ملصقات "مهرجان فينيسيا": تفضيل الرسم على التصوير

28 اغسطس 2024
ملصق الدورة الـ81 للمُصمّم لورنزو ماتوتي: اتجاه نحو الشرق (فيسبوك)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **هوية بصرية للمهرجانات**: الملصقات الرسمية تعبر عن رؤية المهرجان وتوجهه الفني، وتعتبر نافذة جمالية وسينمائية للجمهور، كما في مهرجانات "برليناله"، "كانّ"، "كارلوفي فاري"، و"فينيسيا".

- **تنوع الفلسفات التصميمية**: تختلف فلسفات تصميم الملصقات بين المهرجانات، حيث يستخدم "برليناله" شعار "دب برلين"، بينما يعتمد "فينيسيا" على الرسم اليدوي، و"كانّ" على صور سينمائية لنجوم.

- **التطور والتجديد**: شهدت ملصقات "فينيسيا" تطوراً منذ 2012، مع تصاميم سيموني ماسي ولورنزو ماتوتي، حيث تعكس ملصقاتهم إحساساً بالحركة والتطلع إلى آفاق جديدة.

من الأمور المُحبّبة عند هواة السينما ومتابعيها وعشّاقها، والضرورية طبعاً للنقّاد والكتّاب والصحافيين السينمائيين، متابعة إعلانات المهرجانات الكبرى عن ملصقاتها الرسمية السنوية. متابعة ربما لا تقلّ أهمية عن مواكبة إعلان البرنامج الرسمي لهذا المهرجان أو ذاك. ذلك أنّ الملصقات تُعتَبر بمثابة هوية بصرية خاصة، تعبّر عن رؤية المهرجان وتوجّهه، ونافذة يُطلّ منها القائمون على مؤسّسة المهرجان، سنوياً، على الجمهور، برسالة ـ دلالة ذات طابع جمالي وفني وسينمائي بحت.

في أكثر من مهرجان، يُلاحَظ أنّ الأمر ليس معقوداً على مجرّد تكليف فنان أو شركة بتصميم الملصق، وينتهى الأمر، إذْ إن هناك قدراً من الرؤية الفنية والجمالية والسينمائية تصنعها، أو تصوغها عمداً فلسفة كامنة وراء التصميم ورسالته. يتأكّد هذا في مقارنة سريعة بين ملصقات أهم المهرجانات السينمائية الدولية وأكبرها وأبرزها، التي تولي الملصقات أهمية خاصة جداً. يتجلّى هذا في حرص مهرجانات "برلين (برليناله)" و"كانّ" و"كارلوفي فاري" و"فينيسيا (موسترا)" على الاهتمام البارز بالملصق السنوي، وبفلسفته المتجدّدة، وضرورة تفرّده وتميّزه.

 

أمثلةٌ ومهرجانات

في "برليناله" مثلاً، كانت الملصقات ثابتة تقريباً في العقد الأخير، مُتّخذةً من شعار المهرجان، "دب برلين"، تنويعات تجمع بين الرسم والتصوير الفوتوغرافي، وإدماج الرؤية الواقعية بالخيال أو الفانتازيا، للخروج بتصميم مُبتكر وفريد. لذا، يخرج "دب برلين" على هيئة دمية ضخمة للتجوّل في الشوارع وفوق أسطح البنايات وفي مترو الأنفاق، وغيرها. ربما هنا مكمن تميّز برلين من غيره، في استخدام شعار المهرجان وتوظيفه وتحريكه. مهرجانات أخرى، مثل "كانّ" و"كارلوفي فاري" و"سان سيباستيان"، لم تحرّك شعاراتها، ولم تتّخذها "موتيفات" بمفردها، توظّف في الملصق.

لكنْ، ومن ناحية أخرى، مؤكّد استخدام "أسد فينيسيا" وتوظيفه، إلى جانب "موتيفات" أخرى من "فينيسيا" أيضاً، في ملصقات قديمة كثيرة، في إطار التصميم العام، بينما لم تُستَخدَم "سعفة كانّ" بأي شكل من الأشكال. يُلاحَظ أيضاً اعتماد المهرجان الفرنسي، منذ عقود، على استخدام صُوَر سينمائية من أفلامٍ، أو لنجوم ونجمات، والتلاعب بها في ملصقاته بوصفها فلسفةً ثابتة له في التصميم. وهذا كلّه مع الابتعاد الدائم عن أي دور للتصميم المرسوم، أو الفنون التشكيلية، أو الرسم اليدوي، أو غيرها. العكس تماماً اعتنقه "مهرجان فينيسيا" في ملصقاته، مع الابتعاد الكامل المتعمَّد عن استخدام صُوَر سينمائية أو فوتوغرافية، حتى لنجوم ونجمات.

