صباح يوم 23 يناير/ كانون الثاني 2017، دخلت ليندا صرصور إلى صفحاتها على الإنترنت، وشعرت بالقرف والغثيان، وفق وصف صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
كانت الشابة قد تصدّرت في عطلة نهاية الأسبوع السابقة مسيرة النساء في واشنطن، حيث تكوّن حشدٌ هائلٌ ضدّ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. بدأ الناس بالوصول قبيل الفجر، وبحلول الوقت الذي ارتقت فيه صرصور المنصّة، لم تكن عيناها قادرتين على تعيين حدودٍ لهذا المدّ البشري الكبير.
لاحقاً، قدّر الخبراء أنّ أكثر من أربعة ملايين شخص من جميع أنحاء الولايات المتحدة شاركوا في المسيرة، ممّا جعلها واحدةً من أكبر احتجاجات اليوم الواحد في تاريخ البلاد.
بعد ذلك تغير شيءٌ ما، انقلبت الأمور بين ليلة وضحاها. يوم الاثنين التالي للمظاهرة، استفاقت صرصور على سيلٍ من الاتهامات والتهديدات الموجّهة إليها على "تويتر".
بحسب صحيفة نيويورك تايمز، لم تكن تلك المرّة الأولى التي تتعرّض فيها الناشطة المدافعة عن حقوق المسلمين إلى الردود والتعليقات الهجومية والمهينة، لكنّ شراسة الحملة الجديدة كانت استثنائية، وتلقائياً تكوّن السؤال في رأس الشابة: "هل يكرهونني إلى هذا الحدّ حقاً؟".
في ذلك الصباح، كانت قد وقعت أمورٌ لم تكن صرصور قادرةً على تخيّلها.
فرق إلكترونية روسية
في مكاتب، تقع على بعد أكثر من 6 آلاف كيلومتر، في سانت بطرسبرغ، كانت منظماتٌ مرتبطةٌ بالحكومة الروسية تقوم بتعيين فرق، أو جيوش إلكترونية لمتابعة مسيرة النساء في واشنطن. كان العاملون في هذه الفرق يختبرون أثر التغريدات والمنشورات المنتقدة للمسيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك عبر خلق حسابات وهمية لشخصيات أميركية لا وجود لها، وانتقاد المسيرة من خلالها.
كتبوا عبر حسابات وهمية لنساء سود ينتقدن "النسوية البيضاء"، ولنساء محافظات يشعرن بالإقصاء، وكذلك حساباتٍ لرجال، سخروا عبرها من المشاركات بوصفهن "متذمرات بأرجل مشعرة". لكن أحد المنشورات حقّق تفاعلاً أكبر بكثيرٍ من البقية.
كان المنشور حول مُشاركةٍ واحدةٍ في المسيرة النسوية، واحدةٌ من الرؤساء الأربعة للمسيرة: ليندا صرصور، وهي ناشطة أميركية فلسطينية، يميّزها حجابها على أنّها مسلمة ملتزمة.
على امتداد سنة ونصف، بذلت الجيوش الإلكترونية في روسيا وجهاز المخابرات العسكرية جهداً متواصلاً لتشويه سمعة الحركة من خلال نشر روايات غير دقيقة أو ملفقة حول صرصور، ممّا جعلها محوراً للهجوم من قبل قاعدة المؤيدين للرئيس السابق دونالد ترامب، وكذلك من قبل بعض أشدّ معارضيه.
نشر 152 حساباً روسياً معلوماتٍ وقصصاً مختلفة عن صرصور. يحتوي أرشيف هذه الحسابات على "تويتر" على 2642 تغريدة عن صرصور، ولاقت العديد منها جماهيرية كبيرة، وفقاً لتحليل أجرته مؤسسة تطوير الديمقراطية، وهي منظمة غير ربحية وغير حزبية تجري أبحاثاً وتحقيقات للمصلحة العامة.
