موسيقيو الطبقة الوسطى: رحلة التعافي من الوباء لم تنته بعد

11 أكتوبر 2022
لم يتوقف الجمهور عن الإنفاق على الموسيقى خلال الوباء (Getty)
+ الخط -

تأثرت صناعة الموسيقى بشكل مباشر بجائحة كوفيد-19، خاصة تلك الحية منها التي تعرضت للإلغاء أو التأجيل أو التقليص بفعل التدابير الصحية التي اتخذتها معظم الحكومات لمواجهة الأزمة المهددة. يوضح تقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن 50% من إيرادات الصناعة الموسيقية يتأتى من الموسيقى المسجلة على شكل أقراص مادية صلبة، في حين تتكون الـ 50% الأخرى من حفلات موسيقية وعروض فردية وجماعية ومهرجانات وجولات عالمية لم تعد ممكنة في ظل الوباء، ما تسبب بآثار سلبية على الطبيعة غير المحدودة جغرافياً للإنتاج والتوزيع داخل القطاع الموسيقي.

في السياق نفسه، أظهر تقرير صدر في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2020، عن غرفة التجارة في ناشفيل، أن العديد من أماكن الموسيقى في ناشفيل خسرت 72% من إيراداتها بفعل إجراءات الحظر، ما كلف الصناعة الموسيقية قرابة 17 مليون دولار على شكل رواتب ضائعة، إضافة إلى 24 مليون دولار كان يقدمها القطاع الموسيقي إلى الناتج المحلي الإجمالي.

وحتى مع تخفيض إجراءات الحظر والتباعد الاجتماعي من فترة إلى أخرى، وعودة عروض الأداء الحية تدريجياً، بقيت الأحداث الموسيقية الحية معرضة لخطر شح الحضور الناجم بشكل أساسي عن زيادة تكاليف السفر والإقامة بسبب أزمة كورونا، وعن خوف الجماهير من التجمع والالتقاء في ظل المرض، وغيره من ظروف عمت العالم في السنوات الأخيرة.

أمام هذه الأزمة المستجدة، وجد صانعو الموسيقى الحية حلولاً جديدة عبر الالفتات إلى بدائل موسيقية مختلفة، غيّرت مفاهيم العرض والطلب، وأضافت إلى تجربة العملاء بعداً جديداً. بهذا، تعاونت شركات حول العالم، لإنشاء خدمات بث مباشر عبر الإنترنت، وحفلات موسيقية تقدم عروضاً تحاكي في حجمها وطولها عروض الأداء الحي. تجمع هذه المنصات بين الأداء الحي وإنتاج الخشبة التقليدي، مستعينة أحياناً بتقنيات متقدمة ورسوم ثلاثية الأبعاد تحقق التفاعل بين المؤدين والجمهور المفترض.

وقد تدفقت المنصات الرقمية عبر الإنترنت بشكل هائل خلال سنوات الجائحة، وأصبحت الأقراص المضغوطة والألبومات والمنتجات المادية الملموسة وحتى تنزيلات MP3 شيئاً من الماضي، إلا أن مستوى الإيرادات النابعة عن البث المباشر لم تجن أرباحاً جدية للكثيرين من العاملين الموسيقيين، خاصة الجدد منهم وأولئك الذين أطلق عليهم اسم "موسيقيو الطبقة الوسطى".

لم يتوقف الناس عن الإنفاق على الموسيقى خلال الوباء طبعاً، بل على العكس، إذ أبلغ كل من اتحاد صناعة التسجيلات الأميركية وصناعة التسجيلات الصوتية البريطانية عن زيادة في استهلاك الموسيقى خلال السنة الأولى من الجائحة. لكن تحول صناعة الموسيقى من عائدات الألبوم الصلب إلى نموذج البث عبر الإنترنت لم يعد بالنفع على الفنانين أنفسهم، وإنما على شركات البث التي "لا تدفع"، بحسب ما قاله الموسيقي ستيف سايناس.

