مريم جعبر (2/ 2): "قرّرت أنْ أصنع ما أشعر به وما أؤمن به"

14 اغسطس 2024
مريم جعبر: صورة أو لقطة أو تصرّف توحي إليّ بفكرة (رودن إكِنْروث/Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **شخصية بلال مقابل مهدي**: بلال، الشرطي الصديق للعائلة، يمثل النقيض لمهدي الذي يرى نفسه ضحية. بلال اختار أن يكون إنساناً صالحاً وداعماً للعائلة، وأصبح سنداً للأخ الأصغر آدم، مما يعكس خيار التغلب على المعوقات.

- **الموسيقى والتجريب**: الموسيقى في الفيلم كانت نتيجة للتجريب والتعاون بين المخرجة والمؤلف الموسيقي بيتر فانّ، مما أضاف بعداً خاصاً للمشاهد وساعد الممثلين على استحضار المشاعر.

- **التمثيل والواقعية السحرية**: اختيار الممثلين كان موفقاً، حيث أظهروا نضجاً وتفانياً. الفيلم ينتمي إلى سينما الواقعية السحرية، مما يجعله مخصصاً لجمهور نوعي، مع التركيز على الصدق في العمل الفني.

(*) ماذا عن بلال (آدم بيسا)؟ لماذا وضعت شخصيته مقابل شخصية مهدي؟

بلال الشرطي صديق العائلة، وأفضل أصدقاء مهدي. بعد رحيل الشقيقين، مهدي وأمين، أصبح بلال كأنّه ابن العائلة، والداعم الأكبر للأخ الثالث، الأصغر، آدم (ريان مشرقي ـ المحرّر)، الذي تخشى عليه الأم عائشة من الالتحاق بـ"داعش". بلال ليس له أبوان، لأنّهما متوفيان. في الكتابة، كنتُ أفكّر في وجود توازٍ بينه وبين مهدي، فالأخير يرى نفسه ضحية الحياة وقسوة والده. هذا اختيار راديكالي: الاستسلام لدور الضحية من دون مقاومة. لبلال وضعٌ عائلي مُعقّد جداً، لأنّه فَقَد والديه أيضاً، وصار وحيداً. لكنّه لم يعشْ دور الضحية، إذِ اختار أنْ يكون إنساناً صالحاً، ويكون سَنَداً لآدم وللأطفال الآخرين وللعائلة. كان ناصحاً أميناً لهم. إنّه شرطي جيّد، يُساند الأسرة والجيران.

الحياة والظروف ربما تكون كلّها صعبة، وتُسبّب عذاباً وألماً. لكنّ الشيء الوحيد الذي تمتلكينه يكمن في خيار تعتمدينه، وما ستفعلين حيال ذلك للتغلّب على المعوقات، ولتحقّقي شيئاً آخر جيداً.

 

(*) صورة الشرطي الصالح لافتةٌ في إيجابيّتها وطيبتها. ألم تشعري بالقلق، أو التردّد ولو قليلاً للصورة التي يظهر بها بلال، داعم الأسرة الذي يغمر أفرادها بحنانه، بخاصة بعد كلّ الفساد الذي يلاحق رجال الشرطة في تونس والعالم العربي، والموقف العدائي منه، المتزايد بعد ثورات الربيع العربي؟

أعتقد أن بلال هو الشرطي الذي أراه في أحلامي (تضحك ضحكة صافية عالية). قرّرتُ رسمه كما يبدو لي في أحلامي. الشرطي في الماضي مهمٌّ جداً في مجتمعنا، لكنّ صورته تبدّلت بين الماضي والحاضر. دوره في الماضي الحماية. كنّا نشعر بالأمان والثقة في وجوده. إنّه شخصٌ تلجئين إليه عند الطوارئ. الآن، لديّ حلم وأمل أنْ يعود إلى هذا الدور.

المعلّمون أيضاً كانوا مهمّين جداً، والآن لم يعد لديهم قيمة وأخلاق وإخلاص. كان جدّي مُعلّماً، له مكانة كبيرة عند الناس، وكان يُقدَّر.

 

(*) الموسيقى مميزة ومختلفة. كيف عملتِ عليها لتحمل تلك الخصوصية؟

كنتُ محظوظة أنّ المؤلف الموسيقي صديقٌ عزيز (بيتر فانّ). عندما بدأت كتابة السيناريو، سألته إنْ كان مستعدّاً للانفتاح على التجريب في الموسيقى. وافق. كنتُ أذهب إلى حديقته، فهو يعيش في الغابة. بدأنا معاً نستكشف أصوات الطبيعة. مثلاً: المؤثّر الصوتي في حلم المرأة خالٍ من الموسيقى. إنّه نتيجة كاملة للتجريب. كنّا نضرب صفحة المياه بأيدينا. سجّلنا الصوت، وانتقلنا إلى الاستديو. أول شيء استخدمته. في فترة صنع الفيلم، بقي هذا الصوت أصيلاً، من دون إضافات، وظلّ يُؤثّر فينا.

