بإعلان صغير في مجلة فنية صادرة عام 1938، بدأت هنومة خليل حبيب علي، التي ستُعرف لاحقاً باسم مديحة يسري، التعبير عن رغبتها في احتراف التمثيل. حينها، كانت تبلغ 18 عاماً. بفضل الإعلان نفسه، أُغرِم عباس محمود العقاد بها، فأرسل مَنْ يبحث عنها، ودعاها إلى حضور الصالون الأدبي الأسبوعي في منزله، وتبنّاها أدبياً وثقافياً.
تقول مصادر إنّ سمراء النيل الجميلة كانت تُدير منزله، ويروي آخرون حكاياتٍ مغايرة ومتضاربة عن قصة الغرام الأحادي، وانتقام العقاد أدبياً منها، بكتابة أشعارٍ عدّة، كما في كتابه "سارة" (1938)، وإنْ حدث اختلافٌ بخصوص "بطلة" الكتاب، إذْ قال البعض إنّها مي زيادة، والبعض الآخر جاهلٌ بها، وهناك من يُشير إلى مديحة يُسري.
أما بطلة الحكاية، فتقول أموراً عن القطيعة والخصام، ستنفيها في أيامها الأخيرة، بينما يُدَوِّن أدباء وفنانون، كمصطفى أمين وأنيس منصور وصلاح طاهر، أشياء متناقضة عن الغرام والهجر، وعن التواصل والصلح والمودة من بعيد، التي نجد شذرات منها، تفتقد التدقيق والتحقيق أحياناً، في كتاب "مديحة يسري.. جميل وأسمر" لمحمد محمد مستجاب (إصدار "مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية"، الدورة الـ10، مارس/آذار 2021)، في المئوية الأولى لولادتها (3 ديسمبر/كانون الأول 1921).
بعيداً عن النميمة وقصة الحب الأحادي، يصل المتأمّل في هذه العلاقة ـ المستمرة 4 أعوام فقط، مع مقارنة موازية لمشوار الفنانة، والصورة الأسطورية التي صنعتها لنفسها ـ إلى نتيجة مفادها أنّ الأعوام الـ4 تلك شكّلت الحياةَ، تكويناً وفكراً وأسلوباً، التي اختارتها هنومة لنفسها في مسارها الفني، بدليل أسلوبها الراقي والمحتشم، والبعيد عن الإغواء المستند إلى العري، كأنّها تُريد أنْ تُثبت للعقاد أنّ رأيه في الفن غير صحيح. حتى الأفلام الـ3 ـ ”رجل لا ينام" (1948) ليوسف وهبي و"الاعتراف" (1965) لسعد عرفة و"النصف الآخر" (1967) لأحمد بدرخان ـ التي خرجت عن هذا الإطار، والتي ارتضتها مرغمةً لإرضاء بعض الأطراف، كانت مصدر قلق وإزعاج لها، ما جعلها تُعلن، أكثر من مرّة، عن ضيقها منها، وغضبها عند مُشاهدتها، مؤكّدة على أنّها تُسقطها من لائحة أفلامها.
لم يتوقّف مستجاب طويلاً، وبشكل معمَّق ومتأمِّل، عند دهاء مديحة يسري ووعيها إزاء آثار تلك الأعوام القليلة التي أمضتها في رعاية العقاد، لكنّه تناول الأفلام الـ3، باحثاً عن تفسيرٍ لكراهية نجمة الزمن الجميل لها، كتناوله الثنائيات في حياتها الفنية والزوجية، مع محمد أمين وأحمد سالم ومحمد فوزي، ومسيرتها الفنية مع عمالقة الغناء ونجوم السينما. فما إنْ ظهرت مع محمد عبد الوهاب في "ممنوع الحب" (1942) لمحمد كريم، حتى بحث عنها المنتج جبرائيل تلحمي لتمثّل مع فريد الأطرش في "أحلام الشباب" (1942) لكمال سليم، وتشاركه البطولة المُطلقة بديلاً من أسمهان. اكتسبت نجوميّتها سريعاً بفضل 3 أفلام أخرى، مُنتجة في الفترة نفسها: "يسقط الحب" (1943) لإبراهيم لاما، و"العامل" لأحمد كامل مرسي (1943)، و"تحيا الستات" (1944) لتوغو مزراحي.
عام 1942، تزوّجت يسري، للمرّة الأولى، مع الفنان والموسيقار محمد أمين. يقول مستجاب إنّ "كوكب الشرق لعبت دوراً في تشجيعهما على هذا الزواج، الذي أثمر عن تعاون فني، حيث أنشأ شركة إنتاج فني استمرت ما يزيد على خمس سنوات، عمر زواجهما، قدّما خلالها عدة أغنيات ثنائية اتسمت بالرومانسية الكوميدية". لكنه يطرح أحياناً معلومات متناقضة عن حادثة واحدة في صفحات متباعدة، من دون تحقيقٍ أو ربطٍ بينها، ومن دون أنْ يُوضح هل ينقل آراء آخرين، أم أنّه يعبّر عن رأيه الشخصي. كما أنّ هناك تضارباً بين مسائل كتبها طارق الشناوي في مقدّمة الكتاب، وما كتبه المؤلّف، ومنها حكاية بطلة كتاب "سارة". إضافة إلى عدم اهتمامه، إلاّ نادراً جداً وفي سطور قليلة فقط، بالحديث عن مديحة يسري وأسلوبها في التمثيل وفنّ الأداء، حتّى عندما خصّص فصلاً لذلك، لكنّه ظلّ يلجأ إلى سرد قصص الأفلام، أو حكايات ترشيحها، أو تصريحات لها ولآخرين.
