واقعٌ مريرٌ وبائس ومُتناقضٌ يتخبّط فيه المغرب هذه الأيام. دعمٌ ممنوحٌ، وصالاتٌ مُغلقة، وصناعةٌ فنية مُعلّقة، وأفلامٌ معطّلة. أحلام مخرجين مغاربة كثر تُعطَّل على أعتاب شركات ومؤسّساتٍ غائبة، فيضطرون إلى البحث عن منافذ جديدة للحصول على منحٍ أجنبية، تغطي مصاريف إنجاز مشاريعهم. الدعم الذي يمنحه "المركز السينمائي المغربي" مُتناقضٌ، ويستحقّ مساءلات كثيرة، تبدأ بجماليّات المشاريع المعروضة على اللجان، وأهميّتها ومكانتها في السينما المغربيّة والعربيّة.
عددٌ من هواة السينما يستغلّون الواقع المرير، الذي يتخبّط فيه المغرب السينمائي، لإقامة مهرجاناتٍ سينمائية افتراضية، بدعوى انتشار وباء كورونا، لتواصل "أنشطتها" السنوية، وتحافظ على مكانتها، خاصّة أنّ المغرب يتربّع على عرش المهرجانات المُقامة في المنطقة المغاربيّة من حيث الكمّ (مهرجانات دولية ووطنية ومحلية وجهوية)، أغلبها لا يخرج عن مفهوم النشاط السينمائي (حفلات وموائد لا أكثر)، وبعضها يتّخذ أحياناً شعارات دولية وعربيّة، ليكون الدعم "سميناً".
هذا واقعٌ مُؤلم، يصمت الجميع عنه، بمن فيهم مخرجون وممثلون. مع ذلك، هناك مهرجانات قليلة تُقام على الهامش، وتحمل مشروعاً سينمائياً مُهمّاً، يجد موقعه في إعادة عرض أفلامٍ. مدراء عديدون لمهرجاناتٍ كهذه تعلّموا السينما في أندية سينمائية حقيقية، لا في مدارس ومعاهد أكاديمية، تستعرض دروساً وتقنيات غربية، وتسعى إلى إحداث فرق وإثارة متعة فنية، في مناطق يباب من مغربٍ منسيّ. مهرجانات كهذه تُحبَط أمام تنانين المال العام، وأمام مؤسّسات ومهرجانات "عملاقة"، تكتسح كلّ شيء.
للمهرجانات المغربيّة وجوهٌ معروفة. مُدراؤها يُواظبون على حضور مهرجانات أخرى، ليس للاستمتاع بأفلامٍ وندوات ونقاشات نقدية، بل للتلصّص والتقاط الصُور والظهور في واجهات المهرجانات أمام الإعلام الرسمي. معظم هؤلاء يديرون جمعيات ثقافية لا علاقة لها بالسينما إطلاقاً، بينما تظلّ المهرجانات الحقيقية الموجودة على الهوامش مُحبَطة ومخنوقة، تئنّ بصمتٍ، حتى تفقِدَ رغبتها في تنظيم دوراتٍ لها، وغالباً بسبب أمور مادية ولوجستية. مع ذلك، تسترجع أنفاسها بين حينٍ وآخر، مُتحايلةً على الواقع المزري، لتُنظِّم عروض أفلامٍ في مُدنها الصغيرة، وتُقيم ندوات نقدية تحتفظ بأخلاقيات مهنتها، وتعمل على كسب الاحترام لما تقوم به من جهدٍ، في العروض والندوات واللقاءات وتوقيع الكتب النقدية، من دون اللجوء إلى اعترافٍ رسمي أو إعلامي أو مُؤسّساتي.
في حمأة هذا الواقع المنكوب، سينمائياً واجتماعياً، وما رافق البلد من تصدّع في الأشهر الأخيرة، بسبب تفاقم كورونا، والإغلاق المُميت لعددٍ من قاعات السينما والمُجمّعات الثقافية، التي تبقى مُتنفّساً للسينما في المغرب، برزت فكرة "المهرجانات الافتراضية"، كخطوة ناجعة لمُواصلة نشاطات المهرجانات المغربيّة، مع أنّها تبقى مجرّد حلٍ يحتكم إلى سياقٍ بعينه، أي يوميات الحجر. الأخطر في الانتقال إلى الافتراضي يتمثّل في ضياع هالة القاعة المُعتمة وجماليّاتها، التي تُثير في المُشاهِد إحساساً غريباً بمُتعٍ سينمائية عدّة. مع الافتراضي، تتعطّل المُتعة الجماعية ومفاهيم الفرجة والاحتفال، في مُشاهدة الأفلام على الشاشة الصغيرة، وتحلّ مكانها مفاهيم التأمّل والتبصّر والحلم.