يعرف الكثيرون كيف تفكّكت حركة مسيرة النساء، والأثر السلبي الذي تركه ذلك على اليسار في الولايات المتّحدة.
نشأت الحركة نتيجة تحالفٍ هشٍّ بين مجموعات مختلفة، وسرعان ما دخل في أزمة بسبب العلاقات التي تربط رئيساته بزعيم جماعة أمّة الإسلام لويس فرخان الذي أدين من قبل كثيرين بسبب تصريحاتٍ معادية للسامية. إثر ذلك، نأت المجموعة التقدميّة بنفسها عن صرصور وشريكاتها: كارمن بيريز وتاميكا مالوري وبوب بلاند، فيما طالبهم آخرون بالتنحي من مواقعهم.
لكن ظلّ هناك جانبٌ مخفيٌ من القصّة، لم يظهر إلّا بعد سنوات من البحث الأكاديمي، حول الدور الذي لعبته روسيا في الوصول إلى تلك اللحظة.
ترى الولايات المتّحدة أنّ الاتحاد السوفييتي، ومن بعده روسيا، سعيا لقرابة قرنٍ من الزمان، إلى إضعاف خصومهم الغربيين عبر تأجيج التوتّرات العرقية والإثنية.
بحسب "نيويورك تايمز"، دفع رجال جهاز المخابرات السوفييتي (كي جي بي) في الولايات المتّحدة المال، خلال ستينيات القرن الماضي، إلى عملاء من أجل رسم صلبان معقوفة على المعابد اليهودية وتدنيس مقابرهم، كما زوروا رسائل عنصرية، من المفترض أنّها مكتوبة من عنصريين بيض، إلى الدبلوماسيين الأفارقة.
كانت هذه الانقسامات الاجتماعية والتوتّرات العرقية موجودةً بالفعل في الولايات المتّحدة، لكنّ الروس عرفوا كيفية استغلالها، بحسب ما يراه لاديسلاف بيتمان الذي عمل في الشرطة السرية في تشيكوسلوفاكيا، قبل انشقاقه وانتقاله إلى الولايات المتحدة.
يعتبر بيتمان أنّ برامج التضليل السوفييتي أشبه "بطبيب شرير يشخّص بخبرة نقاط ضعف المريض ويستغلها ليرسله إلى القبر مبكراً بدلاً من علاجه". وبحسب الصحيفة، فقد أعاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إحياء هذه البرامج قبل قرابة عقدٍ من الزمن.
اليوم، وفّرت وسائل التواصل الاجتماعي طريقة سهلة لضخّ الأفكار في الخطاب الأميركي، وهو الأمر الذي سعى كي جي بي للقيام به طويلاً. إضافةً إلى ذلك، ووفقاً لمراجعة استخباراتية أميركية نُشرت الأسبوع الماضي، فقد وزّعت الحكومة الروسية سرّاً أكثر من 300 مليون دولار للأحزاب السياسية في أكثر من 24 دولة حول العالم، في محاولة للتأثير على سياساتها لصالح موسكو منذ عام 2014.
لن يكون من السهل الإجابة عن أثر هذه التدخلات على الديمقراطية الأميركية في السنوات المقبلة، إذ إنّها ليست سوى عاملٍ، بين عدّة عوامل تؤثّر على الوضع اليوم: من وسائل التواصل الاجتماعي التي لعبت دوراً كبيراً في ازدياد انقسام الأميركيين حول السياسة، مروراً بتراجع الثقة بالمؤسسات الرسمية، وصولاً إلى تضخّم الغضب في الشارع.
مع ذلك، فإنّ تتبّع التدخلات الروسية في الأشهر التالية على مسيرة النساء الأولى يظهر سعياً لزيادة تأثير هذه العوامل.
