لمياء الشرايبي (2/ 2): "فيّ قدرٌ من الجنون يجعلني أتمتّع بحرية اختياراتي"

18 يوليو 2022
لمياء الشرايبي: المهمّ أنْ تكون هناك قدرة على رؤية ما يثير الاهتمام (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

(*) من أوائل الأعمال التي أنتجتِها فيلم "النهاية" لهشام العسري، الذي كان رهاناً محفوفاً بالمخاطر: الأسود والأبيض، جمالية الـ"فيلم نوار"، النصّ المجنون. كيف وثَقتِ في نصّ فيلمٍ، يبدو كما لو جاء من الفضاء الخارجي، كهذا؟

فعلنا ذلك فقط. بدأنا من النهاية (ضحك). لدي الكثير من المودّة لهذا الفيلم، وسأظلّ أكنّ له الحبّ دائماً. إنّه جسم غامض، وسيبقى كذلك. منذ وقت غير بعيدٍ، تحدّثت مع هشام عنه، وقلنا لأنفسنا كيف أنّه كان، ربما، طليعياً أكثر من اللازم، وأنّه لو خرج اليوم، لكان له تأثير أعمق، ولخلق صيتاً أكبر. نبع الفيلم، أصلاً، من لقاء مع هشام، الذي كتب له سيناريو سميكاً جداً، نحو 3 أضعاف ما تبقّى قبل التصوير. كان ضرورياً تقليصه، بإزالة الكثير منه. لكنّي كنتُ سعيدةً للغاية، لأنّنا عملنا بسرعة، مع إمكاناتٍ قليلة، وبطاقةٍ وروح لا تُصدّقان. لذلك، سيظلّ هذا الفيلم، لي، معجزة. ما أزال أتذكّر إلى اليوم اللحظات الرائعة التي أمضيتها في إنتاجه. حين ذهبنا إلى تصحيح الألوان في إيطاليا، مثلاً. فعلنا كلّ شيء معاً من أجل هذا الفيلم، وكانت كلّ لحظة سعادةً خالصة.

 

(*) هل يُمكن لأفلام مثل "النهاية"، أو "فيلم" لمحمد أشاور، الفريد أيضاً من نوعه، بطريقته الخاصة، أن تُنتج في المغرب اليوم؟

أعتقدُ أنّ هذين الفيلمين خرجا بهذا الشكل بسبب احتفاظ المُخرِجَين بهما في داخلهما لمدّة طويلة. كانا يغليان من الداخل، وعندما وصلت، وقلت لهما: فلنفعل ذلك، سارت الأمور بسرعة كبيرة. كان مُحرّراً لطاقتهما أنْ يكونا قادِرَين أخيراً على قول أشياء تفور فيهما، مع الرغبة في تجربة أشياء جديدة، والتجرّؤ، وتجنّب الرقابة الذاتية.

أنا أيضاً أتوفّر على قدرٍ لا بأس به من الجنون، يجعلني أتمتّع بحرية كبيرة في اختياراتي. قمت بتوليفة ممّا تعلمّته من الجميع: والداي رغم محافظتهما؛ ثانوية البعثة الفرنسية؛ رحلتي إلى الخارج؛ الشارع؛ إلخ. نهلتُ من كلّ هذه المراجع المختلفة.

 

(*) تعدّد المشارب يُثري الشخصية.

هناك هذا الجانب، وجانب آخر يتمثّل في القدرة على رؤية ما يثير الاهتمام في المواضيع. أرى أنّ الانزياح عن المعتاد قيمة مضافة. هناك شيءٌ يتملّكني، إنّه بالتحديد القدرة على إطلاق العنان للأفكار المختلفة، وعدم اعتبار ذلك "حشومة" (عيباً) أو حراماً، فتشعر أنّك لا ينبغي مَسّ مواضيع معيّنة. أسعى دائماً إلى تجنّب الرقابة الذاتية.

 

(*) "ميموزا" لأوليفر لاكس فيلمٌ خاص جداً. أتصوّر أنّ إنتاجه كذلك تجربةٌ فارقة، لأنّه حقّق صيتاً دولياً.

