مظفر النواب و"للريل وحمد": كل الليالي التي سُفحت فيها الدموع

24 مايو 2022
من جنازة الشاعر (مرتضى السوداني/الأناضول)
+ الخط -

حملت ستينيات القرن الماضي، بين سنيها، إكسير شباب القصيدة الشعبية العراقية، وجسر وصولها للوجدان العربي؛ هناك، حيث حفر مظفر النواب رويدًا رويدًا، وبأناة ورويّه، مكانها القصيّ الممتنع، تمامًا كما نبش حريته من سجن الحلّة. كان للنوّاب سمعته السياسية والشعرية في العراق، ما جعل من قصائده منشورات سريّة تُتداول خفية وعلى غفلة من عين الرقيب، فمجرد ذكر مظفر في حديث عابر، كان يثير ريبة القائل من نفسه.
مع انتشار ديوان "للريل وحمد"، كانت النقلة الثورية للشعر الشعبي العراقي، وانفتاحه على شكل جديد للقصيدة خارج قوالبها المعهودة، كالدارميات والزهيريات، فدوّى صدى "للريل وحمد" في الأوساط الشعبية البسيطة، والأوساط المثقفة أيضًا. وبهذا المزج، فتح الشاعر متنفسًا رحبًا للشعر العراقي، انتُهِج مسلكًا نحا نحوه الشعراء.
من يقرأ ديوان "للريل وحمد"، الذي نطالع في صفحاته لوحات لضياء العزاوي، يمرّ بمفردات مفعمة بالحيويّة، وبتشكيلات صوريّة نُثِرت فيها الدّهشة، وسُبكت بسلاسٍة حملت العفويّة فيها بصمات الحرفة العالية، وتطفو العاطفة على موسيقى لا تنفكّ تفيض بحسيّة وغنائية مظفر، ووجل العامية العراقية ولطافة مفرداتها وأصواتها المدببة، المضافة لأصوات الأبجدية العربيّة مثل "ﮒ" التي تكتم وتعمق وقع القاف، و"ﭺ" التي تخفي إبريّة الكاف.
لم يسلم أي منا من ديوان "للريل وحمد"، كما لم ينج الملحنون من إغراءات ما كتبه مظفر النوّاب، ولم يقاوموا محاولات احتواء بعضها في إطارٍ موسيقي، في الوقت الذي لم يكن فيه مظفر شاعرًا غنائيًا، ولم يتقصد كتابة الأغنية أو القصيدة المُعدّة للتلحين والغناء، لكن الأعمال الغنائية التي تناولت قصائده كانت محاولات لإطفاء ظمأ، كنصيب فراشةٍ من نار.
خرجت بعض من نصوص "للريل وحمد"، كأغان بأصوات مغنّي السبعينيات من القرن الماضي، إذ شكّل الديوان منبرًا لكل صوت أراد أن يدخل قلوب الناس، ولكل ملحن أراد أن يختبر جدارته أمام نصوص تحمل من التجديد الجزل، والرقة الغنائية ما يكفي ليضع الملحن فيها إمكانيات وأفكار مهولة، لتتوازى مع أيقونية النصوص.
تناول الملحنون نصوصًا من الديوان، مثل "للريل وحمد"، و"يا ريحان"، و"زرازير البراري"، و"مضايف هيل"، و"أيام المزبن"، و"ولا أزود"، و"ﭼـذاب". حاول الملحنون أن يلملموا فيض النصوص الشعريّة، بقوالب غنائية فيها من المرونة والحضور الخطابي ما يتفاعل وخصائص قصائد النواب، المتمازجة بين الشعبيّة والتصويريّة، وغنائيّة حسيّة عجنها الشاعر بروح ريف العراق، واختبرها بزوايا حنجرته، فصُقلت بحادّ نُضج كاتبها.