لم تكن خدمات البث، مثل سبوتيفاي وأمازون وآبل ميوزيك، هي أولى الضربات التي توجه إلى عالم الموسيقيين الناشئين، بل سبقها ظهور منصات القرصنة الرقمية التي أنهكت القطاع الموسيقي إلى حد بعيد، تاركة إياه أمام خيار وحيد متمثل في العروض الحية، وهو ما بات إنجازه اليوم غاية في التعقيد، بسبب رواج ثقافة البث من ناحية، وارتفاع أسعار الأماكن المجهزة، إذا ما قورنت بإيرادات الحفل من ناحية ثانية، فضلاً عن التكاليف الباهظة المرتبطة بالتسجيل والجولات والتسويق للألبوم التي ساهمت معدلات التضخم الأخيرة في جعلها أشد ضراوة، من دون تعديل أجور الفنانين بناءً على الوضع الاقتصادي الجديد.

لم يستطع ثلث الموسيقيين تحقيق أي عائد مادي بعد رفع القيود المفروضة على العروض الحية، وذلك وفقاً لجمعية Help Musicians الخيرية في المملكة المتحدة التي أكدت أن 83% من الموسيقيين المحترفين لم يتمكنوا من العثور على عمل منتظم في مرحلة التعافي من الفيروس، وأن تسعة من بين كل 10 موسيقيين يكسبون أقل من ألف جنيه إسترليني شهرياً، في حين يفكر 22% منهم في التخلي عن مهنة الموسيقى.

يتوقع العديد من الناقدين والمحللين الموسيقيين أن الفنانين الناشئين، على خلاف أولئك الراسخين وفناني الاستديو، لن يتمكنوا من إعالة أنفسهم في المستقبل القريب، لأنهم ومع غياب أي حلول أخرى سيجبرون على المنافسة مع فنانين مشهورين يلجؤون إلى البث المباشر أيضاً. وبسبب التكاليف الباهظة التي يتطلبها الوصول الواسع عبر الإنترنت، لن يتمكن معظمهم، في أحسن الأحوال، سوى من الحفاظ على جمهورهم الحالي، من دون قدرة على جذب جمهور جديد ومتنوع، فضلاً عن أن الأرباح التي ينالها الموسيقي من خدمات البث، مثل سبوتيفاي، يمكن أن تستغرق شهوراً قبل أن تتراكم ويتمكن الموسيقي من الحصول عليها، وإن فعل، يجدها زهيدة ومتواضعة، لا يمكن مقارنتها بما تتحصل عليه شركة البث على شكل أرباح صافية، وصولاً إلى المحتوى الموسيقي نفسه الذي تتهدد جودته بفعل كل تلك العوامل السابقة، مما يعود سلباً على كل من صانع المحتوى وجمهوره المتلقي.

استجابة لتلك الصعوبات الناشئة، ظهرت العديد من التحركات والمجموعات التي تحتج على وضع الموسيقيين المتأزم بعد كورونا، بعضها اكتفى بتطويق المشكلة على نطاق محلي، وفردي أحياناً، وأخرى حاولت أن تبحث في أسباب الأزمة الحديثة في سياق سوسيولوجي وسياسي واقتصادي، ساعية إلى إشراك الصناعة والممولين في النقاش المفتوح لإيجاد حلول جذرية لحال الموسيقيين اليوم، منها عريضة اتحاد الموسيقيين والعمال المتحالفين UMAW الذي أسس بهدف مخاطبة واقع الموسيقى اليوم وتنظيم عمليات الدفع للفنانين من خلال منصات البث، مطلقاً أولى حملاته "عدالة في سبوتفاي" (Justice at Spotify) التي تنص على منح بنس واحد للفنان مقابل كل عملية بث منفردة عبر المنصة. من دون تلك التعديلات، يوضح أحد موقعي العريضة كودي فيتزجيرالد، لشبكة سي بي سي، لن يكون للموسيقى "كمهنة" وجود في عالم الطبقة الوسطى، ولن يتمكن أي شخص من امتهانها ما لم يكن ثرياً منذ نشأته.

يصارع موسيقيو اليوم أسئلة من شتى الأنواع، فبينما يحاولون الانخراط في لعبة الحداثة، هم يبحثون أيضاً عن وسيط عصري يحمل أعمالهم إلى الجمهور، من دون التحول إلى حسابات رقمية تمتلكها شركات، ويسعون إلى إيجاد مكان لهم وسط عالم يسيطر عليه عمالقة البث.

المساهمون