- بتحولها إلى الإخراج في 2017 مع فيلم Lady Bird، واجهت غرويغ نجاحًا جماهيريًا لكن بتقدير نقدي محدود، مما يعكس مشكلة أوسع في السينما تتعلق بنقص الابتكار والإبداع.
- تعيينها كرئيسة لجنة تحكيم مهرجان "كان" 2024 يثير تساؤلات حول مصداقية المهرجان ويعكس التحول نحو السينما التجارية على حساب الأعمال الفنية العميقة.
قبل عام 2006، لم يكن أحدٌ يعرف ممثلة سينمائية أميركية تُدعى غريتا غِرويغ. ممثلة لم تستطع لفت انتباه يُذكَر، رغم أدائها دور البطولة في أعمال عدّة. جمالها لم يفتح لها أفقاً في الأداء، إذْ تبدو في أكثر من فيلمٍ جامدة وغير مُحرّكة أفكاراً وأهواء ومشاعر.
لكنّ هذا لا يرتبط بها حصراً، إذْ يمتد إلى وجوهٍ نسائيّة كثيرة، تعتقد أنّ الجمال وحده سينقذ السينما. والأخيرة لا ترتبط بصناعة نجوم مزيّفين، يعانون هشاشة أداء وإبداع وابتكار، بل لأنّ الفن السابع مُركَّبٌ، يستطيع فيه ممثل أنْ يُعبّر في مشهدٍ وأداءٍ مُذهل عن قضية أو رأي سياسي معيّن. لكنْ، هناك نساء في هوليوود استطعن التعامل بذكاء مع جمالهنّ الطبيعي، محوّلين الجمال إلى طاقة تعبيرية لا تنضب، كأنجلينا جولي وجوليا روبرتس.
في كلّ فيلمٍ لها، تبقى غِرويغ (1983) على حالها، لا تتغيّر. صورة فتاة جميلة شقراء، تُطاردها فتاة موضة يستغلّها مخرجون عديدون في أداء مشاهد بلاستيكية، غير مُقنعة بأدائها. عام 2017، تتحوّل إلى الإخراج، مع Lady Bird. ورغم ما حقّقه من نجاح جماهيري، لم يكن تأثيره قوياً في النقّاد، إذْ لا يُذكر في تجربتها، ولا يُعترف بها مخرجة سينمائية واعدة.
هذا، بغضّ النظر عن الاعتراف بسينماها، الهشّة والمتصدّعة والترفيهية، لكونها مبنية على منطقٍ تجاري يحول دون تحقيق أي نهضة بصريّة. رغبة تطوير مهاراتها في الأداء غير موجودة، وقدراتها الإخراجية متواضعة، لا تُقدِّم جديداً. هذا مطبّ وجوه سينمائية كثيرة، انتقلت من التمثيل إلى الإخراج، من دون تفكيرٍ في البحث عن جماليّات جديدة، تُظلّل بها سيرتها الإبداعية.
الرغبة في التجديد لا تتحقّق بمعزلٍ عن التفكير، وألا يخضع كلّ شيءٍ للأهواء والمَشاعر، كحال السينما العالمية اليوم. أفلامٌ كثيرة متصدّعة وغير مقنعة، أداءً وكتابة وتصويراً وإخراجاً. أفلام "فاست فود"، تُنجز في الاستديو بمقادير بصريّة مُنتهية الصلاحية، كأنْ تُعيد صورة وكلاماً مُعتّقاً. هذا لا يُطيقه نقّاد يعشقون سينما المؤلّف، ويراهنون عليها، لكونها مدخلاً إلى سينما حقيقية، تنصت لقصص، وتسعى إلى إحساس بنبض. والمؤسّسات الإنتاجية تُراهن على هذا النوع من السينما الترفيهية، التي تُحقّق ملاذاً آمناً لها، تحتمي به من سخط الواقع السياسي، وهشاشة الوضع الاجتماعي، والأزمات المتكرّرة التي تُصيب اقتصادها.
اختيار غريتا غِرويغ رئيسة للجنة تحكيم المسابقة الرسمية للدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كان" السينمائي إعلانٌ حقيقي وصادق عن مفهوم السينما وواقعها. لم يعُد للغرب ما يُقدّم سينمائياً للمُشاهد، فغالبية الأفلام الجديدة تُعبّر عن منطلق يطبع الفنّ السابع، وطيف أضحى في نظر الأنظمة والدول والمؤسسات فنّاً ترفيهياً يخدم الجوانب الخارجية للبلد، من دون طرح أسئلة حقيقية. ركاكة أفلامٍ هوليوودية جديدة تتحكّم في أغلبها عوامل ذات صلة بمفهوم الإنتاج، وما يفرضه من طريقة معيّنة في تمثّل السينما. تمثّل سطحي بمعظمه، يخدم التجاري ومداخيل الصالات وتطلّعات الجمهور، لا السينما نفسها كفنّ بصري يقترح نمط تفكير حرّ، يرتبط بالواقع وتحوّلاته.
غِرويغ غير معنيّة برأي كهذا. لكنّ إدارة مهرجان "كان" تُمثّل ما تصبو إليه سينما اليوم. النجاح الكبير لفيلمها الأخير "باربي" (2023)، الذي حقّق ملياراً و445 مليوناً و638 ألفاً و421 دولاراً أميركياً إيرادات دولية، أعطاها شرعية دخول إلى مهرجان "كان". المخيف أنْ يتحوّل كلّ نجاح تجاري إلى تجاوز واختراق مهرجان تاريخي مثل "كان"، له وقعه وأثره في ذاكرة ناقد ومُشاهد، وعشّاق السينما.
ما مصداقية المهرجان بعد اليوم؟ عن أي نوعٍ من السينما نتحدّث؟ هل يتعلّق الأمر بهشاشة عالم يزداد تواضعاً وقبحاً وارتباكاً يومياً؟ أم أنّنا أمام تحوّل جديد، يجعل السينما أكثر شعبية وترفيهية من الفنون المعاصرة؟ السينما ليست بخير. هناك تحوّل كبير ينبغي نقده والمُساهمة دائماً في إغناء النقاش فيه، المتمثّل في انسحاب وتراجع "السينما المستقلّة"، بعد أنْ باتت مؤسّسات فنية تحرص دائماً على إنتاج أفلام ترفيهية، ودعم سيناريوهات استهلاكية، لا تُقدّم جديداً في النظرية السينمائية، ولا تفتح لها أفقاً مغايراً في التخييل. والمرء بات يجد نفسه أمام أفلام كثيرة مرتبكة وغير قادرة على تحقيق أبسط شروط المشاهدة.
في كلّ عامٍ تقريباً، هناك مفاجآت في مهرجانات عدّة، كبرلين و"كان" وفينيسيا، لكنّها تصطدم بأفلامٍ معطوبة، وتندهش أحياناً بفوز فيلم منها. ورغم أنّ هذه الأحداث، التي تبدو في ظاهرها عادية وعابرة، تكون عميقة النظر، وتستحقّ التفكير والتأمّل لمساهمتها في تغيير مفهوم السينما، المرتكزة على النظر لصالح سينما تجري وراء صيحاتٍ عابرة، وربحٍ آنيّ، تُؤجّج مداخيله جماهير هلامية متعطّشة لسينما "باربي" و"باتمان" وغيرهما.