على الأغلب لم يحظَ مسلسل مصري بهذا الكم من الترقب الذي ناله مسلسل "ما وراء الطبيعة"، ولأسباب مختلفة. فأولاً: هو أول إنتاج لشبكة "نتفليكس" في مصر، وثاني إنتاج عربي بشكل عام بعد بداية مثيرة للجدل وأقرب للسلبية في المسلسل الأردني "جن". ثانياً، المسلسل مقتبس من سلسلة كتب وروايات تحمل الاسم نفسه للأديب المصري، أحمد خالد توفيق، وهي السلسلة التي نالت شهرة استثنائية بين شباب وأطفال التسعينيات في مصر، ومع الزمن صارت أحد أشكال "الثقافة الشعبية"، إذْ يربطهم بها، وببطلها رفعت إسماعيل، الكثير من الحنين والخيال. أما السبب الثالث، فهو الحملة الدعائية المكثفة التي سبقَت المسلسل، سواء الحديث عن تحقيق حلم الأديب الراحل بتحويل أدبه إلى أعمالٍ مرئية، أو حتى إثارة الجدل من مخرج المسلسل عمرو سلامة على وسائل التواصل ببوست أقرب لـ"إرشادات المشاهدة السليمة"، نال الكثير من الهجوم، وأدى إلى مزيدٍ من الانتظار، وربما التربّص للمسلسل.
طُرح المسلسل بالفعل، وكعادة "نتفليكس"، وضعت حلقاته الست كلها في يومٍ واحد، لتنفتح أبواب من الجدل والنقاشات، كان أهمها ربما: كيف اقتبس صانع العمل الرئيس عمرو سلامة وفريق الكتابة من الروايات؟ هل ناسب أداء أحمد أمين تصورات القراء عن شخصية رفعت إسماعيل؟ ما الذي نجحوا فيه وأين أخفقوا؟ وأخيراً، كيف ستؤثر التجربة بالدراما التلفزيونية المصرية؟
بدايةً، اتخذ كتّاب المسلسل وصنّاعه بعض القرارات الواضحة المختلفة عن الروايات، على رأسها تحويل الحلقات إلى دراما مُتصلة، لا إلى مغامرات منفصلة كأعداد "ما وراء الطبيعة" الاثنين والثمانين المطبوعة. إذ دمجوا خمسة أعداد من السلسلة معاً في حكايةٍ واحدة. أما القرار الآخر الكبير، فكان الاهتمام بشخصية رفعت إسماعيل، واعتبار هذا هو المحرك الأساسي للحلقات. إذ كيف سيتحول من رجلٍ لا يؤمن بالـ"ما ورائيات" إلى الدكتور إسماعيل الذي نعرفه ولن تتوقف مغامراته؟ وما هي خلفيته وحياته وعلاقاته وما يهتم به في عالمه؟ وما الذي يمكن أن يخسره في شكل حياته اللاحق الذي يتحدى فيه عفاريت وأساطير وكائنات خرافية؟
تفاوتت إيجابيات وسلبيات هذا المنحى في الاقتباس، وأدت إلى بعض المشاكل الهيكلية في كتابة العمل، أهمها على الإطلاق أن طبيعة الروايات كانت دائماً ما تعتمد على "المغامرة ثم الشخصية"، بمعنى أن كتابة توفيق كانت تكشف شخصية رفعت إسماعيل ودراما حياته من خلال المواقف والمغامرات التي يخوضها كل عدد، تماماً مثلما يحدث في مسلسلات مثل Sherlock أو House وX Files، وغيرها من الأعمال الناجحة والمُقدرة، حيث نتعلق بالشخصيات قطعاً، ولكن يظل الجاذب كل مرة هو اللغز والمغامرة والدهاء والكشف. قد يكون هذا أبرز نواقص مسلسل عمرو سلامة هنا، حيث المغامرة في أغلب الحلقات تَحل في المقام الثاني، تبدأ وتنتهي في دقائق، دون تحديات كبرى أو عواقب مؤثرة، وهو أمر واضح جداً في الحلقات الثانية والثالثة والرابعة تحديداً؛ "الفرعون" و"العساس" و"النداهة"، حيث لا شيء لافتاً أو ذكياً يحدث في المُغامرة.
