كمال الأزرق: أردتُ فقدان الإحساس بالمكان والزمان

29 مارس 2024
كمال الأزرق: "أنْ يكون الفيلم انغماسياً" (ستفان كاردينالي/Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- فيلم "عصابات" للمخرج المغربي كمال الأزرق يروي قصة أب وابنه في مهمة إجرامية بالدار البيضاء، مستخدمًا ممثلين غير محترفين وتقنيات تصوير تعزز القرب من الشخصيات.
- يستكشف الفيلم موضوعات مثل التطيّر الديني والعلاقات الأسرية المعقدة، مع أسلوب سردي يترك مساحة لخيال المشاهد ويخلق تجربة زمكانية مميزة.
- "عصابات" حاز على جوائز مرموقة بما في ذلك في مهرجان "كانّ"، معتبرًا إنجازًا للسينما المغربية، ويجمع بين الإثارة والدراما مع التركيز على الجوانب الجمالية والدلالية.

 

حقّق المغربي كمال الأزرق (40 عاماً)، بـ"عصابات"، فيلمه الطويل الأول، مغامرة متوتّرة ومتعدّدة القراءات في أقاصي الدار البيضاء. تتبّع سعي أبٍ (عبد اللطيف مستوري) وابنه (أيوب العيد) إلى التخلّص من مشكلة عويصة يواجهانها، عند قيامهما بمهمة إجرامية لفائدة زعيم عصابة، للانتقام من زعيم عصابة معادية.

يعتمد الأزرق على جمالية الوجوه، غير الاعتيادية، لممثلين غير محترفين، والأفلمة قرب الشخصيات، مع اقتصاد في الحبكة (لا تفسير لغياب الأمّ مثلاً)، رغم قوّة الرهان. ولعلّ نجاحه في الموازنة بين هذين النقيضين منح الفيلم جاذبية، تنبعث عادة من السيناريوهات التي تعطي الانطباع أنّها تقوم على شيء هشّ، يمكن أنْ ينهار في أيّ لحظة، يخفي تماسكاً داخلياً جمّاً (فاز النصّ بجائزة "مؤسّسة غان"، Gan، عام 2021). خاصة أنّ نسق الـ"بيكاريسك"، أو لقاء الأب وابنه، بطيف واسع من الشخصيات المختلفة، التي تحمل كلّها بصمة مختلفة، يضفي على الفيلم لمسة تخرج به من طابع المهمة ـ البرنامج، على غرار شخصية البحّار، مُدمن الكحول، الذي يناقض، بجمالية المونولوغ الهزلي والثرثرة، الوجومَ المفرط في الجدّية للثنائي الرئيسي.

في القسم الثاني، يقول "عصابات" بموشور الحلم أشياء أساسية عن تغلغل التطيّر الديني في التصوّر الجماعي المغربي، حين يتوحّد، بين الفينة والأخرى، مع الرؤى الكابوسية للأب، ومُركّب الذنب الذي يستولي عليه. هناك أيضاً تبادل مشعل السلطة بين الأب والابن في فترات الفيلم، بالتوازي مع مقاربة إخراجية خلاّقة، تنجح في محو معالم الزمن بفضل الانخراط في الشعور النسبي بمدّة المَشاهد، وتعطي الانطباع بأنّ الأحداث تجري على امتداد ليلة لا تنتهي. أما تدبير الفضاء، فيدين بأصالته إلى حيلة الانتقال المتكرّر بين الدار البيضاء ومحيطها القروي (Zigzag)، ينتهي بإلغاء المفهوم الاعتيادي للمكان، ليتوغل الفيلم في ليل داخلي بهيم، وذاتية شخصياته المفعمة بالخواطر السوداوية، التي تجد في المَشاهد النهائية وقسوتها نوعاً من التصريف والتفريغ.

فاز "عصابات" بجائزة لجنة تحكيم "نظرة ما"، في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ"، قبل أن يشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ20 (24 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 2 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، ونال جائزة لجنة تحكيمها أيضاً، مناصفة مع "باي باي طبريا" للفرنسية الجزائرية لينا سويلم.

