لعنة "ديون" يُسقطها دوني فيلنوف: رحلة سينمائية في مجاهل المستقبل

06 أكتوبر 2021
"ديون": رحلة الحصول على أسباب القوة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

اقترنت عوالم رواية "ديون (كثبان)"، المشهورة والمنتمية إلى أدب الفانتازيا والخيال العلمي، للأميركي فرانك هربرت (1920 ـ 1986)، في أذهان السينفيليين بصيت مشروع اقتباس إلى السينما تحفّه اللعنة، ارتبط بمشاكل تعثّر الإعداد، وتعقيدات التصوير، والخلاف بين المخرجين والمنتجين، بعد فشل المخرج التشيلي أليخاندرو خودوروفسكي في تحقيق مشروع اقتباس متفرّد وطموح (كان مُقرّراً أن تتجاوز مدّته 12 ساعة)، بذل فيه جهداً عظيماً، تُوِّج بدليل يحمل رؤيته الخلّاقة لكل التفاصيل الجمالية والتقنية (ستوري بورد، تصميم شخصيات، ديكور، أزياء، إلخ.)، التي اشتغل عليها رفقة مبدعين كبار في اختصاصاتهم، أبرزهم موبيوس وغيغر للتصميم، وأوبانون للمؤثّرات الخاصة. مشروع سيغدو من أكثر مسوّدات المشاريع غير المنجزة تأثيراً في أفلام الخيال العلمي في هوليوود، من "آليَن" إلى "ذا ماتريكس"، مروراً بـ"ستار وارز".

هذا قبل أن تغذّي مشاكل التصوير وخلافات ديفيد لينش مع المنتجين، حول التحكّم في شكل وطول المونتاج النهائي لنسخته من "ديون" (1984)، أسطورة اللّعنة، حيث لاقت استقبالاً نقدياً بارداً، وفشلاً في شبّاك التذاكر. ومع مرور الزمن، لفّها صيت الفيلم النّسك، خصوصاً عند مُحبّي المخرج. لكنّ ذلك لم يمنعه من أخذ مسافة تدريجية منها، وصلت إلى نبذها نهائياً، إذْ اضطرّ للإذعان لإفتاءات المنتجين، إلى درجة أنّ النسخة المنتشرة من الفيلم لا تعكس، البتّة، رؤيته الفنية للمشروع.

إرثٌ ثقيل وغير هيّن لم يثبط عزيمة المخرج دوني فيلنوف (كيبيك) عن خوض مغامرة إنجاز اقتباس جديد لهذه المعلمة، بمبادرة من شركة "ليجندري بيكتشرز"، التي اقتنت الحقوق، مُعوّلةً على سجله الخالي من الزلّات المالية أو النقدية، الذي جعله أحد أكثر مخرجي هوليوود وثوقاً وقبولاً لدى الاستديوهات الكبرى ("وارنر براذرز" شريكةً في الإنتاج منذ البداية)، مع نجاحه السابق في إحياء "بلايد رانر"، المقتبس عن قصّة خيال علمي قصيرة لفيليب ك. ديك.

صحيحٌ أنّ هامش المناورة أضيق هنا، لأنّ الأمر يتعلّق بروايةٍ ـ عالمٍ مُعقّدة للغاية، تتضمّن شخصيات كثيرة، تتوزّع على كواكب عدّة، أبرزها عائلات حاكمة، تتصارع على النفوذ في منظومة إمبريالية عابرة للمجرّات، لكنّها تتيح في الوقت نفسه مساحة أكبر لأفكار إخراج سردية وبصرية، برع فيلنوف في استثمارها إلى حدّ ما، مُنجزاً فيلماً يرفع رهان النفاذ إلى قلب الطرح الجمالي والروحي للرواية، بفضل اختيارات بين حتمية الإبهار البصري لفيلم "بلوكباستر" يتوجّه إلى الجمهور العريض، وخصوصية المعالجة الحميمة، المُحيلة إلى أفلام المؤلّف، نظراً إلى حضور ثيمة العلاقة الحميمة بين الابن والأم، العزيزة على المخرج منذ باكورته "حرائق" (2010)، والتمزّق الذي ينطوي عليه فكّ رابط الحبل السريري، بغية ولوج الرشد، بمعنييه الروحاني والعملي.

