ماذا يعني "نقدٌ بنّاء"؟

16 يونيو 2023
لارس فون ترير "قاتل" ناقدٍ سينمائي (لويك فُنانس/فرانس برس)
+ الخط -

 

تعبيرٌ مُتداول، بكثرة، في الفنون العربية، خاصة السينما والتلفزيون والغناء: "النقد البنّاء". فنانون وفنانات كثيرون يُردّدونه مراراً في حوارات إعلامية، مطالبين الصحافيين والصحافيات بكتابة نقدٍ كهذا، فالـ"نقد"، بالنسبة إليهم/إليهنّ، يجب أنْ يكون "بنّاءً"، وإلا لا معنى له ولا حاجة إليه إطلاقاً؛ وكلّ كتابةٍ جدّية، تُفكِّك وتُحلِّل وتقرأ وتناقش، "هدّامةٌ"، لأنّها تفضح عيوباً يرفضون الإقرار بوجودها، ويريدون أبواقاً تروّج لإنجازاتهم "التاريخية"، فقط لا غير.

كلّ نقدٍ يتحرّر من الترويج مرفوض. هؤلاء أناس يظنّون أنفسهم/أنفسهنّ فنانين، ومطالبتهم بـ"نقدٍ بنّاء" منبثق إمّا من شعور لا واعٍ لديهم بغياب الثقة بالنفس/العمل، أو بوهم سلطةٍ ممنوحة لهم/لهنّ لأسبابٍ مختلفة، يُغذّيها إعلام غير مسؤول، وصحافة غير مهنية، ومحيطون بهم/بهنّ غير مكترثين بالإنجازات، بل بمصالح معهم/معهنّ.

لا وجود لنقد بنّاء إطلاقاً. النقد نقدٌ، وكتابته معنية بالتفكيك والتحليل والقراءة والمناقشة، و"النصّ" الخاضع لهذا كلّه هدفٌ أساسي، يمتلك في اشتغالاته ما يمنح الكتابة مضمونها، بكشف سلبيات وعيوب، أو بمعاينة المُثير للاهتمام في المستويات المختلفة.

هذا يطرح على الكتابة سؤالاً آخر، يتعلّق بالموضوعية: أهناك موضوعية فعلية في الكتابة النقدية؟ ماذا تعني الموضوعية؟ يُقال إنّ على الصحافي/الصحافية والإعلامي/الإعلامية أنْ يكونوا موضوعيين في نقل الخبر وإذاعته. هناك اختلاف بين مفهومين اثنين: الموضوعية والصدق. لا موضوعية مجرّدة وكاملة، بل صدق في نقل الأخبار وإذاعتها، لأنّ لكلّ صحافي/صحافية وإعلامي/إعلامية، منصرفين جميعهم إلى أصول المهنة وأخلاقياتها، جانباً ذاتياً في كيفية تقديم المعلومات الصحيحة التي يملكون (وهذا يحتاج إلى غربلة للتأكّد من صحّتها). الصدق أهم، والموضوعية غير كاملةٍ البتة، فلهؤلاء مشاعر وأفكار وميول، يُفترض ضبطها (هذا صحيح)، لكنّها موجودة، تتحكّم، إلى حدّ ما، بهم وبهنّ.

حتى المؤرّخ، الذي يُفترض بمهنته أنْ تكون علمية، غير متمكّن من أنْ يكون محايداً أو موضوعياً، بالكامل، في نقل ما لديه من معلومات ومعطيات، يُغربلها للتأكّد من صحّتها (والتأكّد، هنا، غير كامل أيضاً، خاصة في مسائل قديمة)، ويكتبها وفقاً لتفكيره والتزاماته الثقافية والفكرية، ولتأمّلاته في أحوال الدنيا والماضي والناس. كأنّه يكتب "نقداً" لها، أيضاً.