ثلاجات ومسامير
في أوائل عام 2017، كان فرق الحسابات الوهمية تتوسّع بثقة عبر منصات التواصل الاجتماعي. وتباهى مشغلو هذه الحسابات في وكالة أبحاث الإنترنت، وهي منظّمة مقرها سانت بطرسبرغ، ومملوكةٌ لحليف للرئيس بوتين، بأنّهم مهّدوا الطريق أمام دونالد ترامب للفوز بانتخابات الرئاسة.
في تلك السنة، تضاعفت ميزانية المنظمة، وفقاً للبيانات الأميركية، لكن لن يمرّ أكثر من عام، قبل أن تقوم إدارات منصات التواصل الاجتماعي بعملية تطهير واسعة النطاق للحسابات الوهمية، المدعومة من روسيا.
على الرغم من ذلك، فقد وجد القائمون على الحسابات الوهمية الروسية فرصةً ذهبيةً إثر تلك العملية، دفعتهم لتعديل خططهم. تحوّل الهدف من التأثير على الانتخابات إلى إحداث تأثير أكثر عمومية، وذلك عبر تعميق الانقسامات في المجتمع الأميركي، بحسب ما قاله المدعي الفيدرالي السابق، أليكس إفتيمي، الذي عمل في قضية، خلال العام 2018، ضدّ مسؤول في مشروع لاختا، الذي أشرف على وكالة أبحاث الإنترنت، وغيرها من الوكالات الإلكترونية الروسية.
وقال إفتيمي لـ"نيويورك تايمز": "لم يعد الأمر يتعلّق فقط بترامب وكلينتون. لقد كان أكثر عمقاً وشرّاً وانتشاراً في تركيزه على إبراز الانقسامات داخل المجتمع على أيّ مستوى كان".
كان روتين العمل يقوم على البحث في المواقع الإخبارية التابعة للأطراف الأيديولوجية المختلفة، من أقصى اليسار وأقصى اليمين، والعمل على نشره وتضخيمه على منصات التواصل الاجتماعي، وذلك بهدف تغذية وجهات النظر المتطرّفة في المنشورات والتعليقات.
بحسب أرتيوم بارانوف، الذي عمل في إحدى الشركات التابعة لمشروع لاختا بين العامين 2018 و2020، فإنّ زملاءه في العمل كانوا غالباً بحاجةٍ إلى المال، ولم يكونوا مبالين حقّاً بالموضوعات التي يطلب منهم الكتابة والتغريد حولها.
قال بارانوف، وهو من قلّة من الموظّفين في إدارة الحسابات الوهمية الروسية، الذين تحدّثوا في السجلات الأميركية عن أنشطتهم: "إذا طلبوا منهم أن يكتبوا عن البرادات فسيكتبون عن البرادات، أو إذا طلبوا منهم الكتابة عن المسامير فإنّهم سيكتبون عن المسامير". أضاف: "لكن بدلاً من البرادات والمسامير كانوا يطلبون منهم الكتابة عن بوتين، ثمّ بوتين، ثمّ بوتين، ومن بعده نافالني"، المعارض الروسي المسجون.
بحسب المحلّل النفسي الذي عمل في كتابة منشورات عن السياسة الروسية، فإنّ المهمة لم تكن تقديم الحجج، ولكن إثارة ردّ فعلٍ عاطفيٍ عميق، وأوضح: "المهمة هي إحداث نوع من الانفجار وإثارة الجدل".
وأشار إلى أنّه عندما ينجح منشورٌ في استفزاز مستخدمٍ ما، كان أحد زملائه في العمل يعبّر عن سعادته بالقول: "لقد تمزّق الليبرالي إرباً". كذلك، أكد بارانوف أنّ الأمر لم يرتقِ أبداً إلى "مستوى مناقشة الحقائق أو تقديم الحجج، بل كان دائماً أشبه بنشر الغسيل الوسخ".
كانت النسوية هدفاً واضحاً ورئيسياً للحسابات الوهمية الروسية، إذ يُنظر إليها على أنّها "أجندة غربية"، ومعادية للقيم التقليدية التي تمثّلها روسيا، بحسب بارانوف.
