كارلوس شاهين: "لا أستطيع التعبير إلاّ عن أشياء تعنيني"

02 اغسطس 2024
كارلوس شاهين: لم أكتب شيئاً يُضحك وآخر يُبكي (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

أثناء دراسته طبّ الأسنان، وُلد شغفه بالمسرح، فدرسه في فرنسا، وصار ممثلاً في المسرح الفرنسي والأوروبي. عودته إلى لبنان عام 2002 أتاحت له أنْ يُصبح مخرجاً. مثّل في "أرض مجهولة" (2002)، لغسان سلهب، الذي اختاره لثلاثة أفلام لاحقة. أخرج أفلاماً قصيرة، بدءاً من عام 2008 مع "طريق الشمال"، المُرحَّب به في مهرجانات، فاستمرّ في الإخراج صابراً للحصول على تمويل.

أخيراً، أخرج كارلوس شاهين "أرض الوهم" (2023)، أول روائي طويل له: عام 1958، شابّة تحلم بالحرية، في عالمٍ خاضع للسلطة الأبوية.

 

(*) أهناك ما بعث فكرة "أرض الوهم"؟ هل فيها جزءٌ من سيرة ذاتية؟

طبعاً هناك جزء من سيرة ذاتية. كلّ شغلي في السينما ينطلق من السيرة الذاتية. "الأب" ثم "الأم" فـ"الطفل"، في "ثلاثية العائلة". لكلّها علاقة بحياتي. هذا لا يعني اعتقادي أنّ حياتي مهمة، بل لأنّي لا أستطيع التعبير إلّا عن أشياء تعنيني. عن الأب مُستَلهَمٌ من قصة لها علاقة بأبي. هناك وثائقي بعنوان "تشيكوف في بيروت"، عن مسرحية لي. ثم نسجتُ بين حياتي وعملي في المسرح في فرنسا وعلاقتي بلبنان، وكيف يرتبط كلّ هذا بقصّة عائلتي. الثالث مستوحى من طفولتي في طرابلس (شمالي لبنان ـ المحرّر).

"أرض الوهم" مستوحى من مجتمع أعرفه. عائلة مسيحية إقطاعية ومشايخ في منطقة أصطاف فيها. هذه أشياء عشتها. هؤلاء الناس أعرفهم. لذا، ألّفت قصّة قريبة جداً مني، لمعرفتي أشياء عدّة فيها.

 

(*) من أين جاء اختيارك الشخصية الرئيسية، التي تخصّ المرأة؟

أنا ابن امرأة. عندي أمّ. كأنّي أحكي عن أمّي. كأنّي صنعت بورتريه عن امرأة، وعن قهر عاشته.

 

(*) والقرار الجريء الذي اتَّخَذَتْه بترك كلّ هذا، والهرب؟

لا أعرف إنْ كانت كلمة "القرار" دقيقة، ولا أعرف إن كان هذا "جريئاً". برأيي، هذا لم يكن قراراً.

 

(*) هل تعتقد أنّه تهوّر؟

عندما تقود سيارتها، كأنّه لم يكن قراراً. لكنْ، هناك شيء يتقرّر، لأنّ حياتها لم تعد معقولة، ولا تُحتَمل. الحكاية تحصل عام 1958. إذاً، ماذا نريد من المرأة حينها؟ إلى أين تريد أنْ تذهب، تاركةً كلّ شيء؟ في منتصف خمسينيات القرن الماضي، كيف تترك امرأة مثلها كلّ هذا وتهرب؟ هل لاحظتِ كيف انتهى الفيلم؟ هناك قطع مفاجئ للموسيقي، ولكلّ شيء.

لا أصادر رأي المُشاهد، بل أدعه يتخيل ما يريده. إذا أرادها جريئة، فإنهّا كذلك، أي أنّها قرّرت مصيرها وقالت لا. صارت حياتها غير معقولة في هذا الوادي. أخذت السيارة وانطلقت. لكنْ، في هذا الوادي، لا مهرب.

 

(*) تركْتَ النهاية مفتوحة، لكنْ ليس كلّياً، فلعلّ المرأة هربت أو انتحرت، أو عملت بنصيحة الأم: التضحية بسعادتها لأجل ابنها.

النهاية مفتوحة، لكنّها ستفكّر بابنها، الذي عمره سبع سنوات، كثيراً. هذا انتحار. كارثة للصبي ولها.