بهذا المدخل الأسلوبي، وظّفنا الموسيقى. كنا حُرَّين الوقت كلّه، كصغيرين نشعر بالمتعة في التجريب وبنتائجه، من دون رؤية واضحة أو قصدية. ثم أعطينا هذه الموسيقى للممثلين، لنُوحي لهم وتُلهمهم بالمشاعر، فتساعدهم على استحضار المشهد. كأنّه تنويمٌ مغناطيسي.

 

 

(*) لم أشاهد "إخوة"، الذي يدور أيضاً حول شقيقين. نجاحه مُدوّ. هل نجاحه دافعٌ لك إلى التفكير في تطوير الفكرة، وجعلها فيلماً طويلاً، له السياق نفسه؟

كلا. هناك أمور مختلفة تُناقَش في كلّ فيلم، حيث تسير الأمور بشكل متوازٍ بين عالمين متوازيين. لكلّ فيلم شخصياته. لكلّ شخصية اختيارات. كلّ اختيار يُبنى عليه، وتكون له عواقب. الشخصيات مختلفة، كالاختيارات والتكوين، وإنِ انطلقتُ من شخصياتٍ متقاربة، وفكرة وجذور متقاربة.

 

(*) إذاً، لماذا قرّرت صنع "إخوة" في فيلم قصير؟

لا أعرف. لكنّي أعتمد في قراراتي على إحساسي، وعلى الغريزة. الفكرة والممثلون في حكاية كهذه، بتلك التوليفة، حكمت أنْ يكون الفيلم قصيراً.

 

(*) قلتِ إنّ الفكرة ولدت عندما شاهدتِ شخصيات تونسية، مصادفةً. أتبحثين عن أفكار وأنتِ تسيرين بين الناس، وتنقّبين في الوجوه، متسائلةً عما وراءها؟

ليس بالضرورة. أحياناً، أشاهد صورة أو لقطة أو تصرّفاً، يوحي إليّ بفكرة. يمكن أنْ ألتقي شخصاً، فيلهمني بها. هكذا تأتي الأفكار. لا أعرف من أين تأتي في كلّ مرة، لكنّي دائماً مستعدة لاستقبالها. هناك أفكار تكون قوية وواضحة منذ البداية، وأخرى تحتاج إلى الاشتغال عليها أعواماً، فأتتبّعها، وفي الوقت نفسه، تكون الفكرة قادرة على العيش سنوات.

 

(*) العنوان العربي: "ماء العين". في الإنكليزية، تساؤلٌ: "إلى من أنتمي؟ (Who Do I Belong)". لماذا عنوانان مختلفان بلغتين؟

لأنّي لم أجد في اللغة العربية المعنى نفسه الذي أعبّر عنه باللغة الإنكليزية. "ماء العين" تعبير عن الدموع، والعين مصدر للماء.

 

(*) هل تعملين على السكريبت طويلاً؟

استغرقت الكتابة ثلاثة أعوام. شاركت في ورشة عمل واحدة في "مهرجان ساندانس"، ثم طوّرت الشخصيات طويلاً.

 

(*) اختيارك الممثلين موفّق جداً. إنّهم يتحلّون بالنضج. الأب إبراهيم (محمد حسين قريع)، والشرطي صديق العائلة، والأبناء الثلاثة. لكلّ منهم هوية، صنعت للفيلم شخصية مميزة. لكنْ، في مقدمة هؤلاء، هناك الأم عائشة التي أدّتها الممثلة صالحة نصراوي التي أظهرت جمالها الداخلي، جاعلةً مسام الوجه تنطق بعواطفها ومشاعرها، وعينيها تكشفان عذابها ووجعها من دون أنْ تنطق كلمةً واحدة أحياناً.

عندي علاقة قوية مع الممثلين. عندما نعمل معاً، نكون كعائلة. لذلك ظهرت عائشة بهذه الصورة. قرأتْ السيناريو، ومنذ البداية أعجبتها الشخصية. ساعدتني كثيراً في أشياء ساهمت في تطوير ملامحها. تحدّثنا طويلاً عن ملامح عائشة ومشاعرها وخلفيتها الاجتماعية ـ النفسية. حتى وإنْ لم تظهر في مشاهد، كنّا نتحدّث عنها ونحدّدها. كذلك وضعنا معاً في عائشة ملامح من شخصيّتينا، صالحة وأنا، بصفتنا امرأتين.