وعملت الحسابات الوهمية الروسية المنسوبة إلى نساء سود، طوال أشهرٍ على استثارة الانقسامات العرقية داخل الحركة النسوية الأميركية، عبر نشر تغريدات على الشكل التالي: "يبدو أن النسوية البيضاء هي الموجة الأكثر غباءً للعام 2016"، أو "لا وقت أعطيه لهراء النسوية البيضاء"، و"لماذا لا تدين النساء السود بالدعم لهيلاري كلينتون؟"، أو حتّى نشر فيديوهات بعنوان من قبيل: "شاهد محمد علي يسكت امرأة بيضاء تنتقد غطرسته".
في يناير 2017، مع اقتراب موعد مسيرة النساء، اختبرت وكالات الحسابات الوهمية الروسية أسابيع مختلفة على عيّنات متنوّعة من الجماهير، وهي الطريقة نفسها التي اعتمدتها في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية عام 2016. أنشأوا حسابات وهمية لنساء متحوّلات جنسياً ولنساء فقيرات ولنساء يعادين الإجهاض.
استعملت الوكالات الروسية حسابات النساء الوهمية للتبرّؤ من مسيرة النساء وللتعبير عن رفضهن لها، وللترويج بأنّ المتظاهرين ما هم سوى "بيادق يحرّكها الملياردير اليهودي جورج سوروس". كذلك، سخرت الحسابات الوهمية من النساء اللواتي عبّرن عن رغبتهن بالمشاركة، وكثيراً ما تمّ ذلك باستعمال إهاناتٍ جنسيّةٍ فجّة.
في عملية منظّمة ومتزامنة، في 19 يناير 2017، نشر 46 حساباً وهميّاً روسياً 459 تغريدة مختلفة عبر وسم #RenameMillionWomenMarch (غيّروا اسم مسيرة النساء المليونية)، وهو وسمٌ أنشأه مذيع بودكاست يميني من ولاية إنديانا.
ومن بين الأسماء البديلة التي اقترحتها الحسابات الوهمية: "مسيرة لماذا لا يحبني أحد"، أو "مسيرة المرأة القوية التي تلعب باستمرار دور الضحية"، و"مسيرة صاحبة القطط الوحيدة" و"مؤتمر النساء الملتحيات". بالتزامن مع ذلك، عثر مشغّلو الحسابات الوهمية على موضوعٍ أكثر أهمية.
"أشبه بانهيار جليدي"
كانت ليندا صرصور، أحد الرؤساء الأربعة المنظّمين لمسيرة المرأة، تمتلك سجلاً حافلاً، منذ أن صعدت ابنة صاحب متجر أميركي فلسطيني في كراون هايتس، إلى الواجهة كأحد الأصوات المدافعة عن حقوق المسلمين بعد 11 سبتمبر.
عام 2015، عندما كانت في الخامسة والثلاثين من عمرها، وصفها تقرير في "نيويورك تايمز" بأنّها "فتاة تحبّ قضاء الوقت في منزلها في بروكلين وترتدي الحجاب"، وأشار إلى أنّها قد تكون مرشّحةً لمنصب سياسي في وقتٍ قريب.
عام 2016، قدّمها السيناتور بيرني ساندرز في حدث انتخابي، وهو ما يشبه حصولها على ختم موافقة من أحد أكثر السياسيين التقدميّين نفوذاً في البلاد. أثار ذلك قلق السياسيين المؤيدين لإسرائيل في نيويورك الذين أشاروا إلى دعمها لحركة مقاطعة إسرائيل (بي دي إس).
بالنسبة لعضو مجلس مدينة كوينز روري لانكمان، فقد تزايد قلقه من صرصور، بعدما بدأت تظهر بانتظام في مناسبات واحتجاجات يسارية لا علاقة لها بإسرائيل، مثل المسيرات من أجل الأجور العادلة. إذ رأى أنّها تسعى لترويج أجندتها المعادية لإسرائيل بالقضايا التقدميّة المختلفة.