في مرّاكش، كان حوار معه عن الجوانب الجمالية والدلالية لـ"عصابات".

 

(*) سأبدأ بجانب مثير للاهتمام في "عصابات"، مرتبط بالممثلين الذين لمعظمهم وجوه وسمات لافتة، أو Des gueules بتعبير الفرنسيين. هل قررت هذا منذ الكتابة، أم أثناء اختيار الممثلين؟

صحيحٌ أنّي أردت صنع فيلمٍ تتولّد فيه المشاعر أساساً، من خلال الوجوه والنظرات. تدور الأحداث ليلاً، في العالم السرّي للدار البيضاء، وأحيائها الغامضة إلى حدّ ما. أردت أنْ يتوفّر الممثلون على وجوهٍ، تكفي نظرة إليها أو تعبير منها لتدفع إلى تخيّل أشياء كثيرة في الخلفية، سواء بالنسبة إلى الممثلين الرئيسيين، أو مؤدّي الأدوار الثانوية.

بحكم أنّ البنية السردية تنتمي، نوعاً ما، إلى أفلام الطريق، مع تشكيلة متنوّعة من الشخصيات، ولقاءات تحصل في فضاءات مختلفة، كان مهمّاً أن نتوفّر على وجوه تترك تأثيراً قوياً على الشاشة، وأن تجتاحنا ـ في كلّ مرة نواجهها ـ أحاسيس تخترق الشاشة بطريقة ما.

 

(*) هل جنحت باكراً إلى فكرة تصوير الشخصيتين عن كثب في المَشاهد الأولى من الفيلم، إذْ نكتشف حياتهما اليومية قبل الانقلاب الدرامي؟

لا، كانت بالأحرى فكرة توصلنا إليها، مدير التصوير وأنا: أنْ يكون الفيلم انغماسياً، وأنْ نخوض الرحلة قرب الشخصيتين. لذا، حاولنا أنْ نرافقهما منذ البداية، وأنْ نكون قريبين جداً منهما، وأنْ نأخذ، من وقت إلى آخر، مسافة قصيرة لنلتقط أنفاسنا. قواعد اللعبة التي وضعتها مع مدير التصوير السينمائي، أمين برادة، تتعلّق كثيراً بالحصول على كاميرا مندمجة في الحركة، وغامرة للغاية، مع لقطات مقرّبة كثيراً، بالفعل.

 

(*) الجانب الآخر اللافت للانتباه الاقتصاد السردي. لا نعرف شيئاً عن الأمّ الغائبة مثلاً. حتى العلاقة بين الأب والابن تبدو غامضة، لأنّك لا تزودنا بتفاصيل عن ماضيها، وعمن يمسك بزمام الأمور حقّاً، إلى حدّ أنّ نوعاً من تمرير شاهد القيادة يحدث بينهما في الاتجاهين، في القسم الثاني. لماذا اخترت هذا الاقتصاد السردي، خاصة أنّه ينطوي على مجازفة كبيرة؟

أردتُ صنع فيلمٍ له منهج وثائقي قوي، إلى حدّ ما. عندما أقول نهجاً وثائقياً، هذا يعني تقديم وضعيات درامية تدع للمُشاهد حرية تخيّل الـ"بازل" وإعادة تركيبه. هناك تفاصيل إضافية في السيناريو الذي صوّرته. لكنْ، في المونتاج، أدركتُ أنّ المادة كافية بحدّ ذاتها. مثلاً، في البداية، عندما تشتري الشخصيتان الطعام، وتعودان إلى المنزل للقاء الجدّة، كان النقاش المُصوّر مع الأخيرة أطول، مع مزيد من التوضيحات. في المونتاج، قلتُ إنّه في الحقيقة يكفي إلقاء نظرة على الوجوه لفهم كلّ شيء. بدا الأمر كأنّي أردتُ أنْ أسطِّر تحت أشياء معيّنة.

العمل الذي قمنا به في الكتابة والمونتاج (الأولى للأزرق نفسه، والثاني لإلويز بِلوكي ـ المحرّر) تجلّى في تشذيب كلّ الأشياء التي كانت تأكيدية بطريقة ما، لنترك للمُشاهد فرصة بناء خلفية الشخصيات، وملء الثغرات التي يجدها هنا وهناك.