دُمجَت خمسة أعداد من السلسلة معاً في حكاية واحدة
هذا ينقلنا إلى مشكلة هيكلية أخرى، وهو اختيار الأعداد التي يُقتبَس المسلسل منها. لماذا، مثلاً، من ضمن 82 عدداً، تُختار أسطورة ضعيفة مثل "لعنة الفرعون" بكل ما تحمله من "كليشيهات" وتصورات سبق أن رأيناها في سلسلة أفلام مثل Mummy؟ وإذا لم تكن هناك إمكانات على مستوى الخيال والتقنية لتصوير "العساس" المُرعب، الذي يظهر هنا كغوريلا كرتونية مُضحكة، فلماذا يُختار هذا العدد؟ وهل الشيء المهم في "النداهة" هو الأسطورة نفسها أم الانغماس في خط درامي مُقحم (دون أي تمهيد) عن علاقة رفعت بأخيه رضا؟ تحفل تلك الحلقات بكل المشاكل المحتملة الناتجة من اختيارات صناعه، إذ يبدو المسلسل ضعيفاً للغاية على مستوى التسلية، لأن الإيقاع بطيء للغاية ولا شيء مثيراً يحدث، وعلى مستوى الدراما، لأن علاقات الشخصيات وتطورها سطحيان للغاية، ولا يمر أي شيء بتمهيد مناسب، أو بالطبع على مستوى الصورة والمؤثرات البصرية.
يتحسّن العمل، وبشكل مفاجئ، في حلقتيه الأخيرتين. فعلى مستوى المُغامرة، تحمل حلقتا "الجاثوم" و"أسطورة البيت" كل ما هو مناسب أو منتظر من عمل عن الـ"ما ورائيات"، هناك تطور وتحديات ضخمة، وهناك كذلك "ثمن" وعواقب غير متوقعة. الشخصية تكتشف أساليب لمواجهة المخاطِر، وتسير الحلقتان في شد وجذب حقيقي وممتع. ولأن المغامرة تأخذ القسم الأكبر، فإن ذلك يسمح لنا أيضاً، بشكل سلس، بأن نتابع تطور الشخصيات دون إقحام. وحتى على مستوى الصورة والمؤثرات، نرى "خيالاً" جيداً في تنفيذ الأحلام مثلاً (في حلقة "الجاثوم") أو الهلوسات غير الحقيقية (في حلقة "البيت"). يبدو وكأنه مسلسل آخر، ليس مثالياً ولا خالياً من الأخطاء، وبالطبع ليس "بمستوى عالمي"، كما حاولت الحملات الدعائية المرتبطة به تصديره، ولكنه كان عملاً طموحاً وذكياً، ويثير فضول المُشاهد للمزيد.
وبين ثلاث حلقات جيدة وثلاث حلقات ضعيفة جداً، تظل أكبر ميزة في العمل، وجود أحمد أمين في دور البطولة، وكونه استطاع، حتى مع اختلاف الآراء الشاسع الذي ناله المسلسل وحلقاته، أن يكون الشيء المُتفق بين الجميع في تقديمه لشخصيّة رفعت إسماعيل بشكل ممتاز جداً على مستوى الحركة والأداء.
تبقى الأهمية الحقيقية لـ"ما وراء الطبيعة" أن هذا التعاون والنجاح ودخول "نتفليكس" لصناعة الدراما المصرية قد حدث بالفعل، وفي عمل "مقبول" وأكثر جماهيرية قطعاً من "جن"، وهو العمل الذي أثار كثيراً من الجدل في الأردن والعالم العربي. ومع ارتفاع الرتم في آخر حلقتين من "ما وراء الطبيعة"، فإنّ هنالك ما يُبشر بموسم ثانٍ، وربما مواسم أخرى، أفضل من المسلسل.