مخرجون ونقّاد عن كرة القدم: الحبّ والخيبة

01 نوفمبر 2022
الجمهور لا يحب مُشاهدة قصّة المباراة خارج مستطيلها الأخضر (ميشيل ستيل/ Getty)
+ الخط -

سألت "العربي الجديد"، مخرجين ونقاداً عرباً، عن العلاقة القائمة بين السينما وكرة القدم، والأسباب التي تدفعهم إلى الانسحاب من المَشهد الرياضي، والتعلّق أكثر بالسينما ومُتخيّلها البصري:

حسن ناجح (ناقد أردني)

ظلّت لعبة كرة القدم وجهة لدى صنّاع أفلام عديدين، في تاريخ السينما، من الفيلم الصامت إلى الآن. رأى مخرجون آخرون في اللعبة نفسها وسيلة للتقرّب إلى المُشاهد، الذي لديه حماسة وشغف في أنْ يرى أبطال اللعبة على المستطيل الأخضر يحضرون أمامه على الشاشة الكبيرة، فضلاً عن إسناد دور لاعب كرة قدم إلى ممثلين مشهورين، لتحقيق مواقف ودعابات كوميدية، تُثير لدى المتلقّي مُتعة زائدة من اللهاث وراء كرة، والاستحواذ عليها من مُنافسين.
هذا يذكّرنا بأفلامٍ مصرية، مثل "الرياضي" لتوغو مزراحي، و"غريب في بيتي" مع نور الشريف وسعاد حسني. هناك أيضاً "أونكل زوزو حبيبي"، لمحمد صبحي؛ وغيرها.
هناك أفلامٌ نظرت إلى اللعبة بوصفها مفردة لتحقيق طموحات وطنية، أمام فرق منافسة تكون في الواقع خصماً لا يستهان به. المخرج الأميركي جون هيوستن حقّق "الهروب إلى النصر"، فحرص على تصوير مباراة كرة قدم بين أسرى من جنود قوات التحالف وجنود نازيين، حرّاس المعتقل في الحرب العالمية الثانية. يُصرّ الأسرى على خوض المباراة، في محاولة للفرار. لكنّ غايتهم تحقيق نصر/فوز على أرض الملعب. تقترن نجاح خطتهم بالهروب إلى الحرية. شارك فيه نجوم حقيقيون في لعبة كرة القدم، إلى جوار نخبة من نجوم هوليوود، بينهم الممثل سيلفستر ستالون.
على صعيد آخر، قدّم مخرجون، يرفعون لافتة سينما مغايرة، إنجازات إبداعية، محورها لعبة كرة القدم، في أزقّة وحارات شعبية، تُبرز فرادة فتيان في الوصول إلى أهداف مبتغاة، والحصول على شهرة ونجومية، كما في "بيليه"، عن حياة أحد أساطير كرة القدم.
لكنْ، يُحسَب للسينما المصرية أنّها نجحت في عرض صُورٍ واقعية من داخل تفاصيل الحياة اليومية، المُشبعة بالهموم والآمال الإنسانية الخصبة. هذا قدّمه محمد خان في "الحريف". هناك أيضاً المعالجة البديعة للواقع في "واحد صفر" لكاملة أبو ذكري، عن حراك بيئة شعبية لحظة مباراة كرة قدم، تُبثّ مباشرة على شاشة التلفزيون.

سليمان الحقيوي (ناقد مغربي)