 

(*) من طبيب أسنان إلى مخرج أفلام. كيف حدث هذا التحوّل؟

لم أمارس الطب.

 

(*) في أي مرحلة قرّرت دراسة السينما؟

في السنة الرابعة، اكتشفت المسرح، فدرسته. انتسبت إلى مدرسة المسرح في ستراسبورغ. آنذاك، كان عليّ إكمال الدراسة وفاءً لوعد قطعته لوالدي، إذْ عندما علم أنّي اتّجهت إلى المسرح، قال إنّه سيُرسل تكاليف الدراسة، شرط إكمال دراسة الطب، والحصول على الشهادة.

 

(*) اكتشافك الفن ورغبتك في دراسة الفنون، لم يكونا موجودَين قبل طبّ الأسنان؟

نعم، هذا صحيح. لم يكن وارداً هذا أصلاً. أحبّ المسرح منذ أيام المدرسة. لكن دراسته لم تكن واردة. كالآخرين، فكّرت بدراسة الطب، فعمّي طبيب. في البداية، درسنا عاماً في فرنسا، ثم التخصّص لاحقاً. حينها، لم يكن لي مكان في الطب، فأُرغمت على طبّ الأسنان.

 

(*) وكيف حصل التحوّل من التمثيل إلى الإخراج؟

درست التمثيل فور تخرّجي، ثم مثّلت في مسارح أوروبا. عدت إلى لبنان واشتغلت مع السينمائي غسان سلهب، واكتشفت لبنان. تركت البلد طويلاً. العودة إليه مليئة بشوق كبير. مثّلت في أفلامٍ عدّة لسلهب، ثم بدأت إخراج الأفلام.

 

(*) هل أثارت فيك تجربتك مع سلهب فكرة الإخراج؟ فبعد "أرض مجهولة"، هناك "الرجل الأخير" (2006)، فـ"الوادي" (2014).

لا. عملي مع غسان أعادني فقط إلى لبنان.

 

(*) يتميّز غسان بقدرته على الصمود في تمرّده ضد السينما التقليدية. اختياره لك يعني أنّه رأى فيك شيئاً مختلفاً. ماذا تمثّل لك هذه التجربة؟

غسان صديق حميم. الصداقة موجودة أيضاً في نظرتي إليه كمخرج. لا أستطيع الفصل بينهما. لذا، يصعب أنْ أحكي عنه. ربما يمكنني الحكي عن صديقي غسان، الذي أحترم عمله كثيراً، وأعتبره فناناً مهمّاً للغاية، بل من أهمّ سينمائيي لبنان والشرق الأوسط. له عالمه وتساؤلاته وثقافته. مهووس بسينما خاصة به. هذه نقطة قوّة، وأيضاً نقطة ضعف.

أحبّ أفلامه كثيراً. ليس كلّها. لكنْ، تظلّ أفلامه عالماً يخصّه. عالم قوي إلى درجة أنّه كقصّة حب. مثل غودار. الممثلون يصنعون فيلماً أو فيلمين. إنّه مكتفٍ بعالمه. في "أرض الوهم"، من دون ممثلين، لن يكون هناك فيلم. أحبّ الممثّلين، لأنّي ممثل، وأرى أنّ كل نجاح الفيلم عائدٌ إلى الممثل. لكنْ، غسان لا. يُعطي إخلاصه كلّه للعالم الخاص به أكثر من الموضوع. مهووس بالصُور، والممثل عنده يمثّل ويُوضع في الصُور.

 

(*) عندما اتّجهتَ إلى الإخراج، لماذا بدأت بأفلامٍ قصيرة قبل المسرح؟

أخرجت فيلماً قصيراً بعنوان "الطريق إلى الشمال"، ونجح كثيراً، وفاز بجوائز عدّة، فتشجّعت، وبدأت أشتغل على روائي طويل. كتبت السيناريو، لكنّي لم أستطع تدبير أموال لإنتاجه، فبقي هكذا خمس سنوات. تركته، وسافرت إلى لبنان. بما أنّي قادمٌ من المسرح، بدأت فيه. كنت أترجم مسرحيات أجنبية وأقدّمها. كلّها ناجحة. لكنْ، ليس هذا ما أريده. ليس هذا ما أحلم به. كنت أشتغل في المسرح فقط ليمرّ الوقت، وأستطيع إنجاز فيلمي.

