متحف المافيا... مزار إضافي في صقلية

29 ابريل 2023
قتلت المافيا المدعي العام جيوفاني فالكون عام 1992 (ستيفانو مونتيسي/Getty)
+ الخط -

تُشتهر إيطاليا بمناظرها الطبيعية الخلابة وتراثها الثقافي الغني ومأكولاتها اللذيذة، لكنها معروفة أيضاً بجانبها المظلم، المتمثل بعصابات المافيا. منذ ما يزيد عن القرن، والجريمة المنظمة تمثل شوكة في جانب إنفاذ القانون في هذا البلد الأوروبي العريق. تمثل المافيا جزءاً من الثقافة الإيطالية، وقد أثرت على كل جانب من جوانب الحياة، من السياسة إلى الاقتصاد والفنون. تحاول الحكومة الإيطالية اليوم مُعالجة هذه المشكلة والتعريف بها بشكل مباشر وعبر وسائل متعددة، من بينها إنشاء متحف مُخصص للمافيا سيقام في مدينة كورليوني في مقاطعة باليرمو الصقلية، ومن المقرر افتتاحه في 23 مايو/أيار المقبل.

يهدف إنشاء هذا المتحف إلى تثقيف الزوار حول تاريخ وتأثير هذه العصابات على إيطاليا والعالم. سيضم المتحف الجديد معارض تفاعلية وعروض وسائط متعددة، وتجارب مختلفة تخاطب جميع الحواس، بما في ذلك الروائح والأصوات، إلى جانب الوثائق والأفلام والصور.

من المعروف أن جزيرة صقلية هي مهد عصابات المافيا الإيطالية التي يعود ظهورها إلى القرن التاسع عشر. يمكن إرجاع أصول المافيا إلى الماضي الإقطاعي للجزيرة، إذ استخدم ملاك الأراضي الأقوياء نفوذهم للسيطرة على السكان المحليين. بمرور الوقت، تطورت عصابات المافيا إلى منظمات إجرامية عالية التنظيم، مع نظام هرمي للقيادة وشبكة معقدة من الأعضاء والمنتسبين. ركزت المافيا على أشكال مختلفة من الأنشطة غير القانونية، مثل الابتزاز والتهريب وغسل الأموال. مع نمو قوة المافيا ونفوذها، انتشرت إلى أجزاء أخرى من إيطاليا وأنشأت فروعاً في المدن الكبرى، مثل روما وميلانو ونابولي. لم يقتصر تأثير المافيا فقط على عالم الجريمة، ولكن أيضاً في السياسة والأعمال والقضاء، إذ غالباً ما كانت تتم رشوة المسؤولين الفاسدين أو ترهيبهم.

احتلت أنشطة المافيا صدارة الاهتمام العام في التسعينيات، مع تصاعد سلسلة من الاغتيالات والتفجيرات البارزة التي هزت إيطاليا في صميمها. كان أسوأها مقتل المدعي العام المناهض للمافيا جيوفاني فالكون عام 1992، ما أدى إلى حملة قمع واسعة النطاق على الجريمة المنظمة من قبل السلطات الإيطالية. على الرغم من هذه الحملة القمعية، فإن المافيا لا تزال قوة فعالة في المجتمع الإيطالي اليوم، مع استمرار العديد من أنشطتها خلف الكواليس. ومع ذلك، وبفضل جهود الدولة والناشطين المناهضين للمافيا، تضاءلت قوة هذه العصابات ونفوذها بشكل كبير، وتم تقديم العديد من قادتها وأعضائها إلى العدالة.

إن فكرة إنشاء متحف مخصص للمافيا ليست جديدة في إيطاليا، فهناك بالفعل العديد من المتاحف في جميع أنحاء البلاد مكرسة لتاريخ الجريمة المنظمة. غير أن المتحف الجديد سيركز على التعليم والوقاية، وهو ما يميزه عن المتاحف الأخرى التي تميل إلى التركيز أكثر على الجوانب المثيرة للجريمة المنظمة. وتأمل الحكومة الإيطالية أن يساعد المتحف في زيادة الوعي بمخاطر الجريمة المنظمة لمنع الأجيال الجديدة من الانجذاب والانخراط في أعمال هذه العصابات. يحتفي المتحف كذلك بالثقافة الإيطالية وقدرتها على تجاوز الشدائد، وقد يكون وجهة مفضلة للعديد من السائحين.

سيأخذ المتحف الزوار في رحلة عبر تاريخ المافيا، من أصولها في القرن التاسع عشر إلى أنشطتها الحالية. سيستكشف أيضاً تأثير المافيا على الاقتصاد والمجتمع والثقافة في إيطاليا. تتمثل إحدى الميزات الفريدة للمتحف في استخدامه للروائح والأصوات لخلق تجربة مميزة للزوار. سيعيد المتحف خلق الأصوات والروائح في شوارع صقلية، ما يضفي الحيوية على أجواء هذه العروض المتحفية. وسيتمكن الزوار من شم رائحة البيتزا والقهوة الطازجة، وسماع أصوات بائعي السوق، والشعور بضجيج الشوارع الصاخبة. الهدف من هذه المؤثرات الحسية، كما قال أمين المتحف أليساندرو دي ليزي، هو خلق تجربة أصيلة من شأنها نقل الزوار إلى الماضي وتسليط الضوء على تاريخ الجريمة المنظمة وآثارها السيئة.

سيضم المتحف أيضاً معروضات تفاعلية تجذب الزوار من جميع الأعمار، إلى جانب قسم مخصص لضحايا المافيا، من القضاة وضباط الشرطة والسياسيين والمدنيين الذين استهدفتهم المنظمات الإجرامية. ويمكن للزوار المشي في غرفة تحاكي تجربة الاختطاف والاستجواب من قبل المافيا، مع صوت إطلاق النار ورائحة المطاط المحترق. كما سيتمكن زوار المتحف من المشاركة في التحقيقات الوهمية وقضايا المحاكم، والتعرف على الأدوات والتقنيات التي استخدمت لمكافحة الجريمة المنظمة. سيتعرض المتحف أيضاً لتأثير المافيا على الثقافة الشعبية في إيطاليا، بما في ذلك الأفلام والكتب والموسيقى.

صمم هذا المتحف بالتعاون مع مؤسسة فالكون (Fondazione Falcone) الخيرية المناهضة للمافيا، وهي مؤسسة غير ربحية تأسست في أعقاب اغتيال القاضي جيوفاني فالكون. يقع مقر المؤسسة في باليرمو عاصمة صقلية، ويغطي عملها جميع أنحاء إيطاليا. تهدف المنظمة إلى تعزيز مكافحة الجريمة المنظمة ودعم المبادرات التي ترسخ للثقافة القانونية والقضائية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان. تنظم المؤسسة العديد من الأنشطة، بما فيها المؤتمرات والندوات والعروض الفنية لنشر الوعي بخطورة هذه المنظمات والتذكير بأعمالها الإجرامية. من بين أنشطتها كذلك تمويل المنح الدراسية لدعم الباحثين والطلاب والمهنيين في القطاعين القانوني والقضائي. وقد صرحت رئيسة المؤسسة ماريا فالكون، شقيقة القاضي الراحل، بأن المتحف لن يكون مجرد متحف للذاكرة، بل سيكون مكاناً حيوياً يمكن للناس الالتقاء فيه، ووسيلة للاعتراف بشجاعة مدينة تعرضت للنشاط الإجرامي على مدى عقود.

المساهمون