أشاهد كرة القدم كلّ أسبوع. في الماضي، دفعني هذا إلى الاعتقاد بأنّ من لا يشاهد كرة القدم، يُفوّت على نفسه متعاً كثيرة. لكنّ هذا الظنّ تلاشى سريعاً. المتع مُشاعة وكثيرة، والكرة لا تختلف عن أيّ منها. هكذا صار اعتقادي اليومي. موقفٌ أقرب إلى رأي أمبرتو إيكو، لكنْ بتشدّد أقلّ في موضوع الجمهور: "أتفهم كثيراً إدمان البعض على مُشاهدة مباريات فريقه، بخاصة في بلدان تقلّ فيها لحظات الفرح".
تعود أقدم ذكرى لي مع الكرة إلى المباراة النهائية في مونديال أميركا 1994. اللحظة التي حدّدت نوع المنتخب الأجنبي الذي سأشجّعه مستقبلاً، إيطاليا، ونوع المشاعر التي تُغلّف العلاقة بإنجازاته: الحبّ والخيبة. إنّها المباراة التي خلّدت لدى جيلنا روبرتو باجيو كأحد الأبطال غير المُتوَّجين. بالمناسبة، أنتجت "نتفليكس" فيلماً سيئاً عنه، لم يكتفِ بعدم قبضه على اللحظات المهمّة في سيرته، وتوظيفها بما يخدم الحبكة، بل قدّمه أكثر خارج الملعب. هذا مفهومٌ، فلا يوجد ممثلٌ يستطيع مداعبة الكرة مثله. باجيو ينطبق عليه قول إدواردو غاليانو: "يركض لاهثاً على شفير الهاوية. في جانبٍ، تنتظره سماوات المجد، وفي جانب آخر، هوّة الدمار".
اليوم، أشاهد الكرة بشغف أقل، ربما لأنّ اللعبة أُغرقت في جانب اقتصادي بحت، أفسَدَ جمالها وفلسفتها. "اللعب من أجل اللعب". يُقلقني انعدام الموهبة. أشاهد عشرات اللاعبين، وهم لا يختلفون عن بعضهم البعض سوى بقصّات الشعر، والشكل، وقوّة بدنية وموهبة قليلة. أشتاق إلى زمن كان رونالدو داليما مثلاً يبتكر فيه مراوغة، بعد محاصرة دفاع الخصم له. شيء يُشبه السحر. الكرة الحديثة تُقزّم الموهبة. اليوم، تُسرق اللعبة لفائدة المال. صحيحٌ أنّ تقديم المباريات صار أجمل، والملاعب أكثر سحراً، وجانب الترفيه رهيبٌ. لكنْ، هناك إحساس بأنّ اللعبة تُسرق من الجمهور.
أما السينما، فلم تجد طريقها إلى صنع أفلام جيّدة حول كرة القدم، كون الجانب المهم في الكرة قصّة المباراة نفسها. القصّة التي تنتهي بعد صافرة النهاية. هذا التدفّق المباشر جمالها الخاص. أداء اللاعبين فيها. حركتهم وقتالهم من أجل الفوز. هذه عناصر لا يُمكن استعادتها. ليست هناك حبكة قادرة على مُجاراة هذه الميزة. لذا، تكتفي غالبية الأفلام بسِيَر اللاعبين. حتّى إنْ قدّمت قصصاً روائية، فالمصداقية تغيب عن كلّ مشهد. الجمهور لا يحب مُشاهدة قصّة المباراة خارج مستطيلها الأخضر.

سائد عاروري (مخرج أردني)

يخطر ببالي، عند استحضار مشهد لعبة كرة القدم، بأنّ الوقت حان أنْ ينتهي. فالكرة تُعبّر عن السرعة والخفّة في الحركة. صراع الطموح لتحقيق الأهداف الأسمى، من أجمل اللحظات التي يعيشها الإنسان، تحقيق الأهداف في الحياة. يُمكن استخدام اللقطات القريبة والمؤثّرة على الكرة، وأيضاً على اللاعب: التركيز على عينيه ووجهه، ثم لقطة مُعبّرة لجمهورٍ يترقّب اللحظة المناسبة لتسديد الهدف. كلّها مشاعر متضاربة: هل ينجح في تحقيق النصر، أم سيُجنِّب المنتخب والدولة الخسارة؟ بعدها، يُمكن تركيز لقطةٍ على الحارس، الذي هو أيضاً مُنفعل. وفي لحظة حيرة: هل يتجه يميناً أم يساراً؟ أو ربما سيقف في الوسط، ولا يتحرّك إلاّ بمعرفة اتّجاه الكرة؟
إنّها لحظات ترقّب تصنعها عينيّ كمخرج لهذه اللحظة المهمة في حياة الممثل. هنا، نقطع فجأة، وإذْ بنا نجد "طفلاً صغيراً"، يبلغ 18 عاماً، نائماً، وأمّه توقظه للذهاب إلى المدرسة، لتحقيق النجاح. نجد الحلم لا يزال يراود الفتى، الذي يقول إنّه يُحبّ إحراز الهدف في المرمى. لكنّه يستيقظ ببطءٍ شديد. يبدأ اللعب، لكنْ على الحاسوب لا في الواقع. ثمّ نجده هنا مُرتبطاً بعالم خيالي غير واقعي، وينسى ـ من شدّة تعلّقه بالألعاب ـ أنّه بعد إحرازه الهدف، أصيب في قدمه اليمنى، ولا يستطيع التحرّك.

