تكمن السمة الأبرز للأفلام الفائزة بجوائز الدورة الـ23 (17 ـ 23 مارس/آذار 2022) لـ"مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة" في تناولها مشاكل فردية، وابتعادها عن القضايا الكبرى، وخلوّها من إشكاليات سياسية في علاقتها المعقّدة بالأمور الاقتصادية والاجتماعية، وإنْ لمّح بعضها إلى ظروف اقتصادية أو اجتماعية صعبة، من دون كشف حقيقة الترابط بين تلك الظروف والمسبّبات السياسية.
جائزة أفضل فيلم لـ"أنا حرّ" (Soy Libre، إنتاج فرنسي بلجيكي، 2021)، للفرنسية لور بورتييه الذي يتناول رحلة المُراهق أرنو، شقيق المخرجة. يتمرّد على مجتمعه الذي لا يشعر بالانتماء إليه، ويُحمِّل والديه أسباب مأساة حياته، بعد انفصال أحدهما عن الآخر باكراً، وانشغال الأمّ عنه في حياتها وعلاجها، وارتباط الأب بامرأة أخرى رفضت أنْ يعيش أرنو معهما. ببلوغه 10 أعوام، أُرغِم على العيش في ما يُشبه الملجأ، ثم بدأ يمارس العنف والسرقة، فسُجن مدة عام. عندما أُفرج عنه، كان لا بُدّ أنْ يمضي فترة أخرى رهن الحجز المؤقّت، وممارسة عمل يُمنَح له. لكنّ أرنو قرّر الهروب إلى إسبانيا، ليعيش حياته حرّاً، مُعتقداً أنّ المجتمع الذي عامله كالأجانب سبب الحالة التي وصل إليها، ويُلقي باللائمة الكبرى على والدته.
في قصيدته "المدينة"، يقول قسطنطين كفافيس: "ما دمتَ قد خرَّبت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنتَ في الوجود". هكذا تكون حياة أرنو في إسبانيا، وبعدها في بيرو، حيث لا يبحث عن عمل، بل يسرق ليسدّ رمقه، ينام في شوارع ومنتزهات، ويبحث عن وسيلة مواصلات مجانية، أو يسرق درّاجة بخارية. يعيش حياة مزرية، من دون أي محاولة للبحث عن عمل، فرغبته كامنة في الاستمتاع بالحياة، والعيش حرّاً، كما يردّد بصوته، مُفسّراً معنى الحرية برغبته في تكوين عائلة خاصة، والعيش في الريف.
يبدو أرنو شابّاً مهذّباً. هناك لقطة شديدة الإنسانية لعلاقته بجدَّته، لشعوره بالوحدة. ولقطات أخرى لأعمال الشغب والفوضى في الشوارع، والقنابل المسيلة للدموع، وتحطيم المحلاّت، وسرقة محتوياتها، من دون إشارة إلى أسبابها، ومن دون أي تحليل. يبدو الأمر كأنّ ما آل إليه وضع أرنو لا بُدّ أن يقود إلى هذا التدمير. لكنْ، من زاوية أخرى، لا شعور بالمسؤولية عند هذا الشاب الذي يحمل غضباً، ويُنكره. إنّها رحلة غير سهلة، يرتكب فيها أخطاء كثيرة، ويصطدم بالحياة أثناء مواجهتها، فيُطرح سؤالٌ: هل يجب اتّباع الأحلام من دون أيّ تحمّل للمسؤولية، أم السعي إلى خلق خيارات بديلة في الحياة التي نعيشها؟
جائزة لجنة التحكيم الخاصة لـ"البحث عن الأحصنة"، لستفان بافلوفيتش. فيلم شاعري، يستكشف العلاقة بين اللغة والصداقة والصدمة، عبر شخصيتي المخرج والصيّاد الذي فَقَد سمعه في الحرب الأهلية البوسنية، وصار يعيش في عزلة على البحيرة التي سافر إليها المخرج بحثاً عن الذكريات، فهو (المخرج) ابن أبوين من البوسنة، التي صارت تعني له أرض الحرب. لذلك، عاد إلى البحيرة الآن. رغم تلعثمه في النطق بتلك اللهجة المحلية، يحاول المخرج التواصل مع الصيّاد. يتجاوزان قيود الكلام والسمع، وتنشأ صداقة قوية بين الشاب والمحارب المخضرم، في عالم البحيرة المليء بسمك السلور الكبير، والخيول البرية، والصمت الواسع، والعواصف الرعدية الخطرة.
في مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة، فاز "تعديل" (19 دقيقة) لديان بتروفيتش بجائزة أفضل فيلم: مأوى في صربيا، توضع كلابٌ فيه خلف شبكة سلكية، في زنازين حديدية كئيبة. لا يظهر أبداً وجه الرجل الذي يعتني بالكلاب، ويُدرّبها وينظّف مكانها. لكنْ، قبل النهاية، يُكشَف أنّ المدرب سجينٌ في المأوى، عند الإفراج عنه تتأثّر الكلاب لغيابه. يتمتّع الفيلم بلغة سينمائية ذات خصوصية شاعرية مؤثّرة جداً، إلى درجة الشعور بحزن الكلاب، كأنّها صارت ميتة.
إلى ذلك، نال "صرة الصيف" (63 دقيقة) للمغربيّ سالم بلال جائزة "الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية (Fipresci)". ترصد الكاميرا حياة أناس يعيشون في صحراء المغرب، في ظرووف قاسية، أبرزها ندرة المياه والطعام، لكنّهم يُواصلون حياتهم في عزلتهم عن المدينة، من دون استسلام وشكوى، كأنّهم ينسجمون مع ظروف بيئتهم شديدة الصعوبة، ويتغنّون بها أحياناً كأنّهم سعداء، كما يُناجون الله ويحمدونه كثيراً.
الفيلم القصير "العربة السوداء" لأدَليت كارزْهُييف من قرغيزستان (تنويه خاص) يتناول شخصيات عدّة مُعذّبة، لكنّها لا تزال تواصل كفاحها بمثابرة وشجاعة إنسانية من دون شكوى. عمّال المناجم بلغوا بحفرهم الأرض عمق 500 متر، ورغم مخاطرتهم بحياتهم، يواصلون الحفر في منطقة خطرة، ويستمرّون في عملهم بجدّ وإخلاص، لكنّهم لا يملكون خياراً آخر لكسب النقود. كما يحكون عن مهن عدّة اشتغلوها سابقاً. فيلمٌ إنساني وسينمائي مؤثّر، لكنّه لا يصنع قضية، ولا يُحمِّل أحداً مسؤولية الظروف الصعبة التي يعيشها هؤلاء.