استمع إلى الملخص
- تصوير الجرائم في غزة سينمائياً يمثل تحدياً بسبب حجم الدمار، لكن الطائرات المزودة بكاميرات يمكنها نقل جزء من الواقع المأساوي، مما يتيح إنتاج أفلام تركز على الصورة.
- الإنتاج السينمائي في غزة يواجه عقبات بسبب الحصار، لكن توجد مشاريع جاهزة تنتظر التنفيذ لنقل معاناة الفلسطينيين إلى العالم.
تتّضح الرؤية كلّما اتّسعت الرقعة زمنياً وجغرافياً. في هذه الحالة، تبدأ الحقائق بالتجلّي، وتُصبح الأحكام أكثر جهوزية وصلابة ومصداقية. لذا، فحقائق حرب إبادة الشعب الفلسطيني التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة صارت أوضح، وبان فيها ما كان مخفياً: محاولة تغيير الجغرافيا، ورمي أصحاب الأرض بعيداً، ليتآكلهم النسيان، مُشرّدين ولاجئين في بلدان العالم. كُلّ من يتشبّث بأرضه، سيحدث له كما حدث لآلافٍ ممن سُحقوا بكلّ أنواع الأسلحة، وبأكثرها فتكاً وتدميراً وخبثاً، أسالت دماءهم بغزارة، وبعثرت أشلاءهم على رمل غزّة وبحرها، فكانت أعداد الشهداء هائلة، لا تُحصر برقمٍ نهائي، بحكم تحيينها في كلّ لحظة، إذ جرى كلّ هذا وأكثر في عامٍ واحد من هذه الإبادة المنطلقة بعد "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023).
المدة الزمنية (عام من بدء الإبادة) كافية لبلورة فكرة شاملة لصناعة فيلم جيد غير مستعجل، مُشبع بالمنطلقات المعرفية والجمالية والفنية، ومُحاطٌ بمعارف يُمكن أنْ تُحدّد وتُعدّد الأسباب الظاهرة والمخفية التي تقف وراء تداعيات "طوفان الأقصى"، وما خلّفه من تبعات على فلسطين والمنطقة والعالم، خاصة السياسية منها. إنّه المنطلق المفصلي المهمّ الذي تتفرّع أيدٍ قذرة ومُلطّخة بالقتل والدم والتآمر، وكلّ يدٍ تُشير إلى جهة أو فصيل أو دولة أو مجموعة، تساعد المحتل الإسرائيلي وتدعمه بكلّ الوسائل السردية والعلنيّة، وتخطّط وتُنفّذ أكثر المخططات شرّاً، وترسم له وبه استراتيجيات مُخيفة وخطرة، ليقوى ويتسيَّد في المنطقة، وتحصيل الحاصل. والجهة الأخرى، التي يمثّلها الفلسطيني صاحب الأرض، تضعف وتستكين وتذوب في مشاكلها الخاصة واليومية، لتختفي قضيتها الشرعية أمام تغوّل هؤلاء. لكنّ حبل المكائد هذا كان قصيراً، وتلك المقالب السوداء لم تنطلِ عليه (الفلسطيني)، بل ازداد شراسة وقوة وشجاعة بدفاعه عن الأرض.
مهما كتبنا من سيناريوهات دقيقة ومتماسكة، وأخرجنا أفلاماً باهرة، لا يُمكن نقل حقيقة هول جريمة الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة. يُمكن فقط محاكاتها نسبياً: نقل صورة مصغّرة عنها، ورسم أبعاد محدودة. لأنّ ما حدث في هذا العام، الكئيب والدموي، عجزت عن التنبؤ به أكثر العقول استشرافاً، ولم يُعكَسْ أدبياً وفنياً، لأنّ الجرائم المرتكبة أكثر اختلافاً وشرّاً وخبثاً، ولم يحدث مثلها في أعتى الحروب التي جرت في التاريخ. حتى مدن ألمانيا النازية لم يحدث لها، في الحرب العالمية الثانية، ما حدث لقطاع غزّة، رغم تحالف دول العالم عليها، برّاً وبحراً وجوّاً.