لكنْ، لم يُحتفَ به في المغرب إطلاقاً، للأسف. فعلوا كلّ شيء لإطفاء وهجه ومحوه، وبذلوا جهداً كي لا يذهب إلى طنجة (أُثير نقاشٌ محتدم في الوسط السينمائي بعد معارضة بعض المخرجين ـ المنتجين لمشاركة الفيلم في "المهرجان الوطني"، متحجّجين بأنّ جنسية مخرجه إسبانية، رغم أنّه كان يقيم في طنجة، وصوّر فيلميه الطويلين الأوليين في المغرب). فعلوا كلّ شيء لمنع خروجه، ولم أستطع حتّى إطلاقه في الصالات.

 

(*) أذكرُ جيداً الجدل الذي أثارته أهليته للمشاركة في المهرجان الوطني. كان غريباً ومؤسفاً رؤية سينمائيين يحكمون على فيلمٍ انطلاقاً من لون جواز سفر مخرجه.

كانوا فقط خائفين من أنْ تكون أفلامهم في منافسة مع فيلمٍ رائع، حقّق نجاحاً كبيراً في أسبوع النقّاد في مهرجان "كانّ". لكنّ هذا لا يعني أنّي لقيتُ استقبالاً حاراً هنا، وقيل لي: "رائع. ما أنجزته غير عادي. سنقدّم لك المال الكافي لصنع فيلمك المقبل". في أي بلد آخر في العالم، حين يعود منتج بجائزة مهمّة كهذه، تُوفَّر له كل أنواع الإمكانات لصنع مشروعه الموالي، من دون أنْ تُطرح عليه أي أسئلة. لم يحصل أيٌّ من ذلك معي.

أوليفر مخرجٌ متميّز، وهو أحد الأشخاص الذين جعلوني أكتشف بلدي أيضاً. قمنا برحلة روحانية وجغرافية استثنائية. روحانيةٌ، لأنّه كمخرجين عديدين يعاني أسئلةً وعذاباً داخلياً يتآكله، ونالني جزءٌ من هذا العذاب. كانت رحلة الإنتاج طويلةً، ويصعب تمويلها. لم يفهم أحد ما أردنا القيام به، لأنّ المخرج صوفي الاعتقاد، وكان هناك شيء صوفي في الطريقة التي أراد أنْ يروي بها قصته. كنت آنذاك أيضاً متيّمةً ومهتمّةً بالصوفية. جمعَنا شبه اعتقادٍ وإيمانٍ مطلقٍ بالمشروع، وكنت أعلم أنّي يجب أن أذهب إلى أقصى ما لديّ من أجله. كان الأمر عذاباً واعتقاداً على حدٍ سواء: كيف نصل إلى شيء نعرف أنه كان مضيئاً ومتوهّجاً، لكنّنا نعلم أنّ الطريق صخرية، وأنّ علينا أنْ نقطعها زحفاً على الرُّكبتين.

 

(*) يستحضر هذا أيضاً فكرةً صوفيةً حاضرةً في الفيلم، فحواها أنّ الوجهة أقلّ أهمية من الرحلة.

بالضبط، وهذا رغم أنّي لا أحتفظ من ثقافتي الصوفية إلاّ بالحبّ، بسبب طابعي المُقتطف (بريكولور) للجانب الذي يهمّني من التجارب التي أمرّ بها. علّمني الفيلم إلى أي مدى من المهمّ أنْ أحبّ ما أفعله عندما أفعله. أنْ أجتاز كلّ شيء، بما في ذلك اللحظة التي تجمعنا، وكلّ ما أفعله، بحبّ. أياًّ كان ما قرّرتُ فعله، فأنا لا أقوم به إذا لم يكن هناك حبٌّ يجمعني به. أتذكّر ذلك بمثابة درسٍ غالٍ من فيلمٍ، كان يصعب إنجازه، لكنّه في النهاية كان مُثمراً جدّاً.

 

(*) من المعالم الأساسية للممارسة السينمائية في المغرب غلبة المخرج، الذي يكتب بنفسه سيناريو فيلمه. هذا طبعاً مثاليّ لرؤية المخرج ـ المؤلف، وعماد نظرية المؤلف أصلاً. لكنّي أتخيّل أنّه يُنتج عيوباً عدّة في الممارسة. كيف تتعاملين مع هذا المعطى، انطلاقاً من تجربتك؟

 

 