 

(*) التأمّل بشخصيات "أرض الوهم" يكشف أنّ هناك ثلاث نساء يصنعن البهجة في مفاصله. كأنّك تريد التخفيف من وطأة المأساة. هل فعلت ذلك لضبط الإيقاع، أم لتحقيق التوازن؟

لا، لم أفكر هكذا. اخترت ثلاث نساء لأنّ هناك الأخوات الثلاث في "بستان الكرز" لتشيخوف، وأيضاً لأنّ عائلتي تضمّ أمّي وخالَتَين، أي إنّهنّ ثلاث. كذلك جدّتي. التفاصيل جاءت من عالمٍ عشته وأعرفه جيداً. لم أفكر في كتابة شيء يثير الضحك، وفي مقابله شيء يُبكي. لم أنسج الفيلم بهذه الطريقة.

 

(*) ربما من دون وعي كنت تريد ألّا يكون الفيلم دراما سوداء، وأنْ تضع فيه بعض البهجة؟

القصة بالنسبة إليّ تراجيدية.

 

 

(*) قصة تراجيدية، بالفعل. لكنّك وضعت فيها ما يُثير بهجة ومرحاً.

أحبّ هؤلاء الناس لأنّهم يحبّون الحياة والأكل والتسلية. إنّهم أشخاص "حلوين". كذلك زوج ليلى "مهضوم" جداً. وليلى أكثر شخصية محبّة للحياة. رغبتُ في إظهار العائلة سعيدة.

 

(*) فعلياً، لم تكن الشابات سعيدات في السياق، لأنّ الأشياء مفروضة عليهن.

لكنّهن لم يتزوّجن بعد. والدهن يحبّهن كما أمّهن. كلّ واحد منهما يُفكّر بفعل الأحسن لبناته. الشيخ داوود يعتقد أنّه يزوّجها لأفضل شخص، وأنّها ستكون سعيدة كما يعيش هو حياته.

 

(*) ألم تقلق من فكرة أنّ شاباً فرنسياً سيُضيء لها، ويشجّعها على اتّخاذ هذا القرار؟

ليس هو الذي شجّعها على هذا القرار، ولا هو الذي أضاء لها.

 

(*) هناك مشهد في البداية، قبل ظهور الشاب الفرنسي، عن علاقتها بزوجها، يتّضح فيه أنّها ليست سعيدة، ولا رغبة لديها في هذه العلاقة. لكنّها ككائن ميت، كانت مستكينة ومستسلمة. بينما يتبدّل حالها مع ظهور الفرنسي، الذي جعلها تتمرّد وتسير في هذا الاتجاه.

صحيح. لكنّه ليس فقط لأنه فرنسي. إنّه قادمٌ من عالم آخر، من فرنسا، وفرنسا حينها بعيدة. جاء مع أمّه، والمرأة التي تزوجت ثلاث مرات وتعيش سعيدة، تسألها: متى تزوّجت زوجك؟ فتجيبها: "(منذ بلوغي) 17 سنة، وأنا بحبّ أسافر". معك حق. إنها تسمع هذا الكلام لأول مرة من امرأة أجنبية.

 

(*) ليست فقط أجنبية، بل فرنسية. كأن هذا تكريس للفكرة الكولونيالية.

ليس الموضوع فرنسياً أم لا. إنّها تنظر إليه، وبالنسبة إليها إنّه مجرّد رجل، خاصة أنّه ليس جذّاباً. الفكرة أنّه قادم من عالم آخر مختلف عن العالم الذي تنتمي إليه. الموضوع لم يكن إعجاباً برجل، أو رغبةً في الجنس، بل أكثر من ذلك. أي شخصٍ يغرق، يتعلّق بأي شيء. كأنها تقول "أنقذني". هكذا أتخيّلها.

 

(*) في الفيلم ميزة أنّك كمخرج وكاتب سيناريو لم تنحَز إلى شخصية ضد أخرى. تركت كلّ شخصية تتحدّث بلسانها. مع ذلك، فجنسية الشاب لا تُحيل فقط إلى النظرة الاستعمارية، فأحياناً، في الإنتاج المشترك وصناديق الدعم، يُشتَرَط وجود جزء يتعلّق بفرنسا، وأنت لديك دعم منها.

نعم. أكيد.

 

(*) ماذا كانت شروط الدعم؟

أنْ يعمل معي فرنسيون. هناك منتجتان من فرنسا وثالثة لبنانية.

