"مهرجان مالمو العربي الـ13": تاريخ وراهن مرويّان بسلاسة وصخب بصريين

05 مايو 2023
"تحت الشجرة": بوحٌ صادق في مناخ شاعري (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

من تاريخ قديم (1516) إلى راهنٍ غير مُحدَّد زمنياً، يتابع "مهرجان مالمو للسينما العربية"، في دورته الـ13 (28 أبريل/نيسان ـ 4 مايو/أيار 2023)، تقديم أفلامٍ معنية بالمرأة العربية، وبهمومها وتحدّياتها ومشاغلها وأنوثتها وأفراحها وقلقها وأمومتها. في التاريخ، تنكشف المرأة في شخصية ملكة جزائرية، غير مؤكّد حضورها الفعلي والمادي. وفي الراهن، نساء يلتقين في بستان لأشجار التين، ويروين يومياتهنّ المنشغلة بأوجاع في الروح (وبعض الجسد)، والنساء هؤلاء ينتمين إلى أكثر من جيلٍ.

في "الأخيرة" (2022)، للجزائريين دميان أنوري وعديلة بن ديمراد، يُروى فصلٌ من التاريخ القديم للجزائر، عبر شخصية زفيرة (بن ديمراد، جائزة أفضل ممثلة عن دورها هذا في المهرجان نفسه)، "الملكة الأخيرة" (كما العنوان الفرنسي)، غير المؤكّد وجودها الحقيقي، إذْ يُشير "جينيريك" النهاية" إلى أنّها ربما تكون "تاريخاً أو أسطورة"، ومع هذا، ستثير لقرون طويلة لاحقة نزاعاً بين مُكذِّبٍ وجودها وداعمٍ له. أما في "تحت الشجرة" ("تحت التين" كما العنوان الفرنسي)، للتونسية أريج السحيري، فالنساء حاضراتٍ في راهنٍ مليء بقلق وقهر وضغطٍ، إلى جانب شبابٍ يُعانون، هم أيضاً، أهوال بيئة وعائلة وسلطة/تسلّط.

الوقائع التاريخية في "الأخيرة" تحتاج، لإثباتها من عدمه، إلى متخصّصين يمتلكون معرفة وثقافة، يُفترض بهما أنْ يستندا إلى الموثَّق. الإشارة إلى عدم التأكّد من وجود شخصية الملكة زفيرة يُحصِّن النصّ السينمائي من "تهمة" التزوير، لكنّ الوقائع، المتداولة في الأشهر القليلة الأخيرة من سيرتها، تكشف نزاعاً في الداخل بين أسياده، وتقول إنّ الاستعانة بالخارج خرابٌ وقتل وعنف. والخارج يتمثّل بالإسبان ("لِسْبنيول" في المحكية الجزائرية) والعثمانيين. بينما "تحت الشجرة" غير محتاج إلى تاريخ أو وقائع أو حكايات مُثبَتة، فاليومي مليء بما يُستفاد منه في صُنع فيلمٍ، يكشف شيئاً من أحوال ونفوسٍ وعلاقات.

لكنّ "تحت الشجرة" غير معني بأنْ يكون نضالياً نسوياً، فالمروي في نهار واحد من العمل في قطف التين (مدّة الفيلم 93 دقيقة)، عفوية وصادقة ونابعةٌ من قلبٍ وروح مُتعبَين بسبب عمر متقدّم، يحمل في ذاته ذاكرة وتاريخاً من الخيبات والانفعالات والقلق والتحدّيات، أو بسبب ضغوط تُثقل على شابات (وبعض الشباب أيضاً) في عيشهنّ وفقرهنّ ومشاعرهنّ ورغباتهنّ، المكبوتة والمُعلنة. حضور الرجل العامل (إلى جانب المتسلّط)، كافٍ لنفي "النضالي النسوي"، مع أنّ النصّ البصري، المشغول بسلاسة سينمائية مُريحة رغم أوجاع ومصائب وتنهّدات، مُواربٌ في نضاله المبسّط والمحبَّب، عبر إفساح مجال واسع للمرأة ـ الشابّة تحديداً، فالعجوز تكافح بصمتٍ، والصمت غير متأتٍ من خوف أو انهزام، بل من تعبِ سنين وثقل حياة ـ لتبوح بما تشعر به وتفكّر به وتتأمّله، بعفوية وصدق واضحين.

 

 

في "الأخيرة" شيءٌ من هذا أيضاً. أي أنّ المواربة حاضرة، عبر شخصية الملكة زفيرة، المكافحة من أجل حبّها لزوجها، الملك سليم تومي (محمد الطاهر زاوي) وابنها الأمير يحيا (يانيس أوين)، كما من أجل حقّها في أنْ تكون امرأة/أرملة مُقيمة لوحدها مع ابنها، فتواجه إخوتها الذين يتسلّطون عليها بالقوة، إذْ غير جائز لامرأة أنْ تكون "بلا محرم". تكافح من أجل بلدها، وتوافق على خضوعٍ لقاتل زوجها، وسارق عرشها، وناهب بلدها، قبل أن تفشل في تحقيق المُراد، فتقتل نفسها أمام بابا عروج (دالي بن صالح)، الهائم بها (القاتل والسارق والناهب نفسه)، كي يختنق بلوعته وغضبه.

سلاسة السرد في "تحت الشجرة" كامنةٌ في متابعة هادئة لتفاصيل مختلفة، تنكشف في يومٍ واحد من أيام العمل: حوارات فردية، مواجهات، قطف التين، تحرّش صاحب البستان، سرقة عامل وافتضاح أمره، تناول طعام الغذاء، ضحكٌ وغضب، بوح صادق. كأنّ هذا كلّه توثيقٌ سينمائي لأحوال ومشاعر وحكايات، لنساء (وبعض الرجال/الشباب) يعملن من أجل عيشٍ، لكن العيش قاسٍ، فالسلطة، كالعادة، ذكورية قاهِرة، والمرأة غير مستسلمةٍ، وإنْ تتراجع العجائز إلى الوراء قليلاً، بصمتهنّ وحنين بعضهن إلى ماضٍ فيه حبّ مفقود.

سلاسة كهذه غير موجودة في "الأخيرة" (113 دقيقة)، لامتلائه بعنفٍ ومواجهات وصخبٍ، ومحاولات انتقام، وسلسلة قتلٍ تبدأ بملك/أب وتنتهي بأم/ملكة، ستكون الأخيرة فعلياً. فيلمٌ يحتاج إلى ديكورات ضخمة (المديرة الفنية للديكور: فريال قاسمي إنسياخم) مُقنعة، إلى حدّ كبير، بـ"مصداقية" تاريخية ما، ومشاهد القتال (كوريغرافيا سمير حدادي، مع مدرسة المجازفين الجزائريين) مشغولة بحرفية سينمائية مهنية.

السلاسة غير موجودة، لكنّ الفيلمين متشابهان، ضمنياً، بمسائل أخرى، أبرزها مشاعر المرأة وسلطة الرجل. ففي مقابل "شاعرية" ما في سردها والاشتغال عليها تحت أشجار التين، تُحاط تلك المشتركات بدم ومؤامرات وخبث وصراعات، وأهواء سياسية وعاطفية وجسدية وإجرامية، قبل أنْ تسقط "الملكة الأخيرة" بعد وقتٍ على بداية الخراب.

المساهمون