رغم انحياز مستجاب إلى بطلة كتابه ضد نجمات أخريات، كفاتن حمامة، ورغم انطلاق الكتاب من نظرة ذكورية بحتة، تهتمّ بالجوانب الشكلية والمفاتن الجسدية، فإنّ "جميل وأسمر" مليء بحكايات مسلّية عن حياتها وأزيائها وأناقتها ورقيِّها وجمالها، وحكايات الأدوار التي مثّلتها الفنانة المولودة في الحلمية، والناشئة في حي شبرا، التي رشّحتها ملامحها المصرية وعينيها السوداوين للنجومية، والتي اختارتها مجلة "تايم" ضمن أجمل 10 نساء في العالم، في أربعينيات القرن الـ20.
يصعب عدم تناول تجربة مديحة يسري مع الموسيقار محمد فوزي، إذْ كانت أعوامَ تألّقٍ سينمائي وانسجامٍ عاطفي، كُلِّل فيها الحبّ بينهما بالزواج. وهذا حاصلٌ بعد تجارب سينمائية مشتركة، ومرحلة حزن طويلة ومؤلمة بسبب رحيل زوجها أحمد سالم، الذي جمع الفن، تمثيلاً وإنتاجاً، بينهما.
أثمرت تجربة فوزي ويسري عن أفلام لا تزال رمزاً للرومانسية، كـ"من أين لك هذا" (1952) لنيازي مصطفى، و"وفاء" (1953) لعزّ الدين ذو الفقار، و"بنات حواء" (1954) لمصطفى أيضاً، و"معجزة السماء" (1956) لعاطف سالم. كما أنجبت منه ابنة، أسمياها وفاء، المتوفّاة بعد أيام على ولادتها، وعمرو، الذي أصبح بطل مصر في الكاراتيه، والذي توفّي عام 1982 في حادث سيارة، وكان يبلغ 27 عاماً.
استمرّ الزواج 5 أعوام فقط، لكن صداقتهما امتدت بعد الانفصال، وساندته في محنة تأميم شركته. في الكتاب تفاصيل إضافية عن علاقتهما، وسبب الخلاف والانفصال الهادئ والراقي، وإنْ لم يُدقِّق مستجاب في التواريخ، المتناقضة أحياناً، ولم يبحث في الأسباب، أحياناً كثيرة.
في الخمسينيات الماضية، استطاعت مديحة يسري أنْ تؤكّد رومانسيتها، وأنْ تسم أفلامها بـ"سمراء النيل"، وأنْ تُعلن أنّ "المرأة نصف المجتمع"، منذ "الأفوكاتو مديحة" (1950) ليوسف وهبي، وشخصية عصمت في "بنات حواء". كما أنّها جدّدت دماءها وقدراتها شديدة الخصوصية في فنّ الأداء، ومثّلت ببراعة شهيدة الحب، في الفيلم الأشهر في تاريخ السينما المصرية، "إنّي راحلة" (1955) لعزّ الدين ذو الفقار، عاكسة فيه قوّة الإخلاص للحبّ، الذي أنقذها من حصار المجتمع الجديد الـ"مودرن"، وتقاليده، ونفوذ المحيطين بها.
من عناوين الكتاب (116 صفحة): "الهانم.. الأم المغايرة في السينما المصرية"، رصد قيامها بهذا الدور في مسيرتها الطويلة، وأيضاً من دون تحليل عميق لفنّ الأداء، إذْ رسّخت أمومتها بعيداً عن الدور المعروف، والصورة الانطباعية المتداولة للأم في السينما المصرية، خاصة مع "أمير الانتقام" (1950) لهنري بركات، و"حياة أو موت" (1954) لكمال الشيخ، رغم ظهورها في مشاهد عدّة منّه، لكنّها مؤثّرة، إذْ قَلَبت مزاج المُشاهد من ضيقٍ وغضب تجاهها، إلى حب كبير واعتراف بالجميل، لأنّها أنقذت زوجها والأسرة. مروراً في "الخطايا" (1962) لحسن الإمام، وصولاً إلى "خطيب ماما" (1971) لفطين عبد الوهاب، الذي قدّمت دورها فيه بأسلوبٍ فكاهي مرح، رغم جدّية الموضوع وأهميته. ثم مشاهدها مع نجم الكوميديا فؤاد المهندس، في "خلّي بالك من جيرانك" (1979) لمحمد عبد العزيز.
لدورها في "الإرهابي" (1994) لنادر جلال، خصّص مستجاب فصلاً بعنوان "أمّ لكلّ المصريين"، أعقبه بصفحات لأشهر الأغاني التي قيلت في جمال عينيها وسمرتها، من دون أنْ يغفل تجربتها المهمة في الإنتاج السينمائي، مُشيراً إلى أنّ "الأفوكاتو مديحة"، الذي أنتجته بأموالها، فتح الباب أمام عدد من أهم الثنائيات في مسيرتها السينمائية.