مع ذلك، نجحت مهرجانات عربيّة مختلفة في خلق الحدث السينمائي، رغم رقمنة فقراتها الفنية وطرق العرض. ظلّ المغرب يرزح تحت تنظيمات تقليدية مُرتبكة ومُشوّهة، جعلت مخرجين ونقاداً كثيرين يستفسرون عن الضرورة الفنية التي تجعل جهة أو جمعية أو مؤسّسة تنظّم مهرجاناً سينمائيّاً افتراضياً، في وقت لا جديد سينمائيّاً، باستثناء مُحاولات أفلامٍ قصيرة، غير كافية لإقامة مهرجانٍ افتراضي، كالذي نُظِّم مؤخّراً، وربما لم يسمع به أحد، لمروره السريع، وعدم خلقه حدثاً فنياً كما في الأعوام السابقة، ما جعل زملاء كثيرين يتساءلون: هل يتعلّق الأمر بدعمٍ يجب صرفه بأيّ طريقة؟ من المُستفيد في هذه الحالة: المُشاهد الـ"سينيفيلي"، الذي شاهد سابقاً تلك الأفلام عبر منصّات وروابط أتاحها مخرجون في فترة الحجر؟ لماذا إعادة عرضها في مهرجانٍ افتراضي، وبعضها غير مُهمّ في جمالياته واشتغالاته وتأثيره على الفيلموغرافيا المغربيّة، ولا فُتحت لها آفاقٌ وتخومٌ غير مُفكّر بها؟
بالإضافة إلى ذلك، لا يكاد المرء يعثر على مقالة نقدية واحدة، فالتغطيات الصحفية المُنجزة والمنشورة على مواقع إلكترونية مجرّد كتابة واحدة تناقلتها المنابر الأخرى.
أيّ سينما هذه، وأيّ مهرجانٍ هذا، وأيّ حداثة فنية وأخلاقية، بدأت تكتسح هذا المغرب السينمائي حالياً؟
في العُرف السينمائيّ، تعمل المهرجانات الجادّة على تكريم مخرجين وكُتّاب سيناريو وممثلين وغيرهم، بفضل ما راكموه من أعمالٍ وتجارب مُهمّة ومُؤثّرة في بنية التخييل السينمائي العربي، ومدى قوّة هذا المُخرج أو ذاك في خلق جماليّاتٍ سينمائية تتفلّت من النموذج والقوالب والاشتغال والصناعة في العالم العربي. هذا مألوفٌ ومعمولٌ به في مهرجانات عربيّة، وإنْ بنسبٍ مُختلفة. ما يحدث في المغرب أنّ الناقد أو الصحافي أو المخرج لا يتعرّف على المُكرَّم، إذْ تمّ تكريمه لأنّه صديق مُنظِّم هذا المهرجان أو ذاك، وظهر في أفلامٍ مُتناثرة ومرتبكة، لا يتذكّرها أحدٌ، ولا يرغب أحدٌ في مُشاهدتها.
هناك مهرجانات صغيرة تتفرّد بخصوصية التكريم، رغم رمزيته، لكنّها تكون أصدق بتسليطها الضوء على شخصياتٍ سينمائية غير معروفة بالنسبة إلى الجمهور المغربي، لكنّها معروفة في الوسط السينمائي والثقافي والنقدي والإعلامي.
استغلال الجائحة لإقامة مهرجاناتٍ افتراضية لأغراض شخصية لا تخدم المُجتمع، ولا طبقاته التي يحقّ لها الاستمتاع بالمُشاهدة الفنية. هذا سلوك غير مهنيّ وغير أخلاقيّ، ويُشوّه المكانة السينمائية للمغرب في منطقة البحر الأبيض المُتوسّط، بعد أعوامٍ طويلة من مقاومةِ حركاتِ فكرٍ مُتشنّجٍ، خاضها مخرجون شجعان، بمواضع وتوليفاتٍ وتجريبٍ، روائي ووثائقي، جعلت السينما المغربيّة تظهر في محافل عربيّة ودولية، وتقتنص جوائز مُهمّة ذات مصداقية عالمية.