 

(*) وأين تمّ المونتاج؟

في فرنسا، وأيضاً أعمال الـ"بوست برودكشن".

 

(*) هل اشترطوا إنفاق نسبة محدّدة من الميزانية في فرنسا؟

أكثر من 30 بالمائة بقليل.

 

(*) الثلث فقط؟ أنت لديك ممثلون من فرنسا، والمونتاج والـ"بوست برودكشن" فيها، وهذه أمور مُكلفة. أيُعقل أنّ كلفة هذا كلّه تساوي 30 بالمائة فقط من الميزانية، أو الدعم؟

الممثلة ناتالي باي صديقة، ولم تحصل على أجرها كنجمة. لم تعد في ذروة نجوميتها. لذا، لم يكن أجرها مكلفاً.

 

(*) أهناك مشاهد تُصنع بإلهام اللحظة؟

إلهام اللحظة الذي أرغمت عليه كامنٌ في كيفية العمل مع الممثل، والقدرة على التعامل معه. هناك مشاهد غيّرتها كلّياً عند التصوير، لأني رأيت أن طريقة كتابتها لن تجعل الفيلم يسير في الاتجاه الصحيح، ولن تكون معبّرة.

 

(*) مثلاً؟

بعد العودة من الكنيسة، في البيت، عندما تنزل ليلى على السلّم، وزوجها يقول: "فلنخرج"، وتجد المسدس. هذا مكتوب بطريقة مختلفة تماماً. في الـ"بروفات" بدّلته. لأنّي قادم من المسرح، أقوم بـ"بروفات". هناك ممثلون لا يستطيعون إتقان الأداء أو التجاوب مع هذا الإلهام. ليست لديهم مرونة. طلال الجردي (الزوج) ممثل قوي، لكنّ المشكلة أنه حفظ دوره وتمرّن عليه، قبل الـ"بروفة". كان يحفظ كل التفاصيل كما كتبتها في النص. فلما أجريت التعديل، صار صعباً عليه إلغاء ما حفظه. الآخرون تجاوبوا.

 

(*) أداء الصبي بارع وصادق جداً، كأنّه لا يمثّل. أين التقيته؟

وجدته مساعدة المخرج. كان يشتري خبزاً من الضيعة حيث يسكن. التقيتُ 60 ـ 70 صبياً. لما جاء معها، التقيته مرّتين، وأجريت له اختباراً. لم يمثّل سابقاً، لكنّه ماهر وصادق.

 

(*) لفيلمك ثلاثة عناوين في ثلاث لغات. لماذا؟

هذا المكان يمثّل الجنة المفقودة، جنة الولد وجنة الأم المفقودة. تُسمّى جنة، لأنها مفقودة. لذا، صوّرتها بطريقة مخيفة، فهذا الوادي المخيف يؤثّر في مصير ليلى ومصير الصبي الصغير. لكنْ، في البداية، صوّرت المكان بكل الجمال الذي في الطبيعة، كذلك البيت الجميل. هكذا كان "أرض الوهم"، والعنوان مرادف للجنة المفقودة. اخترته في البداية.

العنوان الفرنسي اخترته أيضاً منذ البداية: "ليلة كأس المياه" (La Nuit Du Verre D’Eau)، ويأتي من أهمية المشهد الذي يستيقظ فيه الصبي ويقول لها: "أنا عطشان، عايز كوباية مَيَّة" (أنا عطشان، أريد كأس ماء" ـ المحرّر)، فتحضر له الكأس. في اليوم التالي، نرى أنّه لم يشرب، لأنّه لم يكن عطشاناً. في الحقيقة، كان لديه شعور بأنّه سيفقد أمّه.

العنوان الإنكليزي "وادي الأم" (Valley Mother)، اختاره الموزّع، وله أهميته أيضاً.

 

(*) ماذا عن عملك المقبل؟

فيلمي المقبل عن المافيا في لبنان، وموضوعه سياسي أكثر. قصة الواقع اللبناني في طرابلس، أفقر مدينة على البحر الأبيض المتوسط. وأيضاً، قصة أم مع ابنها.

 

(*) يبدو جلياً أنّ والدتك أثّرت بك جداً.

أعتبر "أرض الوهم" تكريماً لذكراها، خاصة أنّها رحلت شابّةً جداً.

المساهمون