مرة واحدة فقط شَذّ "مهرجان فينيسيا" عن هذه القاعدة الراسخة. فبعد وفاة مارتشيلّو ماستروياني في 19 ديسمبر/كانون الأول 1996، حَمَلَ مُلصق الدورة الـ54 (27 أغسطس/آب ـ 6 سبتمبر/أيلول 1997) صورة فوتوغرافية له، غير مرسومة، وكان هذا استثناءً وحيداً، جعل إطلالته بصورة فوتوغرافية على الملصق من الأحداث النادرة والفريدة فعلاً، وغير المُكرّرة في تاريخ تصميم ملصقات المهرجان. وكانت أول وآخر مرة، إلى الآن، توضع فيها صورة فوتوغرافية صريحة لنجم أو نجمة في تصميم ملصق "موسترا".

 

 

صحيحٌ أنّ للأمر سابقة قديمة، لكنها لم تكن صورة فوتوغرافية، بل رسماً يدوياً كرتونياً، بالأسود والأبيض، لشخصية الصعلوك، للممثل والمخرج شارلي شابلن، وذلك في الدورة الـ33 (21 أغسطس/آب ـ 3 سبتمبر/أيلول 1972)، بمناسبة تكريم شابلن بمنحه جائزة "الأسد الذهبي الفخري" لإنجاز الحياة. يُذكر أنّ التصميم كان يحمل أيضاً عنواناً استثنائياً، يُترجم بـ"الجميع شابلن"، ولم يتكرّر استخدام عناوين أو كلمات في أي تصاميم لاحقة.

 

"موتيفات"

التصفّح السريع للملصقات، المُتاحة من القرن الـ20، يؤكّد الحضور المتكرّر والبارز لمفردات الصناعة السينمائية وموتيفاتها. أكثرها انتشاراً تلك الخاصة بشريط الـ"سيلولويد" والبكرات الفيلمية والكاميرات، والعين البشرية أيضاً، وكذلك الـ"كلاكيت". طبعاً، هناك "الأسد" وبعض موتيفات "فينيسيا"، وغيرها من مفردات الحياة البحرية. حضور الموتيفات هذه يكون أحياناً طاغياً أو مباشراً، أو نافراً جداً. كما يُلاحظ أثر الزمن واختلاف الذوق على التصميمات وألوانها وجودة طباعتها، والفكر والخيال والتنفيذ. هذا في ما يتعلّق بالملصقات المتوفرة، إذْ غريبٌ للغاية عدم توفّر الأرشيف على بعض الملصقات، ولو بجودة مقبولة، لمجرّد المشاهدة والتصفّح، وليس النشر.

الأكثر إثارة للدهشة والغرابة والتعجّب، انعقاد أكثر من دورة من دون ملصقات نهائياً. فبين عامي 1962 و1968، أي بين الدورتين الـ23 والـ30، لم تكن هناك ملصقات. حتّى في دورات حديثة: بين عامي 2009 و2011، انعقدت الدورات (من 66 إلى 68) من دون ملصقات، مع الاكتفاء بالخلفية الحمراء المشهورة للمهرجان، وعليها عنوان الدورة وشعارها ورقمها، وتاريخ انعقادها.

من الأمور الغريبة أيضاً، أنّه، رغم كون إيطاليا بلد التصميمات والموضة، و"أرماني" (بيت التصميمات العالمية المشهور) أحد كبار رعاة المهرجان، ومانح جوائز عدّة فيه، لم تكن ملصقات "فينيسيا" محلّ اهتمامٍ كبير، كما يبدو، لعباقرة التصميم الإيطاليين. الأكثر غرابة أنّ فيديريكو فيلّيني، المعروف بأستاذيّته في التصميم والرسم والكارتون، الذي ظهرت جُملته المعروفة "تحيا السينما" على ملصق الدورة الـ56 (11 ـ 25 مايو/أيار 2003) لمهرجان "كانّ"، والذي أنجز سابقاً، بريشته الساحرة، ملصَقَي الدورتين الـ35 (14 ـ 26 مايو/أيار 1982) والـ47 (12 ـ 23 مايو/أيار 1994) للمهرجان نفسه، لم يخصّ "مهرجان فينيسيا" بتصميم ملصق واحد على الأقلّ، وإنِ استُلهِمت، بعد وفاته، أعمال له، واستُخدمت "موتيفات" في ملصقات أعوامٍ ماضية.

منذ عام 2012، لخمس سنوات متتالية، أسندت إدارة "مهرجان فينيسيا" تصميم الملصق إلى الإيطالي سيموني ماسي، مخرج الأفلام القصيرة والمُصمّم والفنان التشكيلي والرسّام، وتنفيذ فيديو الافتتاح، المعروض دائماً قبل الأفلام، الذي لا تتجاوز مدّته 30 ثانية. سيموني من قلّة لا تزال تعتمد، في تصميم أعمالها وتنفيذها، على مهاراتها اليدوية، من دون الاستعانة بالكمبيوتر أبداً، حتى عند تحريك الصُّوَر والتصاميم. كانت له فلسفة خاصة ومميزة، بل فريدة تماماً، في مجال تصميم الملصقات، يمكن القول إنّها مُسجّلة باسمه في تاريخ تصميم الملصقات. فرغم تبنّيه فلسفة الملصقات المعهودة في المهرجان، إذْ لا يُعتَمد على الصُّوَر الفوتوغرافية وغيرها، بل فقط الرسم ولا شيء غيره، مع ثبات الألوان المستخدمة غالباً؛ رغم هذا كلّه، تجلّت براعته في رسمه مشاهد فارقة من أهم التُّحف السينمائية، واتّباع منهج التسلسل في التصاميم، بين عامٍ وآخر.

