تُرافق كورين شاوي والدها في مرضه. تمضي وقتاً معه في غرفة مشفى. والدتها حاضرة أيضاً. الكاميرا ثابتةٌ غالباً، واهتزازها بين حينٍ وآخر جزءٌ من عفويةٍ (غير لاغية وضوح ما يُصنع)، تريدها شاوي ركيزة تصويرٍ، ينبض بتفاصيل ذاتية، منفتحةً ـ في الوقت نفسه ـ على مسائل عائلية. أسئلةٌ تُطرح عن السعادة ومعانيها وأشكالها، وعن العلاقة بأهلٍ (أب، أم، أخ، أخت) وجسدٍ وحبٍّ.
التوثيق، ببساطته الفنية والتقنية والجمالية، يُتيح لبعض المتخيَّل مساحة تعبيرٍ وبوح. التوثيق، الملتزم قواعده العادية، يتحوّل تدريجياً إلى نصٍّ بصريّ، تكتبه شاوي بتصويرٍ ودردشات وهواجس وارتباكات، كمن يبحث عن ذاته لا عن إجابات، أو عن إجابات في ذاته، من دون أنْ يكون المقصود من البحث حصول الذات على إجابات حاسمة، فالإجابات الحاسمة غير موجودة أصلاً، وجمال السينما كامنٌ في انعدام إجابات حاسمة.
"ولعلّ ما أخشاه ليس بكائنٍ" (2022، 72 دقيقة) ـ المُشارك في الدورة الـ17 (6 ـ 14 أبريل/نيسان 2022) لمهرجان "شاشات الواقع" في بيروت ـ سيرة عائلة تواجه مطبّات وقلاقل في ارتباطات داخلية، يؤدّي بعضها إلى شلل الأب، وبداية مسار حياتي مختلف، يحثّ كورين شاوي على التقاط نبذاتٍ منه في تصويرٍ، يُزيل حدوداً بين أناسٍ يُشكّلون عائلة، ويُحرِّض في بعضهم تساؤلات عن ماضٍ وأفعالٍ وعلاقات وانفعالات. البساطة ـ الحاضرة في التصوير (شاوي) والمونتاج (حليم صباغ) ـ تنسحب على بساطة المحكيّ أمام الكاميرا، وفي الحكي مسائل حسّاسة وعميقة، تتناول حميميات ارتباطات في عائلة، وخصوصيات أفراد، بما في الحميميات والخصوصيات (أو في بعضها على الأقلّ) من تعريةٍ ومواجهةٍ وبوح.
التصوير ـ إذْ يكتفي بنقل ما تلتقطه عدسة الكاميرا، أو عين كورين شاوي وإحساسها ورغباتها وانفعالاتها ـ يرافق أفراداً يحيطون بأبٍ مُصابٍ بشلل (الأم والمخرجة أكثر الحاضرين دائماً إلى جانبه)، و"يستمع" إلى أقوال أختٍ وأخٍ وأمٍّ في سيارة، تبدو كأنّها تقود الجميع في متاهاتٍ أشبه بدهاليز نفسٍ وروح. الكاميرا في وسط السيارة تواجه، مباشرة، الأخت والأخ والأم، كلّ واحد منهم لوحده. الحوار مفتوحٌ، لكنّه ينطلق من سؤال لكورين شاوي، ينضوي على رغبةٍ في فهمٍ أو بوحٍ أو نقاش. المخرجة تبحث عن إجابات. لن يكون (البحث) ركيزة فيلمٍ تصنعه شاوي لرغبتها في توثيق لحظة أو حالة أو تواصل أو تبادل كلامٍ أو صمتٍ. بحث شاوي عن إجابات منطَلقٌ لأسئلة وحوار مع أخت وأخ وأمّ، والأمّ تظهر قليلاً في السيارة، فحضورها أساسيّ في غرفة المشفى، حيث تتواصل مع ممرضين، وترقص أمام الكاميرا، وتصبغ شعرها، وتقف في شرفةٍ والبرد قارس، وتصلّي وحيدة أو مع آخرين وأخريات، وتمارس حياتها كأنّها في منزلها.
هذا كلّه متأتٍ من حضور الأب، محور الحبكة المروية بصرياً، والمحكية شفهياً. كلامٌ يقوله الأب، في دردشة مع امرأته أو ابنته، أو في انفعال متواضع معهما. يصمت قليلاً. ينظر إلى المقبل من الأيام، قائلاً إنّه سيستعيد قدرته على المشي. يخضع لتمارين ضرورية. يأكل وينام، ويختفي قليلاً في مدى الكاميرا ومحيطها الضيّق. هذا المحيط الضيّق نفسه تُصرّ كورين شاوي عليه، لكونه خياراً بصرياً في مقاربة المُراد التقاطه، وفي إدخال المُشاهد إلى عمق النصّ البصري ومناخه وأفقه وفضائه وأسئلته. تفاصيل قليلة تجري خارج الكادر، والأصوات تُترجم بعضاً منها. هذا غير مهمّ. ثبات الكاميرا وتركيزها على شخصٍ أو حالةٍ (تصوير خارج الغرفة من داخلها، غياب الشمس، دربٌ ضيّق وطويل قليلاً، إلخ.) قولٌ إضافيّ، يعكس شيئاً من انفعال أو موقف أو تعبير، وهذا كلّه يختص بكورين شاوي، التي تصنع لقطات خاصّة بها، تكشف رغبة أو حاجة.
يُكمِل "ولعلّ ما أخشاه ليس بكائن" سيرة سينما وثائقية لبنانية وعربية، تواجِه أهلاً وعائلات بكاميرا تخترق مسام جسدٍ وروح، وتستعيد ماضياً واختبارات، وتكشف علاقات بين أفراد عائلة واحدة، أو أقارب. بعض تلك السينما يكتفي بفضاء العائلة، مع خروجٍ قليلٍ إلى جماعة أو بلدٍ أو ذاكرة أو تاريخ. كورين شاوي تبقى داخل عائلةٍ، تعاني مصاعب ومصائب، وتحاول أنْ تُلملم أحوالها. تتواصل مع أفرادها كتواصلها مع نفسها عبرهم، أو عبر الكاميرا.
لا ادّعاء في مقاربة المسائل، بل قلق وسعي إلى فهمٍ أو محاولة فهم. هذا أهمّ من كلامٍ نقديّ يرى في أفلامٍ كهذه علاجاً أو اغتسالاً. يصحّ هذا أحياناً، لكنّه يبتعد عن فيلم شاوي، إذْ يبدو صنيعها الوثائقي متجانساً في سرد حكاية عائلة بلغة مبسّطة وهادئة، رغم أسئلةٍ والتباسات ورغبات معلّقة أو مفتوحة على مزيدٍ من أسئلة والتباسات.