 

(*) وماذا عن غياب الأمّ؟

أردت أنْ أقول: "هذا أبٌ وابنه". ربما تكون الأمّ متوفاة أو مُطلّقة، أو أنّها تركت الأب لتتزوّج آخر. أردتُ أنْ أقوّي علاقة الشخصيتين الرئيسيتين، لأن العلاقة بينهما تغدو، في نهاية المطاف، قريبة جداً. كان بإمكانهما أنْ ينفصلا مرّات عدّة، لكنّهما بقيا معاً، كما لو أنّ قوّة ما ترغمهما على ذلك. بالنسبة إليّ، غياب الأم ضروري لتعزيز هذا الجانب الاندماجي بين الأب والابن.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

(*) إخراج الفضاء مهمٌّ جداً للفيلم، خاصة بفضل الفكرة الرائعة التي تقتضي الدخول والخروج الدائمين بين الدار البيضاء ومحيطها القروي. نتيجة ذلك، تفجّر مفهوم الفضاء، نوعاً ما، وحمل الفيلم آثار الانفجار، لأنّه ليس بالحضري ولا القروي، ولا فيلم طريق تماماً. يصعب تحديد نوعه.

صحيح. عندما كنت أعرض السيناريو على شركاء التمويل أو اللّجان، كنتُ أُسأل كثيراً: "ما هذا تحديداً؟ فيلم طريق؟ فيلم إثارة؟ في الوقت نفسه، هناك لمسات هزلية. عليك تحديد ما إذا كان الفيلم على طريقة الأخوين كُوِن، أم أنّه فيلم burlesque على طراز كوريسماكي. أعطنا مرجعاً ما". والإجابة: الفيلم يتنقّل بين مراجع وأنواع عدّة. لكنّي أعتقد أنّه مُتجذّر في الدار البيضاء. يأتي الطابع، أساساً، من هذه المدينة، والشخصيات المتفرّدة التي نلقاها حين نتجوّل فيها. لذلك، كان لديّ منذ البداية حدسٌ يقضي أنْ الفيلم سيكون مزيجاً من الأنواع، بيد أنّي لم أعثر على نغمته الصحيحة إلا في التصوير، بمجرّد حضور الممثلين. عندها، وجدتُ طريقة التصوير والـ"ميزانسين" المناسبين. هناك أمور تمّ إعدادها والتخطيط لها. لكنّ واقع التصوير فرض نفسه بقوّة.

 

(*) تدور جُلّ الأحداث بين أذاني العشاء والفجر. لكنّ إلغاء مفهوم الزمكان، بمعناه الكلاسيكي، ولّد انطباعاً أنّنا أمضينا أسبوعاً كاملاً مع شخصيات تقطع مئات الكيلومترات. هل سعيت إلى ذلك تحديداً؟

في الحقيقة، نحن إزاء شخصيتين ضائعتين، تفقدان توازنهما نوعاً ما. كلّما تقدّم الفيلم، تتالت عليهما المشاكل، الواحدة تلو الأخرى. أردتُ أنْ يُحسّ المشاهد بالضياع معهما، في الزمان والمكان، فلا نعرف أين نحن بالتحديد. الدار البيضاء مدينة شاسعة جداً، ما يعزّز الإحساس بأنهما يمضيان ليلة تمتدّ طول حياتهما، ولن يخرجا منها أبداً. نتيجة ذلك، كلّما تقدّم الفيلم، أصبح أقرب إلى الحلم، قبل أنْ يغدو كابوسياً. هناك ذكريات، وكوابيس تجتاح الأب مثلاً، حين يرتمي الابن في "وكر الذئب".

كانت لديّ رغبة في أنْ نتيه معهما، وأنْ نفقد قليلاً الإحساسَ بالمكان والزمان.