 

 

صُور أفلام ونجوم

لتقريب فكرة تسلسل التصاميم المرسومة يدوياً، استلهم من "وأبحرت السفينة" (1983) لفيلّيني تصميمه ملصق الدورة الـ69 (29 أغسطس/آب ـ 8 سبتمبر/أيلول 2012)، المتمثّل بمركبٍ فيه حيوان وحيد القرن. في العام التالي مباشرة، صَغَّر التصميم نفسه، ووضعه في الخلفية، في أقصى الركن الأيسر، وفي المقدمة وضع تصميمه الجديد، المستلهم من "الأبدية ويوم" (1998) لثيو أنغيلوبولوس. للدورة الـ71 (27 أغسطس/آب ـ 6 سبتمبر/أيلول 2014)، استلهم فيلم "400 ضربة" لفرنسوا تروفو في مقدمة الملصق، وفي أقصى الخلفية وضع ملصق العام السابق. وهكذا في دورات لاحقة. يُذكر أنّ جان ـ بيار ليو، الممثل الأساسي في "400 ضربة"، شغل مساحة صغيرة في الخلفية، بينما احتلّت ناستاسيا كينسكي، الممثلة الأساسية في "باريس، تكساس" (1984) لفيم فاندرز، مُقدِّمة ملصق الدورة الـ72 (2 ـ 12 سبتمبر/أيلول 2015).

هذه الرؤية التسلسلية المبتكرة في التصميم انتهت، بعد توقّف العمل مع سيموني ماسي، فحدثت نقلةٌ نوعية أخرى، فارقة للغاية، في تاريخ تصميم ملصقات المهرجان، بانتقال المهمّة، منذ عام 2018، إلى الرسّام والفنان التشكيلي الإيطالي لورنزو ماتوتي.

أول ما يُلاحَظ في معاينة ملصقات ماتوتي، ذلك الإحساس الدائم بالحركة، إذْ بصرف النظر عن التكوينيات والـ"موتيفات" البصرية المستخدمة، والأفكار والفلسفة ـ الرسالة المُراد إيصالها، فهناك دائماً حالة حركة. في الوقت نفسه، هناك تطلّع دائم إلى الآخر أو الأفق أو المجهول، واكتشاف مناطق وآفاق وعوالم جديدة، والتعبير عن مشاعر عدّة، كالحرية والمغامرة، من خلال السينما. هذا كلّه في تصاميم موحية ومُكثَّفة وعميقة، وقبل كلّ شيء مُبهجة ومُشرقة. والأهمّ أنّها بسيطة وسهلة للغاية في التلقّي والاستيعاب.

هذا العام، أي في الدورة الـ81 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2024) لـ"مهرجان فينيسيا"، لم يحد ماتوتي عن التصميم البصري واللوني والفكري كثيراً عن تصاميم فنية سابقة لملصقاته، أو أعماله الفنية ولوحاته التشكيلية وتصاميمه المختلفة، إذْ تسود الألوان المُبهجة، الخضراء والحمراء والزرقاء والصفراء تحديداً. بينما استلهم في ملصق العام الماضي سينما الطريق، عبر سيارة مُنطلقة على طريق سريعة وسط تلال غَنَّاء. ورغم أنّ سيارة العام الماضي مُنطلقة صوب المجهول تقريباً، لكنّ الفيل ـ الذي يتصدّر تصميم هذه الدورة تعبيراً عن التحرّك صوب الشرق، وإن ببطء، نظراً إلى طبيعة حركته من ناحية، وإلى خوضه في مياه البحيرة من ناحية أخرى ـ يبدو، على أي حال، منطلقاً بعزم صوب الشرق وحضارته، بغية التواصل والاتصال مع أساطيره وفنونه وغموضه وتاريخه العريق.

يحمل الملصق، غير العادي وغير المُتوقّع، غرابةً صادمة، خاصة في ظلّ عدم إعلان الاحتفال بالهند ضيف شرف، أو حضورها في أي فعالية واحتفالية تكريمية. فكرة الفيل الهندي، من دون غيره من الحيوانات، الذي يستدعي الشرق واللغات والثقافات والحضارات الأخرى، المنسية أو المُتجَاهلة، مُستلهمةٌ من وصول أفيال إلى "فينيسيا" عام 1981، وتجوالها في الشوارع، في الكرنفال السنوي المشهور للمدينة. أما الفتاة المتّشحة بالأحمر فوق الفيل، والحاضرة دائماً في تصاميم ماتوتي، ربما ترمز إلى رغبةٍ أوروبية في الذهاب باتجاه الشرق، للنهل من معارفه وفنونه وثقافته وحضارته.

المساهمون