سوشيال ميديا
التحديثات الحية

عبد الكريم واكريم (ناقد مغربي)

هناك أفلام تناولت لعبة كرة القدم منذ وقت باكر في السينما العالمية. أول فيلم شاهدته في قاعة سينمائية في مدينتي طنجة، القاعة التاريخية "روكسي"، في بداية ثمانينيات القرن الماضي، روائي تخييلي بعنوان "لنا النصر" (1981) للأميركي الكبير جون هيوستن، الذي شارك نجومٌ في كرة القدم آنذاك، كبيلي أرديليس وبوبي مور وآخرين، رفقة نجوم سينمائيين، كسيلفستر ستالون ومايكل كين وماكس فون سيدو، والممثل المغربي حميدو بن مسعود. أثّر فيّ هذا الفيلم بشكل كبير، إذْ كنتُ آنذاك أمارس كرة القدم وكرة اليد كحارس مرمى، وكنتُ مهووساً بكرة القدم ممارسةً ومُشاهدةً وإعجاباً بفرق بعينها، كـ"برشلونة"، التي كنت أتابع مبارياتها عبر القناة الإسبانية الأولى، التي كنا نستقبلها في شمال المغرب عبر هوائيات لاقطة، ونتابع برامجها باستمرار.
من الأفلام التي شاهدتها واستمتعتُ بمشاهدتها، "مارادونا" (2008) للمتميّز أمير كوستوريتسا، عن مسار أسطورة كرة القدم دييغو مارادونا. فيلم وثائقي، رافق فيه المخرجُ مارادونا في مرحلة مهمةٍ من حياته، لإنجاز هذا الفيلم الجميل.
لم أعد شغوفاً بكرة القدم. منذ مدة، لم أعد أشاهد سوى مباريات المنتخب الوطني المغربي فقط. لكنّ هذا لا يمنعني من مُشاهدة أفلامٍ تتناول هذه اللعبة الشعبية.
بالنسبة إليّ، الإخراج التلفزي لمباراة كرة القدم يُلزمه مُخرج عارف بتقنيات السينما وفنيّاتها، لأنّه يُفترض بهذا الإخراج ليس فقط إيصال مجريات المباراة، ووضع المتفرّج في أجوائها، بل التأثير فيه أيضاً بشكل من الأشكال.

مشاهدة مباراة في الملعب ليس أبداً كمشاهدتها على شاشة التلفاز، أياً كان حجمها، لأن مخرج المباراة يختار بعناية ما يريد إيصاله إلى المتفرّج مما يجري في الملعب والمدرّجات، ويُخفي أيضاً ما يبدو له أنّه جديرٌ بالإخفاء، بحسب السياسة التحريرية للقناة التي يشتغل لحسابها.
أما في السينما، فغالب الأحيان اختيار تيمة كرة القدم في فيلم لغرضٍ فرجوي صرف، وليس لأيّ غرض آخر. لكنّ التناول الفني يكون الفرق بين جودة فيلمٍ من آخر في هذا السياق.

محمد الشريف الطريبق (مخرج مغربي)