لم ينج الملحنون من إغراءات ما كتبه مظفر النوّاب

من المربك معالجة نصوص لشاعر مثقف مثل مظفر النواب، وهو المتشرّب للحن العراقي منذ طفولته التي نشأت في كنف أبوين يعزفان الموسيقى، كما تمتّع بفطرة عالية، وبمخزون واضح من المقام العراقي المُتحصّن بحزنه، والمتفرّد بخصوصيته، إذ اعتاد الشاعر، سواء على خشبة المسرح أو في جلساته الشعرية، أن يؤرجح قلوب محبيه بصوتٍ مرن؛ فيمد، ويرقّق، ويفخّم، لتتماهى مفرداته بطقسيّة جاذبة، لا تلبث أن تنتقل إلى الجمهور الذي تطوف به جَلَبة المُستزيد، وبذلك بنى النواب حول قصائده مخيالًا غنائيًا، وُسِم بروحه، فصار من الصعب على أي ملحن أن يخرج من عباءة النص، قبل أن يَستعصِر مكامن الموسيقى فيه، فالنص عند النواب ناطق برغم استلقاء حروفه على الورق.
استجمع محمد جواد أموري ما استطاع لحصار حالة "للريل وحمد"، فقدمها بشكل أغنية مقطعية مع قفلة متكررة، تمامًا كما فعل النواب في نصه الشعري، إذ اعتاد إنهاء مقاطعه الشعرية بشطر "هودر هواهم ولك... حدر السنابل كطة"، باستثناء بعض المواضع التي خرج فيها النواب عن هذه القفلة.
لم تستطع تجربة أموري أن تقتحم حصون أبيات القصيدة لتجوس المعاني بين المفردات، بل كانت مجرّد قالب موسيقي لعرض النص الشعري، دونما أي تفاعل مع التصويرية الموغلة في الشعر. اتكأ الملحن على محليّة المفردات التي اختارها الشاعر في ديوانه الدّليل، واعتمد على استسلام المتلقي لقدريّة الجمال في نص النواب الشعري، إضافة إلى أن الأغنية الشعبية غير مجهزة لتقديم حالات موسيقية عالية تَفِضُّ بساطتها المستحبّة، فبمنطق التوازي يلزم لأي ملحن، عتادًا موسيقيًا أعظم مما اعدّه محمد جواد أموري ليستطيع تناول مقطع مثل: "ﭼـن ﮔـذلتك.. والشمس.. والهوى.. هلهُولَة، شلايل بْرِيْسِم..
والبريسم إلك سُوله، إذري ذهب يا مشط، يلخلـﮓ .. اشطوله! بطول الشعر.. والهوى البارد.. ينيم الـﮕـطة".
نكأ النواب جرح صويحب الذي لا يزال ينزّ منذ 1959، في ثاني قصائد ديوان "للريل وحمد"، والتي حملت عنوان "مضايف هيل"، مستهلاً إياها بنثرية قصيرة: "بدأ الإقطاعيون بنهر الكحلاء وابتدأت الردة". لم يزل الإقطاعي، ولم يزل جرح الصويحب والمنجل في ذات الفلك من الأدوار يدورون، كما لا تزال الحناجر في الشوارع تستحضر هذا النص كهتاف ثوريّ. قدّم سامي كمال أغنية "مَيلن لا تنـﮕطن كحل... فوﮒ الدم"، بقالب مناسب لِما حقن النواب في قصيدته من ثورة وثارات.
لم تكن هناك مشكلة بالملحنين بأسمائهم العريضة، كطالب القرّة غولي أو كمال السيد، بل كان منتهى الجرأة أن يقدموا على معالجة قصائد، كـ "زرازير البراري" المعروفة بـ "حن وأنا حن" بصوت ياس خضر، أو "يا ريحان" المعروفة "بشـﮕـد نده" بصوت فاضل العواد، فكلتا القصيدتين تموجان على اكتظاظ المعنى، وعلى الموسيقي أن يرقّ قبالتهما لكي يمس ما تخفّى في ثنايا النص الطويل الذي يضني الملحن بغزارة معانيه، وقربها من الأذن الشعبيّة، فلا يمكن التغاضي عن إغفال كمال السيد للزمن المتغير في نص "يا ريحان"، هذا النص الذي يبدأ من الماضي بذاكرٍة تقطع الزمن؛ لتصل الحاضر مثبّتةً نقاطًا مضيئة على مدى النص الطويل، فالذي "انسحن بالقلب" هو الليل الذي فيه كل الليالي التي سفحت فيها الدموع.


حرّر طالب القره غولي دخول قصيدة "زرازير البراري" من الإيقاع، فكان صوت ياس فالتًا إلا من قدراته على التعبير الصوتي، كما التقط الملحن حاملًا في القصيدة بنى عليه هذه المرة ندًا موسيقيًا كفؤًا، استمدّه من المقارنات المتكررة في النص مثل: جفنك، جنح فرّاشه غض وحجارة جفني... وما غمض".

اعتمد الملحن تغيير الأجناس المقاميّة، وتنويعًا في الطبقات الصوتية، ترافقه مقطعية إيقاعيّة، وسرعات مختلفة ساعدت في خلق دراما نابعة من النص الموسيقي، من دون أن تلقي بكاهلها على المادة الشعرية، فتغرق في الهيولى المنسوجة كفخاخ غنائية متفاوتة الألوان، نصبها النواب لينال من قرائه، فتكون مقتلة الموسيقى بيد الموسيقى.

اختصر "للريل وحمد"، في طياته، مرحله كاملة من عمر الأغنية العراقية، وقدم جيلًا من الأصوات والملحنين، تكنّوا بمطالع أبياته، فيما لا يزال فيه ما ينتظر، قصائد بكرٌ، ممتنعة لحين فك رصدها بسحٍر يقارب سحرها. أقفل النواب خزائن كلماته المفتوحة، إلا بوجه كل واثٍق جريء، يمشي على زجاج الكلمات، فيشفّ كتمام شفافها، وإذ بالموسيقى تهمس واشيةً بأثر المعنى.

المساهمون