بالنسبة للانكمان، المنتمي إلى الحزب الديمقراطي، فإنّ تواجد صرصور كأحد قادة المسيرة النسائية "أمرٌ مفجع"، معتبراً أن ذلك يؤشّر إلى أنّ "معاداة السامية أمرٌ يتمّ التسامح معه وتبرير في المساحات التقدميّة".
كانت هذه التعليقات معتادةً بالنسبة لصرصور التي اختبرت الخلاف الطويل بين الديمقراطيين حول تداعيات انتقاد إسرائيل.
لكن، وبعد 48 ساعة من المسيرة، حدث تحوّل مفاجئ على الإنترنت: موجةٌ من المنشورات التي تصف صرصور بأنّها "جهادية متطرّفة تسلّلت إلى الحركة النسوية الأميركية". تتذكر صرصور ذلك بوضوح، لأنّها استيقظت على رسالة نصيّة من صديق يطمئن عليها، قبل أن تكتشف أنّ اسمها من بين الأكثر تداولاً على "تويتر" في الولايات المتّحدة.
لم يكن كلّ هذا الهجوم عفوياً بالمطلق. في ذلك الأسبوع، بدأت حسابات وهمية روسية في تداول منشورات تهاجم صرصور، وهي بمعظمها تحريضية وملفّقة، تزعم بعضها أنّها "إسلامية متطرفة"، و"مؤيّدة لداعش" و"مسلمة تكره اليهود الأميركيين" وبأنّها "شوهدت وهي تقوم بإشارة داعش".
وجدت بعض هذه المنشورات شعبيةً واسعة. عند الساعة 7 في 21 يناير 2017، قام حساب لوكالة أبحاث الإنترنت الروسية، لشخصية وهمية لأميركي يميني من الجنوب، اسمه تن غوب، بالتغريد قائلاً إنّ "صرصور تفضّل فرض الشريعة الإسلامية في الولايات المتحدة"، وذلك بالاعتماد على نظرية مؤامرة معادية للمسلمين، ساعد الرئيس السابق ترامب بالترويج لها في حملته الانتخابية.
حصلت هذه التغريدة على 1686 ردّاً وأعيد تغريدها 8046 مرّة، وحصلت على 6256 إعجاباً. بعدها بساعة، نشر حساب بريزون بلانت، وهو حساب يميني مؤثر، تغريدة حول الموضوع نفسه.
في اليوم التالي، وفي وقت متزامن، التقط جيش إلكتروني صغير، مكوّن من 1157 حساباً يمينياً، هذه الرواية، ونشروا 1659 تغريدة حول الموضوع، وذلك وفقاً لتحليل أجرته شركة التحليلات عبر الإنترنت غرافيكا، نيابة عن "نيويورك تايمز".
قال كبير العلماء في غرافيكا، فلاديمير باراش، إنّ نمط التدخل كان "مشابهاً من الناحية الاستراتيجية" لنشاط الجيوش الإلكترونية الروسية الذي استهدف الاحتجاجات الواسعة المناهضة لبوتين في العامين 2011 و2012".
أضاف باراش: "هناك أدلةٌ تشير إلى أنّهم تعلموا في المجال المحلي، ثمّ حاولوا تكرار نجاحهم في مجال خارجي".
كانت الأمور تتغيّر على الأرض في نيويورك. بدأت رسائل الكراهية بالتدفق على الرابطة العربية الأميركية، وهي منظمة غير ربحية للدفاع عن المهاجرين تديرها صرصور.
وصلت بطاقات بريدية، وأوراق مكتوبةٌ بخط اليد، عدا عن صورها المطبوعة مع شطب وجهها باللون الأحمر. قالت نائبة مدير المنظمة غير الربحية آنذاك، كايلا سانتوسوسو، التي تتذكر إحضارها البريد إلى صرصور في علب الأحذية: "كان هذا مستوى جديداً تماماً، وكان غريباً لأنّه كان يصل من جميع أنحاء البلاد". وخوفاً من تحوّلها إلى عبء على المؤسّسة، استقالت صرصور من منصبها في فبراير/ شباط من ذلك العام.