لم يسبق لي أن مارستُ لعبة كرة القدم، ولا شاهدتُ مباراة منها، إنْ تكن المباراة للمنتخب الوطني، أو في كأس العالم. لم يسبق لي أنْ حاولت حتّى. اللحظات القصيرة والنادرة التي شاهدتها من مباراة لكرة القدم، صدفة، كانت تشدّني بتشويق، خاصة إذا صدف ذلك مع لحظة تحقيق هدف. لكنّي لا أستطيع التوقّف أكثر من دقائق أو ثوانٍ.
رغم ذلك، عندما أشرف على محترفات وورشات لتعليم اللغة السينمائية، يكون نقل التلفزيون لمباراةٍ نموذج أستعمله لأشرح أولويات هذه اللغة، وإحدى نظريات الناقد الفرنسي أندريه بازان. عندما يتعلّق الأمر بنقل مباراة كرة القدم، يتم مسرحتها بجعل المتفرّجين يرون الحدث من جهة واحدة، حيث توضع الكاميرات في الجهة نفسها، ليبقى كلّ فريق مُرتبطاً باتجاه معين. إذا حدث العكس، فالفريق الذي نراه يهاجم من اليمين إلى اليسار، في الشوط نفسه، يتحوّل إلى العكس، ويقع ارتباك.
هذا نسمّيه في السينما "قاعدة زاوية 180درجة" (أي خط). عندما نضع الكاميرا من جهةٍ ما من الفعل/الحدث، يجب ألاّ تقفز الكاميرا وهي تُغيّر زوايا الالتقاط، أي ألاّ تقفز على الخطّ الوهمي الذي يرسمه شخصان يقفان مثلاً وجهاً لوجه، أو مجموعة من الأشخاص، لنضمن بذلك الحفاظ على اتجاه النظرات ومعالم المكان واتجاهاته.
يتحدّث بازان عن مفهوم المونتاج الممنوع، فيقول إنّه، عندما يرتبط جوهر حدث معين بعاملين متزامنين، يصبح المونتاج ممنوعاً، ويكون التصوير باللقطة المشهدية (plan séquence) طريقاً صحيحة للتعبير عن طبيعة الحدث. مثلاً، في نقل مباراة كرة قدم، تُخصّص لذلك كاميرات عدّة، كلّ واحدة تأخذ زاوية مُعينة، وبسلّم مختلف (تتراوح بين العام والخاص). لكنْ، تبقى الكاميرا الرئيسية، التي تغطي أرضية الملعب كاملة، الأهمّ بينها، وتحتوي على الفعل، أي اللعب، بشكل كلّي، ولا تُغيّر من سلّمها. فعندما يكون الحدث بالشكل الذي وصفه بازان، كمحاولة تحقيق هدف مثلاً، يقتصر المخرج على هذه الكاميرا فقط، ولا يكون هناك تقطيع، أيْ يُصبح المونتاج ممنوعاً.
إذا تمّ التقطيع أثناء هذه اللحظة، وتغيير زاوية النظر أثناء محاولة الإصابة، فإنّ اللاوعي يشعر كأنّ الحدث مُفبرك، فيتمّ الرجوع بعدياً إلى الزوايا الأخرى، أي بشكل غير مباشر، أي لقطات مُسجلة. عندما يتعلّق الأمر، في فيلمٍ روائي، بمشاهد أثناء مباراة كرة القدم، تُستعمل لقطاتٍ من الأرشيف، أو تصوير حقيقي لمباراة حقيقية، لصعوبة إعادة تمثيل مباراة، من حيث عدد الجمهور، وقدرة ممثل على أداء دور لاعب كرة قدم. لأنّها لعبة تختلف عن الشطرنج مثلاً، فلا يُمكن إعادة الحركات نفسها، وإعادة تمثيل مباراة سابقة، لأنّ ذلك مستحيل. في حالة إعادة تمثيل مباراة مع ممثلين، يكون ذلك غير مقبول، باستثناء إذا تعلّق الأمر بفيلم كوميدي. هناك حدود "ايتيكية" للتمثيل.
هنا تتوقّف علاقتي بكرة القدم. لا أحبّ فرجةً غايتها في ذاتها. أحبّ الفرجة التي تبلور معنى، وأجد لها صدى في الذاكرة أو الواقع.

محمود الغيطاني (ناقد مصري)

تعرّضت أفلام سينمائية عدّة لرياضة كرة القدم. ورغم ندرتها، لا يُمكن إنكار أهمية تناولها كجزء من الحياة. كما أنّ لها جمهورها العريض الذي يقبل عليها. مثلاً، قدّم محمد خان "الحريف" عام 1983، وسمير سيف "غريب في بيتي" عام 1982، وأشرف فايق "الزمهلاوية" عام 2008.
بعض المخرجين انتبه إلى أهمية تقديم كرة القدم بشكل فني. نلاحظ هذا الاهتمام في السينما العالمية أيضاً: أوليفر ستون حقّق Any Given Sunday عام 1999، وكِن لوتش أنجز Looking For Eric عام 2009.
غالباً، تتناول هذه الأفلام السيرة الحياتية لأحد لاعبي كرة القدم، أو تعالج الأمر بشكل كوميدي. شريف عرفة تناول الأمر من منظور سياسي رمزي، في "الدرجة الثالثة" (1988).
أنا لا أتابع كرة القدم إطلاقاً، وليس لديّ اهتمام بها. لكنّ تناولها سينمائياً من الأمور المهمة لتأمّل هذا العالم.

المساهمون