 

 

النقد نقدٌ، والذاتيّ في الكتابة جزءٌ من صوغ القراءة النقدية، بما في الذاتيّ من انفعال وتفكير والتزام. من يطلب نقداً بنّاء غير عارفٍ معنى النقد ومفرداته وغاياته. من يقرأ نقداً، إنْ يكن هناك من يقرأ نقداً، أو من يقرأ أصلاً، خاصة بين أولئك المطالبين بـ"نقدٍ بنّاء"، عليه التنبّه إلى أهمية المكتوب، وإنْ لم يُعجبه هذا المكتوب. فنانون وفنانات كثيرون غير قارئين شيئاً، وهذا حقّ لهم/لهنّ. لكنّ المطالبة بـ"نقدٍ بنّاء" مثيرة لضحكٍ وسخرية من سذاجة مطالبةٍ كهذه. سينمائيون وسينمائيات عرب غير مهتمّين بنقدٍ سينمائي، لكنّهم غير مطالِبِين بـ"نقدٍ بنّاء". آخرون وأخريات يقرأون، من دون تعليق على المكتوب، لكنّ بعضهم يحتدّ ويُهاجم ويشتم ويلعن، لأنّ الكتابة النقدية غير ملائمةٍ لرغباته. بين هؤلاء الأخيرين من يطلب "نقداً بنّاء"، ردّاً على نقدٍ يرفضه، لأنّه (النقد) يكشف عيوباً، ويناقش أفكاراً، ويعاين جماليات وتقنيات بشكلٍ غير مُثير لـ"إعجاب" المحتدّ والمُهاجم والشاتم واللاعن.

أفلامٌ عدّة تضع شخصية ناقدٍ في واجهة المشهد، أو في سياقٍ درامي. الغلبة للسخرية منه، فمخرجون عديدون ينفضّون عن النقد وكتّابه/كاتباته، فينتشون، في أفلامٍ لهم، إزاء تحطيمهم هؤلاء الذين يُكنّون لهم أكثر من الكراهية والنفور والاشمئزاز، وإنْ بأساليب إخراجية مختلفة، وغالبيتها رائعة سينمائياً. لارس فون ترير ينهال بالضرب على ناقدٍ، يجلس إلى جانبه أثناء عرض فيلم الأول، Manderlay، المنجز عام 2005، إلى أنْ يقتله، فالناقد غير متردّد عن استفزازه بكلامٍ غير مُعلن (فيلم قصير بعنوان Occupations، في فيلم جماعي بعنوان "لكلّ سينماه"، المُنجز عام 2007). لقطة سينمائية تُعبِّر عن حجم الغضب الكامن في المخرج، بعد تصويره الناقد في أسوأ شكلٍ ممكن.

الأمثلة القليلة غير متغاضية عن نتاجات أكثر: "المواطن كاين" (1941) لأورسون ويلز (عن الصحافة أكثر من النقد)؛ Splendor لإيتوري سكولا (1989)؛ "هاهاها" (2010) لهونغ سانغ ـ سو؛ "بيردمان" (2014) لأليخاندرو غونزاليس إيناريتو، رغم أنّ الناقدة فيه مهتمّة بالمسرح، لكنّها سليطة اللسان، كبيردمان نفسه (مايكل كيتون)، ما يكشف عمق الصراع بين الطرفين؛ وغيرها.

فعلاً، إنّه صراع "أبدي" (رغم كرهٍ شديد لمفردة "الأبد") بين صناعة السينما (والفنون) ونقدها. صراع يتجاوز ذاك التعبير الساذج (نقد بنّاء)، الذي يقول به فنانون وفنانات عرب، وسذاجته انعكاسٌ لجهلٍ وسطحية، لا أكثر. أمّا كيفية تقديمه في أفلامٍ غربية، فكفيلة وحدها بإثارةِ ضحكِ نقّادٍ، أحياناً، وإنْ تكن السخرية منهم/منهنّ واضحة ومباشرة، والغضب والكراهية أيضاً.

المساهمون