بحلول الربيع، تطوّر الهجوم العنيف ضدّ صرصور إلى عرض سياسي جانبي مثير للانقسام، ليطغى بذلك على الحديث عن مسيرة النساء وأهدافها.
قالت صرصور لـ"نيويورك تايمز": "كان الأمر أشبه بانهيار جليدي. غرقت فيه لأيام طويلة، وبدا كما لو أنّني لن أتمكن من الخروج منه أبداً".
ضربة تلو الأخرى
مرة أخرى، أثارت صرصور الضجّة، عند دعوتها للظهور كمتحدّثة في احتفال تخرّج كليّة الصحة العامة في جامعة مدينة نيويورك، ولفتت انتباه اليميني المتطرف ميلو يانوبولوس الذي سافر إلى نيويورك للاحتجاج الذي جذب، بحسب مراسل "نيويورك تايمز" آنذاك، "مزيجاً غريباً، يضمّ اليهود والصهاينة ذوي الميول اليمينية، وبعض أعضاء اليمين البديل".
وقال يانوبولوس أمام الجمهور: "ليندا صرصور محبة للشريعة، وتعتنق الإرهاب، وتكره اليهود، وهي قنبلة موقوتة للرعب التقدّمي".
تستذكر صرصور الفترة التي سبقت خطاب التخرج باعتبارها "مرهقة بشدّة". مع اقتراب موعد الحفل، صارت ترى أشخاصاً يخرجون من العتمة لقتلها. قالت: "(أتخيّل) شخصاً مختلاً، قضى وقته في الزوايا المظلمة للإنترنت، وتملؤه الكراهية".
كانت الحسابات الوهمية الروسية جزءاً من الهجوم. قبل أكثر من شهر على موعد الخطاب، نشرت مجموعة من الحسابات التي تديرها أكبر وكالة استخبارات عسكرية روسية (جي آر يو) تغريدات تعبّر عن الغضب من اختيار صرصور متحدثة في الحفل، وغالباً ما أرفقت هذه التغريدات بوسم #CancelSarsour (ألغوا صرصور).
بعد خطاب يانوبولوس، قام حساب تن غوب، بتغريد عبارته "القنبلة الموقوتة للرعب التقدمي"، وحصد 3954 إعادة تغريد وأعجب بها 5967 شخصاً.
في النهاية، مرّ خطاب تخرّجها من دون وقوع حوادث، لكنّ المتصيّدين انتظروا أن تفعل أو تقول شيئاً يمكن استعماله ضدّها. بالفعل، في أوائل يوليو/ تمّوز، حثّت صرصور الجمهور المسلم خارج شيكاغو على الوقوف ضدّ السياسات الحكومية غير العادلة، واصفةً ذلك بأنّه "أفضل شكل من أشكال الجهاد".
في الإسلام، لا ينحصر معنى كلمة "جهاد" بالقتال فقط، بل يمتد ليشمل أيّ نوعٍ من أنواع الصراع. لكن، وفي السياق الأميركي، لا يمكن فصل الكلمة عن ارتباطها بالحرب. أيّ سياسيٍّ براغماتي سيفضّل تجنب استخدام الكلمة، لكنّ الأمر مختلف بالنسبة لصرصور التي قالت: "هذا ما أنا عليه في الحياة الواقعية. أنا من بروكلين، وأنا فلسطينية. إنّها شخصيّتي".
لكن ذلك، شكّل فرصة بالنسبة للحسابات الوهمية الروسية. في الأسبوع التالي على كلامها، زادت الحسابات الروسية بشكل كبير من إنتاج التغريدات والمنشورات حول صرصور، إذ أنتج عنها أكثر من 184 منشوراً في يومٍ واحد، وفقاً لمؤسّسة التقدّم الديمقراطي.