بصراحة، عملت دائماً مع مخرجين هم أنفسهم كتّاب السيناريو. لكنْ، مع مرور الوقت، ومع الخبرة والتجارب التي راكمتها، أصبحت أطلب من المخرجين الاشتغال، منذ المسودّة الأولى أو ربما الثانية، مع كتّاب سيناريو. يكتب هشام العسري بشكل رائع. ألّف سيناريو جميلاً جدّاً لمشروعه الأخير. قراءته مُتعة حقيقية. لكنّي أخذته منه، وقلت له: "ألا تمانع أنْ أعطيه لشخص آخر؟"، فأجاب: "تفضّلي، أنا أثق بكِ". أعطيته لكاتبة سيناريو، فأزالت القليل من هشام، واحتفظت بلبّ المشروع. ما كان يحدث أنّي كنت أجد صعوبةً في تمويل مشاريع هشام، لفرط ما يضع من نفسه في سيناريوهاته. ما أريده أنا شخصية قائمة بذاتها وليس هشام. إذاً، ما طلبته من كاتبة السيناريو، التي فهمت المشكلة جيداً ـ لأنّ عليك أنْ تجد الأشخاص المناسبين أيضاً لهذه المهمّة ـ أنْ تستخلص الشخصيات، وتُبرز القصة، بينما تترك لهشام حيّز الإخراج. إنّها قصته، هو من ابتكرها، ولا أحد يستطيع أخذها منه. لكنّ الطريقة التي يجب أن تُكتب بها، يجب أنْ تكون قصيرة إلى حدّ ما. لا تتجاوز 80 صفحة. وفي الـ80 صفحة، أريد فقط قصةً، لا بيان إخراج.

فلنترك تفاصيل الإخراج إلى مرحلة إنجاز نسخة التصوير. بفضل هذا، سأكون قادرةً على إنجاز تركيب مالي، مع وثيقةٍ مكتوبةٍ جيداً، تحكي قصة مع شخصية، ورحلة، وإرادة، ورهان. يُقال إنّ رهاناً صغيراً يساوي فيلماً صغيراً، بينما الرهان الكبير يُنتج فيلماً كبيراً. حين تجعلني أرى ما هو على المحكّ، وأزن حجمه، أرى الفيلم الذي سنقوم بصنعه.

أعتقد أنّه من الآن فصاعداً، ما أودّ فعله، اقترحته على نرجس النجار ونورالدين لخماري، رغم أنّي لا أرافق هذا الأخير في إنتاج فيلمه المقبل: اختارا كاتب سيناريو وأعطياه فيلمكما. اشتغلنا دائماً مع استشاريي سيناريو (Script Doctors: طبيب سيناريو تعبيرٌ مأخوذ من الإنكليزية، أي الشخص الذي يُكلَّف بتحسين النص السينمائي)، لكن دورهم يقتصر على قول: "نعم لهذا، ولا لذاك. عليكم أنْ تذهبوا في هذا الاتجاه، أو تعملوا بهذه الطريقة".

أعتقد أنّك، حين تنتزع من المخرج سيناريو الفيلم فترة معيّنة، وتعيده إليه عندما يحين وقت الإخراج، يُمكنه أنْ يصنع مشروعاً أفضل. نادرٌ أنْ تجد عندنا كتّاب سيناريو يتقنون الاشتغال البنيوي، والموثّق للغاية حول ماهية السيناريو. أكنّ احتراماً كبيراً لأشخاصٍ يعرفون كيفية القيام بذلك. لديّ احترام لكلّ مهن السينما، ويجب على كل منّا أنْ يقوم باختصاصه. نعرف جيّداً كيف تُصنع أفضل الأفلام. نتحدّث كثيراً عن المسلسلات اليوم، ومنها من كُتب جيداً، إلى درجة أنّه يُحاكي السينما. هذا حال "مشاهد من الحياة الزوجية" (مسلسل أميركي قصير، طوّره هاغاي ليفي، لحساب HBO عام 2021)، المُقتبس عن عمل إنغمار برغمان بالعنوان نفسه، مثلاً. هناك مسلسلات تخلب لبّك بجمالها وشدّتها، لكنّك تعلم جيّداً أنهم اشتغلوا على كتابتها جماعةً. هناك مؤلف واحد، لكنّ الكتّاب عديدون.

 

(*) نعم، هناك في المسلسلات الأميركية مفهوم المبدع أو المطوّر، وهو بطريقة ما المؤلف الذي يرافق كلّ مخرجي وكتّاب المسلسل، ويحرص على انسجام الجميع واتّساق الاختيارات.