لذا، إذا أمعنّا النظر جيداً من طائرة مُحلّقة فوق قطاع غزّة، نرى الخراب في أكمل صوره وأتمّها. سنحسّ ببعض مآسي الفلسطينيين والفلسطينيات وجراحهم. سنعيش ولو جزءاً يسيراً من الرعب الذي عاشوه، خاصة الأطفال وهم يسمعون أصوات قنابل تزن الواحدة منها ألفي رطل، ويرون الأشلاء متناثرة في كلّ الجهات، خاصة تلك التي لأقارب لهم في عائلاتهم.
في هذا الوقت، لا قبله، وربما ليس بعده، يُمكن لطائرة مُحلّقة، موصولة بكاميرا عادية أو محترفة، أن تجمع مواد فيلمية عالية القيمة، يُمكن بسهولة أن يُستخرج، بفضلها الجميل من القبيح، والمُعبّر من الجامد، وأشياء حيّة من تلك المباني الميتة، التي تحيط بها حُفرٌ عملاقة خلّفتها قنابل الشرّ، ومن عمارات مُهدّمة وطرق وبلدات مختفية، تحوّلت إلى ركامٍ كبير، عَكَس مدى حقد العدو على هؤلاء الذين رفضوا سياسة الأمر الواقع، وقالوا "لا" في وجهه، بصوت مرتفع وعينين حادّتين ووجه تكسوه روح المواجهة والخيلاء.
يُمكن لتلك المعطيات المُصوّرة، بعد عامٍ من صنع الخراب، أنْ تُنجز فيلماً سينمائياً، ربما يغيب فيه الحوار، لأنّ المناظر ستكون أبلغ، واللغة السينمائية ستكون أقوى، والمَشاهد ستكون أعمق، وسيتسلّل الخوف بعد أن يصنع لنفسه طريقاً مخفيّةً، ويستقرّ في المُتلقّي، الباحث دائماً عن مَنفَذٍ سينمائي يُمكن أن يسافر عبره إلى مآسي قطاع غزّة، ليعيش آلام شعبها ولو نسبياً.
رغم أوجه الخراب وحدّته، وكثرة الوجع وتعدّده، وتواصل الحزن والفَقَد عاماً كاملاً في القطاع، لم ينعكس هذا كلّه سينمائياً في الواقع. فقط بعض محاولات غير مُحترفة، صنعتها أيدٍ مُرتعشة وخائفة. لذا، لم تُخلق الهالة السينمائية والفنية التي ينتظرها المُشاهد. أسباب هذا الفراغ عدّة، أهمها حصار المحتل الإسرائيلي لكلّ شبر، ومنع من هم خارج غزّة من الدخول، خاصة صحافيين أجانب اعتادوا جمع موادٍ مُصوّرة يُمكن استغلالها سينمائياً. كما أنّ البيئة المخيفة وموت تقنيّين عديدين، والتنقّل من مكان إلى آخر، وغياب ضروريات الحياة والعمل، كلّها معطيات ساهمت في عدم خلق جو سينمائي.
لكنّ هذا لا يعني أن لا وجود لمواد مُصوّرة، أو سيناريوهات جاهزة، أو مشاريع مكتوبة أو موجودة في أذهان أصحابها. إنّها موجودة ومتنوّعة، تنتظر الوقت المناسب كي تنجلي الغمامة السوداء، وتتوقّف الإبادة عليهم. حينها، ربما، تُنفّذ تلك المشاريع، فُيشاهدها العالم بعيون مفتوحة، وقلوب مستعدّة، وعقول مُشرّعة على التأويل.
حينها، سيعرف العالم ما عاشه الفلسطينيون والفلسطينيات من آلامٍ وجراح وأهوال.