"ديون" فيلم تَعلُّمٍ في العمق، عن رحلة بول أتريدس (تيموتي شالاميه) نحو تملّك أسباب القوّة، لخلافة والده ليتو (أوسكار إيزاك)، وقيادة الفيرمين، شعب كوكب آراكيس الصحراوي، نحو التحرّر، بعدما أنيطت لعائلة أتريدس مهمة الإشراف على تسيير مناجم المسحوق الثمين، الضروري لاستدامة الشباب وتطوير القدرات العقلية والملاحة بين المجرات، الموجود حصرياً في آراكيس، خلفاً لعائلة هاركونِن الغاشمة، والعدوّة اللدودة لأتريدس، في إطار مؤامرة يُكتَشف لاحقاً أنّ للإمبراطور يداً فيها.

يُشكِّل تعدّد أسباب القوّة، التي يستجمعها بول، مفتاحاً جيداً لسبر مستويات اشتغال سرد الفيلم، والرهانات الجمالية المرتبطة بها. هناك مستوى القوّة القتالية، حيث نتابع مشاهد تمرين الشاب النحيل على الخنجر، الذي يعدّ الأسلوب الوحيد للقتل في ظلّ تطوّر الدروع الإلكترونية، ومقاومتها لإطلاق النيران. هذا يمنح مَشاهد القتال كوريغرافيا مثيرة، تقطع مع عادة الاعتماد الكلّي على الانفجارات المتواترة، وتبادل النيران الذي لا ينتهي، في الإنتاجات الكبرى لهوليوود في السنوات الأخيرة، بشكل يُجهز على أعصاب المتفرّج. الجانب التقني لمؤثّرات الدروع غير المرئية ناجحٌ إلى حدّ كبير، مع أفكار بصرية وصوتية مجدّدة، كتدرّجات ألوان مختلفة بحسب خطورة الإصابة (الأزرق والأحمر)، واهتزازات صوتية تدعم الصدقية والاندماج في توتّر القتال ولحظاته الحاسمة.

الأمر نفسه في المراحل التالية من الصراع، في مَشاهد التحليق بطائرات هليكوبتر ذات تصميم مبتكر، مستوحى من حشرة اليعسوب، ولقطات مهيبة لهجوم دودة الرمل العملاقة (منظر الرمال المهتزّة الذي يسبق الهجوم، وصوت المعدّات الآلية التي تحفّزه).

في ذلك دليل بارز على أسلوب فيلنوف، الذي يفضّل الاعتماد، قدر الإمكان، على مؤثّرات بصرية أصيلة، ربما لا تتحقّق فيها العضوية السريالية كما عند لينش، لكنّه يحرص على ألّا تكون برّاقة أكثر مما يلزم، وأنْ تنسجم مع روح الرؤية البصرية المعتمدة مع مدير تصويره غريغ فرايزر، بدل سعيها إلى الإبهار بأي ثمنٍ، عبر خلفيات مشبعة حدّ الإطناب بصُوَر الحاسوب ثلاثيّ الأبعاد.

 

 

المستوى القيادي للتعلّم يرتكز على تتبع دينامية صراع النفوذ بين العائلات الحاكمة، من خلال المناورات والمؤامرات والتحالفات، التي تسعى كلّ منها إلى عقدها لإبطال مخطّطات الغريم. يعبُر "ديون" نفسٌ شكسبيري واضح (مشهد احتضار ليتو بينما يتحقّق بول ووالدته من حتفه، حين يكتشفان خاتمه الملكي في حزمة أغراضهم في غربتهم المطلقة في صحراء آراكيس)، يعتمد (النفس الشكسبيري) على المونتاج الموازي، لخلق توتّر غير مصطنع، يحمل وضعيات الصراع إلى أوجها المعبّر عن ارتباط المصائر وتراجيدية المآلات.

