يُعانِد قصر الداية، وسط مدينة غزة القديمة، عوامل الزمن عبر بقائه صامدًا أمام الحروب وعوامل التعرية الطبيعية على مدار مئات السنين التي تعرض خلالها إلى مختلف الأحداث التاريخية. ويُعد قصر الداية ثاني أكبر القصور الأثرية الثلاثة في قطاع غزة من حيث حجم البناء ومساحة الأرض والفِناء، متوسطًا قصر الباشا الذي يعتبر أكبر القصور الذي حوّل إلى متحف ومزار، وقصر السقا، وسط البلدة القديمة الذي يستضيف بعض الأنشطة التراثية والثقافية.
يعود تاريخ تأسيس قصر الداية إلى العصر العثماني، إلا أن بداية تأسيس حجارته وطبقاته الأولى ترجع إلى عهود سابقة تصل إلى العهد المملوكي، ما يُعطي للمكان قيمة أثرية وتاريخية كُبرى. تبلغ مساحة القصر الذي يعد نموذجًا رائعًا من الناحية المعمارية والفنية في العمارة الإسلامية نحو 750 مترًا مُربّعًا، وتعود ملكيّته إلى عائلة الخضري، ويتكون من طابقين؛ الأول يضم ست غرف كبيرة، وإيوانين، وعدة مطابخ، إضافة إلى الدرج الداخلي الذي يقود إلى الطابق الثاني الذي يتكون من عدة غرف تطل على الفناء الداخلي للقصر وإيوان.
يقول سليمان هاشم، المُحاضِر في جامِعة الأقصى واستشاري ترميم الآثار في غزة، إن قصر الداية يقع في البلدة القديمة التي تعتبر أساس قطاع غزة، ويرجع بناء حجارته التي قاومت العوامل الزمنية إلى العهد العثماني، منذ عام 1600، إلا أن المنازل في البلدة القديمة كانت عبارة عن طبقات، إذ كانت تُبنى بعضها فوق بعض. واكتشفت غرفة في القصر ذاته تعود إلى العهد المملوكي الذي يراوح بين القرنين الثاني والخامس عشر.
وكان القصر في الأساس مجموعة من المنازل المتجاورة، وفقًا لهاشم الذي تحدث لـ"العربي الجديد"، إلا أنه وبعد بدء المُلاك الجُدد بترميم تلك المنازل عبر مختصين ومهندسين وفريق عمل متكامل، اتضح أن تلك المنازل عبارة عن منزل واحد ضخم، وقد تم الاستدلال على ذلك من خلال نوع الحجارة وطريقة البناء.
يُبين هاشم أن المنزل الضخم والمُسجّل في وزارة السياحة والآثار بلفظ قصر الداية، كان يعود لشخص ذي أهمية في المجتمع، إذ استخدم في البناء حجر الصوان القاسي والصلب، والذي ليس بمقدور عامة الشعب استخدامه، إلى جانب الزخارف القيمة، والأحجار السُكرية المُهندمة والضخمة.
"بيت الشمس" هو الاسم الذي كان يُطلق على المنزل في السابق، وفق توصيف هاشم، وذلك لدخول الشمس إليه من المنتصف، وإغلاق جميع الجوانب على الساحة الكبيرة، فيما تضم ساحته الخارجية نافورة كبيرة بُنيت من الحِجارة القديمة. يتكون المنزل من عدة غُرف وأركان وإيوانات، تبدأ من ناحية الشرق على هيئة حرف L والذي كان مُتبعا في السابق ليكون ساتِرًا لفناء البيت، ويؤدي المدخل إلى ساحة كبيرة تضم على الناحية اليُمنى إيوانين، فيما تضم الناحية اليُسرى غرفة لاستقبال الضيوف، والتي كانت تستخدم لعدم مرور الضيوف على "حرملك" البيت.
ويضم المنزل ثلاثة أزيار مياه، وست غرف أرضية في الجناح الجنوبي، وثلاث غرف في الجناح الشمالي، فيما تضم الطبقة الثانية للبيت ثلاث غرف أخرى. كما يضم القصر خمسة حمامات، وعدة سراديب، إلى جانب بيت المونة، وقد تميز بطبيعة اختيار الحِجارة، التي تنوعت بين حجر الصوان الصلب وحجر السُكري الأبيض، إلى جانب استخدام حجر الكركار الصلب، فيما صُنِع حديد النوافِذ وفق نظام التشريك، بعيدًا عن أي نقطة لِحام.
وعلى الرغم من تعرض البلدة إلى الزلازل، وإلى القصف، إلا أن القصر بقي صامدًا، وذلك بفضل اللغز الموجود داخل أسواره وأسوار البيوت العتيقة، ويتمثل في ألواح الأخشاب الضخمة، التي كانت تُزرع داخل الجدران بشكل أفقي لامتصاص قوة الزلازل والاهتزازات الناجِمة عن القصف، وقد تم البدء بتطبيق هذا النظام منذ القِدم، بسبب تعرض البلدة للكثير من الزلازل. ويراوح سُمك جدران البيت الأثري ما بين 60 وحتى 90 سنتيمتراً، ويصل سُمك بعض الجدران إلى 120 سنتيمتراً، ما يُساهم بحمايتها أيضًا من الأحداث المُتعاقبة على البلدة، علاوة على مُقاومة التقلبات المناخية، حيث تبقى مرافِقه دافئة خلال فصل الشتاء، وباردة مع حلول فصل الصيف.
وعلى الرغم من ضعف الاهتمام الرسمي والمؤسساتي بأهمية الأعيان والبيوت الأثرية في قطاع غزة، الذي تعصف به الأزمات بفعل الحصار الإسرائيلي المتواصل منذ ستة عشر عامًا، إلا أن الفترة الأخيرة شهدت بعض التوجُهات والاهتمامات الفردية والمؤسساتية باتجاه تلك الأعيان، وتحويل بعضها إلى مزارات للأنشطة الثقافية أو التراثية، ويتم فيها إحياء المُناسبات الوطنية وسط أجواء فلكلورية.
أما قصر الداية، فقد بات يضم بعد ترميمه زوايا للمُنتجات اليدوية الفلسطينية، مثل الرسم على الزجاج، والفسيفساء، والتطريز التراثي، وهي أشغال مُرتبطة بالتراث، وتُعطي مشهدًا فلسطينيًا فلكلوريًا متكاملًا، في مُحاولة للحِفاظ عليه وإبقائه حيويًا وفاعِلًا على الرغم من تعاقُب القرون.
وتواجِه البيوت والأعيان الأثرية جُملة من التحديات، ومنها غياب المؤسسات الداعِمة لمُلاك هذه البيوت العتيقة، وضعف الوعي الثقافي، نظرًا إلى غياب المؤسسات المُختصة بتثقيف الجمهور حول أهمية وفائدة هذه البيوت الأثرية، كما أهميتها الوطنية، والمُتعلقة بتثبيت حق الفلسطيني في أرضه العربية والتي تعود للعهود العثمانية والمملوكية والبيزنطية والرومانية وما قبلها.