تماماً. المبدع هو من يبتكر الفكرة ويتصوّرها. لكنْ، بعد ذلك، نحتاج إلى أشخاصٍ قادرين على انتزاع السيناريو منه، ليجعلوه قصة قائمة بذاتها. بعد ذلك، يستطيع المؤلف إعادة استلامها وتصوّرها مجدّداً، لضمان احترام رؤيته، وتغذيتها بقيمة إخراجية مضافة.

لذلك، أنا أؤيد الاشتغال مع كتاب السيناريو بشدّة. ومن الآن فصاعداً، عزمت على الحرص على كتابة المشاريع بالاشتغال مع مؤلّفي سيناريو مشاركين.

 

(*) كيف بدأ اشتغالك مع كتّاب السيناريو؟ كيف لجأت إلى هذا الاشتغال، منذ البداية؟

كان ذلك لأنّي لم أستطع الحصول على تمويل لبعض مشاريعي. بعدها، أدركتُ أنّي عندما أقدّم مشروعاً، أكون كالمؤلف، منغمسةً تماماً فيه، فلا أستطيع أنْ أرى ما لا يشتغل فيه. من جهة ثانية، أنا منطقية مع نفسي. عندما أتلقّى من صناديق دعم جادّة، كـ"المركز الوطني للسينما" في فرنسا، جذاذة ملاحظات دقيقة ومكتوبة باهتمام، أجد أنّهم مُحقّون في ملاحظاتهم بخصوص شخصية معيّنة نتتبّعها، لكنْ ليس لدينا تعاطفاً معها مثلاً، وأنّه يتعين علينا الاشتغال لإضفاء شيءٍ منه. في الواقع، هذه أشياء لم أكن أدركها، لأنّي كالمؤلف منخرطةٌ حقاً وبقوة في المشروع.

يتمثّل جانبٌ من الحلّ في شيءٍ، لطالما اقترحت على المخرجين القيام به: المشاركة في إقامات كتابة. ليس الكثير منها، لأنّها تؤتي مفعولاً عكسياً في هذه الحالة. لكنّ إقامة كتابة واحدة، على الأقلّ، تُتيح أخذ مسافة مع ما كُتِب، ونقاش أشخاص يقرأون السيناريو ويقتسمون معك وجهة نظرهم حوله. هذه أشياء لا نملك بالضرورة إمكانات دفع مقابلها، لأنّنا لا نتوفّر على دعمٍ لتطوير الكتابة هنا، في حين أنّ مرحلة التطوير مهمة جدّاً.

إذاً، المؤلف وكاتب السيناريو والمستشار يمكن أنْ يشتغلوا جميعاً بالتوازي على المشروع، وهذا يعطي نتيجةً مختلفة. رأيت الفرق. إنّه أمر لا يُصدّق كيف يُمكن أنْ نتطوّر بفضل هذا النهج. بعد ذلك، تظلّ هذه تجربة، وسأرى كيف ستبدو نتيجتها في فيلمي المقبل.

 

(*) أعتقد أيضاً أنّ أحد مفاتيح تطوّر السينما المغربية أنْ نحافظ دائماً على مقاربة المخرج ـ كاتب السيناريو، لأنها تنطوي على شيءٍ ثمين، لكن أيضاً الانفتاح على نهج تلقّي نصّ جيّد من كاتب سيناريو، والبحث عن أفضل مخرج يمكنه صنعه.

هذا مختلف. أميل إلى الاتجاه الأول، أي حين يكون لديك مخرج مؤلف، يخلق قصة ويبتكر موضوعاً. ألتزم فقط في هذه الحالة. في الواقع، لكي أكون أدقّ، لا يمكنني الالتزام بمشروع يستغرق منّي بين 3 و6 أعوام، من دون التأكّد من أنّي أتوافق مع الشخص. هذا يشبه علاقة الحبّ أو الزواج، بالمعنى الفنّي للكلمة. زواجٌ لمدّة 3 أو 5 أعوام، أو مدى الحياة، لكنّه يظلّ زواجاً. لا يمكنني صنع فيلم إذا لم أحبّ عمل هذا الشخص، وإذا لم يرقني أسلوبه، وإذا لم أكن معجبةً بتوقيعه. يجب أن أقدّر ما يفكّر به، وما ينتجه، وطريقة اشتغاله. أنا لا ألتزم انطلاقاً من السيناريو، بل مع الشخص أولاً. بعد ذلك، هناك تجارب جيّدة وأخرى سيئة. يمكننا أنْ نكون صديقين في بداية المشروع، ونخرج منه كالغرباء.

المساهمون