مهرجان كانّ: نَفَسٌ وثائقي وبصمات تشكيلية

28 مايو 2022
"السد": أنماط فنية حاضرة في الاشتغال السينمائي (الملف الصحافي)
+ الخط -

بعد 5 أفلام وثائقية لافتة للانتباه، أنجزت التونسية أريج السحيري (1982) أول روائي طويل بعنوان "تحت شجرة التين" (2022)، المُشارك في "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي. فيه، تخطو أول خطوة لها باتّجاه الروائيّ الطويل، لكنْ بنهج سرديّ وأسلوب تصويريّ يقتربان كثيراً من الوثائقي. ساعدت على هذا وحدة الزمان والمكان، إذْ تدور الأحداث في نهار واحد، في بستانٍ للتين، مع عمّال وعاملات بسطاء، من أعمار مختلفة، يعملون في قطف ثمار التين وجمعها وفرزها، ثم وضعها في صناديق، إلى أنْ ينتهي يوم عملهم، ويذهب كلّ واحد منهم في سبيله.
عبر لقطات كثيرة، مُقرَّبة وأخرى بكاميرا حرّة محمولة ومُتجوّلة في البستان، تحت أشجار التين، تُروى قصصٌ، وتُكشَف أسرار، ويُحكى عن مغامرات. حتّى التحرّشات تظهر علناً. تتضح الطبيعة السهلة لـ"تحت شجرة التين"، الذي كتبته السحيري مع بَغِي هامان وغالية لاكروا، بعد المَشاهد الافتتاحية. فبمجرّد وصول العمّال إلى البستان، تظلّ السحيري ومُصوّرتها السينمائية فْريدا مرزوق على مقربة من الشخصيات الكثيرة، بينما يبدأ الجميع قطف ثمار التين. رغم العمل الشاق، هناك حرية مُختلسة بين الأشجار، من حين إلى آخر، حيث تكون المُغازلة مُمكنة بين الصبية والصبايا، بطريقةٍ لا تكون مُتاحة لهم في قريتهم. مع تقدّم اليوم، تظهر شخصيات عدّة، وأسرارٌ، غالبيتها عن العاطفة والحبّ والهجر والخيانة والزواج والنظام الأبوي والسلطوية، وطبعاً هناك المشاكل مع أرباب العمل: الشابّة الجميلة فدى (فدى فْديلي)، المُفضَّلة لدى رئيس البستان على الفتيات الأخريات، ذوات العمر نفسه؛ وسناء (أماني فْديلي)، التي تتمنى أنْ يكون الفتى الذي تحبّه، فراس (فراس عمري)، أكثر تحفّظاً مع بقية الفتيات؛ أو ملك (فاتن فْديلي) وصديقها السابق عبدو (عبد الحق مْرابطي).


التفاعل بين الشخصيات، المرسومة غالبيتها بشكلٍ جيّد، أهمّ من تطوّرات الحبكة، وخيوطها الفرعية. المثير للانتباه أنّ أريج السحيري تُظهر الفتيات تقدّميات وليبراليات ومُنفتحات، إلى حدّ ما، ومُفعمات بالحرية والانطلاق، إلى درجة التحدّث الصريح ومغازلة زملائهن الذكور أحياناً؛ إلّا أنهنّ، في الوقت نفسه، مُحاصرات في المفاهيم الرومانسية القديمة، التي رسّختها الأعراف السائدة عن طبيعة الحب، ومفهوم الزواج، وتكوين الأسرة. هذا يُبيِّن أنّ الجيل الجديد لا يختلف كثيراً عن الجيل الأكبر سنّاً. السيدة ليلى (ليلى أوهبي)، مثلاً، لا تزال تنبض بالعاطفة، وتتذكّر بندمٍ حبّ حياتها، الذي لم تستطع الزواج منه.


بعد فيلم قصير وفيلمين وثائقيين، قدَّم اللبناني علي شِرِّي (1976) أول أفلامه الروائية الطويلة، "السد"، المُشارك في "نصف شهر المخرجين" أيضاً. شرِّي أحد أبرز الفنانين اللبنانيين التشكيليين، المهتمين بالعروض التركيبية والنحتية، وفنون الـ"فيديو آرت". عُرضت أعماله في معارض دولية معروفة في العالم. لاهتماماته التشكيلية بصمة واضحة في "السد"، عبر التكوينات التشكيلية، والفراغات المحيطة في أماكن عدّة في مواقع التصوير، وبجوار السد والبحيرة، أو بين الجبال في الصحراء.
للجماليات البصرية حضورها الواضح. تقنياً، أسلوب التداخل والدمج والتركيب المونتاجي، المستخدم بين مشاهد عدّة، لافتٌ للغاية، مُبرِزاً بجلاء مدى عمق الرؤية البصرية والتشكيلية له، وتوظيفه الجيّد لأدوات بسيطة جداً، لخلق جماليات فنية عميقة، قاربت في كثير منها جماليات السينما الوثائقية، رغم طبيعة موضوع "السد"، القائم على خلط الواقع بالفانتازيا، وحبكته البسيطة المبنية على شخصية البطل الواحد، ماهر (ماهر الخير).
أحداث القصة قليلة ومحدودة، وتجري في شمال السودان، إلى جوار سدّ "مروي"، حيث يعمل ماهر في مصنع للطوب التقليدي، أو الطوب اللبن، المصنوع من الطمي الذي تغذّيه مياه النيل. كلّ يوم، يذهب ماهر، سرّاً، إلى مكان مجهول وسط الجبال في الصحراء، لتشييد مبنى غامض من الطين. البناء الطيني الذي يُشيّده، بحبّ وشغف، يشبه الطوطم، أو الأنصاب التذكارية البدائية، ولعلّه يشير إلى حالته النفسية، وتكوينه الداخلي، وسعيه إلى إيجاد روحه، واستكشاف مُستقبله.

في الخلفية، عبر المذياع تحديداً، يتكرّر كلامٌ عن نهضة الشعب السوداني للمطالبة بحريته، واشتعال الثورة، وخلع الديكتاتور والعسكر من السلطة، وعن العصيان المدني. في الوقت نفسه، لا يهتم السيناريو (كتابة شرّي وجوفروا غريزون وبرتران بونيلو) كثيراً بالتعريف عن خلفية ماهر، الثقافية والسياسية والاجتماعية. يظهر في مَشاهد قليلة، بين عمّال بسطاء، في نوبات عمل يوميّ. حتى جرحه الغائر في ظهره، لا يُعرف سببه أبداً، أو ماهيته، أو مدى خطورته. كل همّه مُنصبٌّ على العمل في تشييد ونحت تمثاله الطيني، والانتهاء منه، ومنحه حياة خاصة به. لكنْ، هل سيتمكن من تحقيق هذا، أم أنّ هناك ما هو غير مُتوقّع؟
تجدر الإشارة إلى أن الفيلم الفرنسي "ذا وورست ونز" فاز بالجائزة الأولى في مسابقة "نظرة ما"، في مهرجان كانّ السينمائي الدولي، الجمعة. تدور أحداث الفيلم في ضواحي الطبقة العاملة في مدينة بولوني سور مير شمال فرنسا، ويحكي تحديات التمثيل في الشوارع، ويتناول رد فعل المجتمع على وصول طاقم الفيلم للتصوير في المنطقة.
وفاز فيلم "جوي لاند" الباكستاني بجائزة لجنة التحكيم. ويمثل هذا الفيلم أول دخول لباكستان لمهرجان كانّ، ويستهدف كسر القوالب النمطية المتعلقة بالنوع في باكستان، وهو من إخراج سايم صادق.

المساهمون