ومرّة أخرى، تفاعل المستخدمون بكثافة مع تغريدة تن غوب: "ليندا صرصور تدعو المسلمين علانية إلى الجهاد ضد ترامب، يرجى النظر في هذا الأمر". أعيد نشر التغريدة 6222 مرة، وحصلت على 6549 إعجاباً. واصلت الحسابات الوهمية في تركيز هجومها على صرصور طوال يوليو، واستمرت في الشهر التالي حيث أنتج عنها 894 منشوراً.
هذه المرّة، وصل الهجوم العنيف من مواقع التواصل إلى المطعم الذي يعمل فيه شقيق ليندا، محمد صرصور. اعتصم محتجون خارج المطعم مطالبين بفصل صرصور الذي كان يعمل مديراً، وبالفعل اضطر الرجل في النهاية إلى ترك وظيفته، ومن ثمّ نيويورك.
ووصل طردٌ إلى عائلتها بالبريد، لكن وما إن فتحته والدتها حتّى صرخت من المفاجأة، لقد وجدت كتاباً غريباً عنوانه "جهادٌ ينمو في بروكلين"، يدّعي كاتبه أنّه السيرة الذاتية لصرصور وزوّده بالصورة العائلية.
مطاردة أشباح
يصعب، بحسب "نيويورك تايمز"، تحديد التأثير الحقيقي للحسابات الوهمية الروسية على الولايات المتّحدة، خاصةً أنّها تتطرّق لانقسامات اجتماعية موجودة حقّاً في البلاد. بالتالي، يكفي أن تقوم الحسابات الوهمية بضخّ الموضوع في الخطاب الأميركي، حتّى يشتعل النقاش، ويختفي الأثر الروسي.
بالطريقة نفسها، كانت الانقسامات داخل مسيرة النساء موجودة بالفعل، قبل دخول الحسابات الوهمية الروسية على الخط.
أدّت الخلافات الداخلية حول الهوية ومعاداة السامية إلى توتّرات في المجموعة منذ أيامها الأولى، خاصةً بعد طرد إحدى المنظّمات، وهي يهودية تدعى فانيسا ريبل، بعد ما وصفته بمحادثات متوتّرة مع بيريز ومالوري حول دور اليهود في العنصرية البنيوية، وهو الأمر الذي نفته القائدتان في المجموعة.
عام 2018، اندلعت أزمة داخلية جديدة داخل حركة مسيرة النساء، بسبب مشاركة مالوري في فعاليات يوم المنقذ، وهو تجمع سنوي لأمّة الإسلام بقيادة لويس فرخان.
نشأت مالوري في هارلم، حيث كان ينظر الكثيرون إلى أمّة الإسلام ومؤسّسها بشكل إيجابي، وعلى أنّهم جنودٌ ضد العنف في المدينة. تعرّضت مالوري لضغوط كثيرة للتبرّؤ من زعيم أمّة الإسلام، لكنّها رفضت رغم عدم مشاركتها آراءه المعادية للسامية. وأوضحت أنّها حصلت على الدعم من نساء "أمّة الإسلام"، بعد مقتل والد ابنها. قالت: "لهم معزّةٌ خاصةٌ في قلبي بسبب ذلك".
إثر ذلك، تمزّق نسيج التحالف ببطء. تمسّكت صرصور وبيريز بمالوري، لكنّ المجموعات التقدمية سرعان ما بدأت تنأى بنفسها عن الثلاثي.
ومع استمرار الضغط المكثّف ليتنحوا، استقال القادة الثلاثة عام 2019، في خطوة قالوا إنّها مخطّطة منذ فترة طويلة.