 

(*) هناك أيضاً طابع البيكارسكية الذي أشرت إليه. كلّ شخصية نلتقيها تضيف شيئاً جديداً إلى الفيلم. مثلاً، الشخصية الاستثنائية للبحّار. كيف كتبتها؟ كيف وجدت الممثل؟

أنجزت فيلماً قصيراً بعنوان "مول الكلب"، مع ممثلين غير محترفين أيضاً. كان لهذا الممثل دورٌ صغير جداً، في مشهد سيارة الشرطة. في الحياة أيضاً، يتحدّث بهذه الطريقة، من دون توقف. كان يحكي لي، على هامش التصوير، عن حياته كصيّاد، وكيف أنّه كان يشرب كثيراً، لكنّه توقّف. كنت إزاء سيلان كلام لا ينتهي. عندما بدأت كتابة الفيلم، بحثت عن لقاءات لافتة للانتباه، فقلتُ لنفسي: أريد العمل مع هذا الصياد مرّة أخرى، لأنّي شعرتُ أنّ لديه ما يقوله ويعبّر عنه، فكتبت شخصية البحّار.

 

(*) بناءً على هذه التجربة الأولى، التي مَكّنتك من الفوز بجوائز مرموقة، كجائزة لجنة التحكيم في "نظرة ما" في مهرجان "كانّ"، وهذه سابقة في السينما المغربية، هل تعتقد أنّنا ندين بالاقتراح الجمالي الأصلي لـ"عصابات" إلى تجذّره في سينما النوع؟

يصعب عليّ الجزم. ما فعلتُه، صُنع فيلمٍ مخلص قدر الإمكان. أعتقد أنّ النوع يُبقي المُشاهد في حالة تشويق. كنتُ أرغب في الحصول على شبكة قراءة أولى، فعّالة وبسيطة: أبٌ وابنه يسعيان إلى التخلّص من جثة. بعد ذلك، أردتُ مرافقتهما إلى النهاية، والنوع يسمح بهذا. هناك طبعاً رسائل فرعية وطرح خبيء مهمّ أيضاً. بعد ذلك، أعتقد أنّه صعبٌ دائماً تحديد ما إذا كان النوع أتاح للفيلم المسار الذي قطعه في المهرجانات. لديّ انطباع بأنّ الصدق والأصالة يؤثّران حقّاً أكثر من أسلوب الفيلم أو نوعه.

 

(*) بالحديث عن النصّ الخبيء، هناك مسألة التطيّر التي تعبر الفيلم. كيف ترى تقاطع الفيلم مع هذا السؤال المفصلي في الثقافة المغربية، عبر إشارات تتعلّق بالدين، كالأذان وغسل الميت وغيرهما من التفاصيل؟

هذا جانب مهمّ فعلياً، لأنّي أعتقد أنّه حاضرٌ ومترسّخ في المجتمع المغربي. أردتُ إظهار بعض التناقضات القوية بين تصرّفات الشخصيات ومعتقداتها. لكنْ، قبل كلّ شيءٍ، بالنسبة إلي، هاتان شخصيتان ضائعتان، تحاولان التعلّق بشيءٍ ما، يتعلّق غالباً بالتطيّر أو الاعتقاد أو الخوف من اللعنة. عندما يبدو أنْ لا شيء ينجح، تقولان لنفسيهما: ربما لأنّنا لم نغسل الجثة.

شخصية الأب تحديداً تحاول التشبّث بكل ما تجده. يصبح الجانب المتسامي للدين والإيمان بمثابة ملجأ لهما. هذا حاضرٌ في السيناريو. لكنْ، بما أنّنا نُصوّر مع ممثلين غير محترفين، وأنّ قدراً معيناً من الحرية في الحوار مسموحٌ به، وأنّنا صوّرنا بالترتيب الزمني للأحداث، عاش الممثلون القصة بشكل عميق. بينما كنا نتقدّم إلى الأمام في الحبكة، يوماً بعد يوم، كانوا يبرزون شيئاً فشيئاً هذا الارتباط بالخرافة والمعتقد، في إيماءاتهم وكلامهم، كما لو أنهم، عبر عيشهم القصة، كانوا أنفسهم مرتبطين به بشكل غير مباشر. كان هذا بالفعل أحد النصوص الخبيئة المهمّة.

المساهمون