 

 

(*) ماذا عن الأبناء؟ صالحة ممثلة مخضرمة، وأستاذة في معهد المسرح، أما هما فلم يُمثّلا سابقاً إلّا في فيلميك، القصير والطويل.

صالحة وأنا درّبنا الأبناء لعامين، بشكل متقطّع. كنا نعمل "بروفات" للفيلم الروائي الذي حضّرنا له أكثر، ففي القصير كانت شخصياتهم أقرب إلى ما ظهروا عليه فيه. في الروائي، الشخصيات خيالية. دُرّب الممثلون على أعمال مسرحية، إلى تدريبات على الصوت والتنفّس، وعلى مشاهد منه، وأخرى على أعمال ومقاطع من خارج الفيلم. ففي التجربة الأولى للتمثيل، لا يعرف الممثل إلى أي حد يُمكنه التمادي، إذْ لا تكون لديه الخبرة في مساحة الإحساس، وكيفية اللعب به.

 

(*) فيلمك ينتمي إلى سينما الواقعية السحرية. هناك مشاهد تحتاج إلى تحليل وشرح، لغموضها بعض الشيء. ألم تشعري بالقلق في أنْ يؤدّي ذلك دوراً في تحديد الجمهور، أو جعله مخصّصاً بجمهور نوعي ونخبوي؟

ما دمت تصنعين شيئاً من قلبِك، وتُقدّمين شيئاً صادقاً، سيكون لديك جمهور يستشعر هذا الصدق. لاحظتُ هذا مع استقبال الفيلم، وتباين ردود الفعل إزاءه. الذين يشعرون به، يحبّونه بعمق، وهناك من لم يُعجبهم، فلا يتجاوبون معه. عشتُ خمس سنوات فيه. له تأثيرٌ عميقٌ عليّ، لكنّي لا أعرف ماذا سيحدث له بعد عرضه في الصالة.

أحياناً، يكون هناك فيلمٌ جيّد وقويّ سينمائياً، لكنّه لا يلقى صدى عند الجمهور العريض. أفلام أخرى لا تكون بهذه القوّة، سرداً وبناءً فنياً وقصة، ومع ذلك تحقّق نجاحاً كبيراً. لا توجد معادلة مضمونة. ليس هناك توقّع أكيد، أو معيار ثابت يضمن النجاح الجماهيري. لكنْ، طبعاً، هناك معيار للجودة، فالجمهور كائن هلامي غير مضمون.

ما يَشغلني في فترة صنع الفيلم، أنْ أضع فيه أشياء من قلبي وروحي. أحياناً، أفعل أشياء رغبةً منّي في إسعاد الآخرين، ولا أُحقّق نفسي أو رغبتي، فينعكس ذلك على الفيلم. لذا، قرّرت أنْ أصنع ما أشعر به، وما أؤمن به.

 

(*) تأثّرك بالفن التشكيلي واضح جداً في بناء الكادرات والتصوير. مثلاً: الأم تحضن ابنها في مشهد الحلم، لقطة تخرج من لوحة لفان غوغ. لا أقول إنّها تقليد أو محاكاة. لكنْ، فيها شيء من روح فان غوغ. هل كنت تفكرين بأسلوب الفن التشكيلي في كتابة السيناريو؟

أحبّ الفن التشكيلي، ومُشاهدة الصُّوَر وتأمّلها، أكانت لوحات أم صُوراً فوتوغرافية. في التصوير، كنّا مدير التصوير (فانسان غونّوفيل) وأنا، عند التفكير في كادر، نهتمّ بحدود الصورة وتكوينها، كأنّها صورة فوتوغرافية. من هنا كان الإلهام.

 

(*) كيف تخطّطين لمستقبلك السينمائي، وأعمالك المقبلة؟

علاقتي بالسينما قوية، خاصة في تونس. الحكايات عنها تجذبني. ورغم أني أعيش في كندا، أتابع تونس وما يحدث فيها. لا أعرف حقيقة ماذا سأفعل بعد هذا الفيلم. كلّ شيءٍ مُحتَمل، وقابل للتجريب. لديّ أفكار عن السينما والصُور. أحبّ تأليف كتابٍ. أحبّ الاكتشاف أكثر. سأعطي لروحي حرية أنْ تفعل ما ترغب في تجريبه.

المساهمون