يتمحور المستوى الأهمّ والأغنى حول رحلة التعلّم الروحاني، من خلال ازدواجية رائعة، تمزج بين مرتكز غربيّ يتجسّد في قدرات الأم جيسيكا (أداء رائع لريبيكا فيرغسون)، المنتمية إلى طائفة "بيني غيسريت" (المُحيلة إلى إرث ساحرات العصور الوسطى)، وحرصها على زرعها في ابنها بول منذ نعومة أظافره من جهة، ومرتكز شرقي يجد في التجليات الصوفية لمعتقدات الفريمين، المستوحاة من المرجعية الإسلامية، خصوصاً (المهدي المنتظر، الجهاد، القائد المختار)، رافداً لسبر ثيمات ملهمة، كالقدرية والاستبصار الغيبي اللذين يحكمان مسار شخصية بول، من جهة أخرى.

هذه الازدواجية تبدو نوعاً من برهان بلاغي على إمكانية التلاقي الحضاري بين معسكرين متعارضين، حول فكرة العيش المشترك، المرتكز على الوئام والمساواة بين الشعوب، والانسجام مع الطبيعة. من دون نسيان استعارة المسحوق الثمين، التي تقارب معضلة الاستغلال غير المستدام، التي تربط الرأسمالية بالمواد الأولية، وويلاتها على البشر والطبيعة. لكنّ مشاهد أحلام بول المستبصرة تنتهي بإضفاء طابع من التكرار والتوقع غير الخلّاق على اختيارات الشخصية ومسارها.

هناك إذاً طرح إيكولوجي لا يُخطئه المُشاهد، رغم أنّ السيناريو يحرص على ألّا يدفع به إلى الواجهة، مُفضّلاً فتح الباب على تأويلات عدّة وواسعة، تذهب إلى حدّ الصراع الأبدي بين النظرة المادية الصرفة للعالم، التي تجعل الإنسان مركز الوجود والمهيمن على كلّ القوى (بتعبير روسو)، وأوّلها الطبيعة، والرؤية الروحية التي تعتبر البشر جزءاً من منظومة شاسعة ومعقّدة، تتجاوز قدراته على الإدراك، وتتطلّب منه الانسجام مع كلّ مكوّناتها، والإذعان لقوانينها وشرائعها الروحية.

ينجح دوني فيلنوف في صنع عمل تتحكّم فيه جاذبية كثيرة، من دون بلوغ مرتبة الفيلم الذي يأسر المُشاهد، ويقضّ وجدانه، حتى بعد مغادرته الصالة. عملٌ يحقّق فيلنوف عبره، مرّة أخرى، الجواب الصعب وغير المتاح لمخرجين كثيرين، على معادلة الجمع بين الرهان الفني والنجاح الجماهيري الساحق، مُعتمداً على موهبته ومهارته الفائقة في المشي على خيط رفيع، لا يجازف فيه إلّا بالقدر الذي يمكّنه من الاحتفاظ بالتحكّم في تداعيات اختياراته على تلقّي فيلمه.

لعلّ هذا بالضبط ما يجعل نسخته من الفصل الأول من "ديون" لا تلج مرتبة الجنون (غير المتحكّم فيه بالضرورة)، اللازم لصنع تحفةٍ سينمائيةٍ، أشارت كلّ البوادر إلى تحقّقها في مشروع خودوروفسكي (المخرج المجنون بامتياز)، الذي صرّح بأنّ نواياه الجمالية من اقتباس "ديون" تتلخّص في "اغتصاب رواية هربرت... لكنْ بمنتهى الحبّ".

المساهمون