في صيف عام 2018، أغلق "تويتر" 3841 حسابا تتبع لوكالة أبحاث الإنترنت الروسية، مع الاحتفاظ بـ10 ملايين تغريدةٍ من إنتاجهم، حتّى يتمكّن الباحثون من دراستها. وبعدها ببضعة أشهر، علّقت المنصة 414 حساباً تابعة لوكالة المخابرات العسكرية الروسية، واحتفظت بمحتواها.
أدّى ذلك إلى خفوت جوقة الأصوات التي ساهمت لسنوات في تشكيل المحادثات الإلكترونية الأميركية حول القضايا المختلفة، من حركة حياة السود مهمة، مروراً بتحقيق مولر حول انتخابات عام 2016، وصولاً إلى ركوع لاعبي الهوكي الأميركيين خلال عزف النشيد الوطني. بالتزامن مع ذلك، بدأت موجة الهجوم على مسيرة النساء بالخفوت تدريجياً.
هزة ارتدادية
عادت ليندا صرصور (42 عاماً) إلى مكتبها القديم في الجمعية في الربيع الماضي، بعد 5 سنوات على أوّل مسيرة نسائية، عندها فقط عرفت عبر أحد المراسلين أنّ الحكومة الروسية استهدفتها.
اليوم، من النادر أن تدعى صرصور للمشاركة في فعاليات وطنيّة، وعندما يتمّ ذلك فإنّه يترافق مع الاحتجاجات. مع ذلك، فقد خفتت الضجة حول فرصها بأن تصير مرشحة للعب دور سياسي في المستقبل. فهمت صرصور هذا الأمر، وأشارت إلى أنّها تكيّفت مع هذا الواقع، وتتعامل مع نفسها بصفتها ناشطة.
قالت: "لن أحصل على وظيفة حقيقية أبداً" في منظمة غير ربحية أو شركة كبرى. أضافت: "هذا هو نوع التأثير الذي تحدثه هذه الأشياء على حياتنا".
ظهرت البيانات المتعلقة بمنشورات الحسابات الوهمية الروسية حول مسيرة النساء لأوّل مرّة في أواخر العام الماضي في مجلة أكاديمية، حيث درست خبيرة المعلومات المضللة، سامانثا برادشو، تدخّل الدولة الروسية في الحركات النسوية.
وجدت هي وشريكتها في التأليف، إميلي هينلي، نمطاً من المنشورات عبر حسابات مؤثّرة، سعت إلى تجميد نشاط المجتمع المدني، من خلال ضخّ انتقادات للنسوية ومهاجمة منظمي الفعاليات.
ترى برادشو أنّ الحركات المدنية عبارةٌ عن هياكل هشة، غالباً ما تكون غير مستعدة لمواجهة حملات التخريب المدعومة من الدولة، خاصةً عند دمجها مع الخوارزميات التي تروّج للمحتوى السلبي. لكنّ ذلك لا يغير من حقيقة أنّ الحركات الاجتماعية السليمة ضرورية للديمقراطيات. قالت: "لن يكون المجال العام حيويّاً إذا لم يرغب أحد في تنظيم احتجاجات".
أبدت صرصور دهشتها عند الاطلاع على نتائج بحث برادشو، وأشارت إلى أنّها حتّى وقتٍ طويل ظنّت أنّ الهجوم عليها يأتي من جهتين فقط: اليمين الأميركي وأنصار إسرائيل، لكنّها لم تتخيّل أبداً أن تكون هدفاً لحكومة أجنبية.
قالت: "حقيقة أنّ روسيا استعملتني لتقويض الحركات المناهضة لترامب أمرٌ شديد الخطورة". لم يكن لإدراك الدور الذي لعبته الحسابات الوهمية الروسية، أيّ تأثيرٍ على مواقفها. لكن ذلك ساعدها على فهم تلك الفترة في حياتها.
ومع ذلك، فقد ساعدها ذلك على فهم تلك الفترة من حياتها، عندما كانت في وسط عاصفة. لم تكن الكراهية الموجّهة لها من الأميركيين وحدهم، بل كان هناك طرفٌ خارجيٌ في القضية.