ما الذي قد يجمع في خبر واحد مكتبة لبيع الكتب ومسؤولاً حكومياً في أي بلد حول العالم؟ السيناريوهات كثيرة، لكن على الأغلب جميعها يلتقي في مكان واحد: حرية التعبير. التنافر بين من يشتغلون في عوالم الكلمة والأفكار وبين السلطة السياسية أمر شبه اعتياديّ ومتوقع أيضاً. محاولات قمع وسيطرة من الأخيرة، وسعي دائم من الأولى لتحصيل مساحات جديدة للتعبير. أمّا الراعي الرسمي لهذا التنافر بكل أنواعه فهي الديمقراطية. وحدها، وعبر رفعها دائماً كشعار ثابت لا يجب المساس به، قادرة على الفضّ بين الطرفين وذلك عبر وقوفها الدائم إلى جانب حرية التعبير. ولكن هل هذا هو فعلاً الواقع؟
قبل نحو أسبوعين، انشغل الإعلام الفرنسي بخبر إسدال الشرطة الفرنسية قماشة سوداء على واجهة مكتبة لي بارلوز (Les parleuses أو المُتكلّمات)، بعد إلصاق الأخيرة مجموعة من العبارات النسوية المناهضة للتحرش والاغتصاب في الواجهة. قماشة سوداء كانت حصّة الملصقات التي علقت في الجهة الداخلية من الواجهة، بينما جرى نزع وتمزيق تلك التي عُلّقت في الجهة الخارجية. حصل هذا في مدينة نيس الفرنسية، صباح زيارةٍ لوزير الداخلية، جيرالد دارمانان، إلى المدينة لإطلاق ورشة تجهيز مركز جديد للشرطة.
شاءت الصُدف أن يكون موقع مكتبة "المتكلّمات" التي تُعرّف عن نفسها كمكتبة "نسوية مُستقلّة"، في الجهة المقابلة للمركز الذي سيحضر دارمانان إليه ومعه الإعلام. لهذا قرّرت المُشرفات على المكتبة تعليق لافتات حملت عبارات مثل: "أيّها المُغتصبون نحن نراكم، الناجيات نحن نُصدّقكنّ"، و"من يزرع الإفلات من العقاب يحصد الغضب"، و"صوفي نحن نُصدّقك". عبارات قد تكون استفزازيّة، لا سيما أن وزير الداخلية متورّط في قضية اغتصاب نالت حصة الأسد في الوسائل الإعلامية، لكن لا شيء يُبرّر المنع والتعتيم بالشكل الذي حصل. أمّا صوفي التي ذُكرت في واحد من الملصقات على مدخل المكتبة فهي مَن اتّهمت دارمانان باغتصابها. لكن يوجد طرف ثالث في هذه القضية، وهي الصحافية الفرنسية إيلين دوفينك، التي لم تغب عن الصحافة العودة أو الإشارة إليها في هذه القضية. كتاب الصحافية بعنوان "الإفلات من العقاب" (صادر عن دار لوسوي، 2022)، والذي يتحدّث عن الإعلامي الفرنسي باتريك بوافر دارفور، وتحرشه بها وبكثيرات خلال سنوات، كان معروضاً في واجهة المكتبة. وهو مصدر كلمة "الإفلات من العقاب" التي تكرّرت في الشعارات التي رفعتها المكتبة.
إذاً، وبدلاً من أن يكون الحدث مركز الشرطة الذي سيكون واحداً من أكبر المراكز في فرنسا، والذي "سيجعل من أفراد الشرطة يتدافعون للقدوم إلى نيس" حسب ما جاء على لسان الوزير، كان "القمع" والمسّ بحرية التعبير محور الأضواء والتغطيات الإعلامية. فجأة صار الحدث في الجهة المقابلة للشارع، في المكتبة التي غطّت واجهتها قماشة سوداء. ما فعلته الشرطة صباحاً، وسردته صحيفة لوموند الفرنسية، كان الخبر المركزي وما يزال إلى اليوم على الرغم من مرور أسابيع.
حاولت الصحافة البحث عن الجهة التي أعطت الأوامر للشرطة للقيام بهذه الخطوة. كذلك حاولت صاحبات المكتبة. إلى اليوم لا جواب مُحدّداً عن الجهة التي أصدرت الأمر. هل هي الشرطة؟ هل هو المُحافظ؟ هل هو وزير الداخلية مباشرة؟ في حديث صحافي عبّرت صاحبتا المكتبة عن استيائهما الشديد، وكذلك عن جهلهما التامّ لمصدر القرار "ليس لدينا أي فكرة على الإطلاق من أين جاء قرار التعتيم، لكن ما نحن على يقين منه أننا لم ننتهك القانون، وإلّا كان تمّ تغريمنا حينها". لكنهما لم تتركا الأمر يمرّ مرور الكرام، بل قامتا بالتقدّم بشكوى إلى المحكمة العليا بسبب عرقلة حرية التعبير وكذلك حرية العمل.
صرخات الشجب ملأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، فما حصل لا يُمكن تبريره بأي شكل، وهذا ما يؤكّده رفض أي جهة رسمية تبنّي مسؤولية إصدار القرار. لا صالح لأحد في التورّط في فعل مُماثل. بدورها، أعلنت أكثر من مكتبة في فرنسا عن تضامنها التامّ مع "زملائها" وعلّقت الشعارات، التي تعرّضت بسببها المكتبة في مدينة نيس إلى القمع، على الواجهات. كما عبّرت دار نشر لوسوي الفرنسية عن غضبها من المسّ بحرية التعبير، مُعتبرةً أنّ ما حصل "فعل لا يُمكن أن يمرّ من دون عقاب".
في ديسمبر/ كانون الأوّل من عام 2020 خضع وزير الداخلية الفرنسية جيرالد دارمانان للتحقيق في شكوى تقدمت بها فرنسية تتهمه باغتصابها عام 2009. وذكرت مواقع صحافيّة أنّ قاضيين اثنين استجوبا الوزير كـ"شاهد في القضية"، لعدم توفر أدلة جدية تدين دارمانان بعد. واتهمت صاحبة الشكوى دارمانان بإجبارها على إقامة علاقة جنسية معه عام 2009، عندما لجأت له للتوسط من أجل محو إدانة من سجلها الجنائي، عندما كان الأخير مسؤولاً عن الخدمة القانونية لحزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية اليميني. وبدوره، أقر دارمانان، في تصريحات صحافية سابقة بالواقعة، مشدداً على أنها كانت بالتراضي خلال فترة شبابه. يشار إلى أنّ احتجاجات عدة اندلعت في فرنسا عقب إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اختيار دارمانان وزيراً للداخلية، وذلك على خلفية الواقعة المذكورة.