأمر بمشروع سينمائي مُتّصل، أم أنّ هناك قطيعة جماليّة مع الموروث الفرنسي؟
كما أسلفتُ سابقاً، أفرزت تطوّرات الكمبيوتر في السينما اشتغالات تكاد تتعارض مع الموروث الجمالي الذي عُرف فيه الفيلم الفرنسي. هناك من تمرّد عليه، كما في نتاجات عدّة لليو كراكس ومخرجين شباب جدد، بدوا كأنّهم في حالة احتجاج ساخط على الواقع، لكنّهم غير مُناهضين لأسلافهم، بقدر تركيزهم على دواخل تشخص ظواهر وأبعاد كثيرة، تنأى عن التفسير الأيديولوجي وتحوّلاته، والتوجّه إلى سياقات أكثر غلواً في النقد، وفي عناق الآخر الآتي من جماعات متنوّعة ومختلفة ومهمّشة ومتباينة الجنسيات والرغبات.