قرى الشمال القطري... تاريخ ينتظر من يطرق أبوابه

13 فبراير 2023
عمل للفنان أولافور إلياسون في صحراء الزبارة (آن - كرستين بوجولا / فرانس برس)
+ الخط -

تتمايل السيارة رباعية الدفع يمنة ويسرة. نهتزّ على وقع حركتها ونحن نحاول مدّ بصرنا لنتلمّس مدى قربنا ممّا جئنا لاكتشافه. في كل ناحية نلتفت إليها، يغمرنا اللون الأصفر الذابل لأراضٍ قَفْر تبدو كأن الزمن قد توقف فيها، فتخلّفت عن موجة العصرنة والحداثة التي اجتاحت قطر. هي كيلومترات عدة كان على السيارة قطعها على هذه الشاكلة، قبل أن نجد غايتنا. لكن عطش الاكتشاف لم يُروَ. ففي اللحظة التي خُيّل إلينا أننا وصلنا مقصدنا، استقبلنا سياج ولافتة كُتب عليها "ممنوع الدخول".

حسرة وخيبة أمل تلت لهفة وحماساً كان يحفّنا للقاء ما بقي من قرية المفير، أو المفجر، واحدة من أقدم القرى في الشمال القطري التي تمثل كنزاً أثرياً وطنياً ومعلماً سياحياً يستحق الاكتشاف. من وراء السياج الحديدي، اختلسنا النظرات علّنا نتمعّن في معالم هذه القرية التي خلت من أهلها، وهي اليوم شاهدة على ماضٍ ولّى ولن يعود.

مبانٍ عدة كانت ذات يوم بيوتاً ومسجداً وسوقاً، تلفّها سماء وبحر وأرض صخرية تتركها في عزلة عما سواها. لم يكن الوصول إليها هيّناً، كما لم تكن حياة من سكنوا هذا المكان قبل عقود من الزمن. فكل من يعرف تاريخ قطر سمع قصصاً وحكايات عن صيد اللؤلؤ، تلك الحبّات الصغيرة التي جعلت قطر واحدة من أكبر مُصدّريها في العالم. وإلى غاية أربعينيات القرن التاسع عشر، مثّل صيد اللؤلؤ ركيزة الاقتصاد القطري، إذ كان نصف السكان يعملون في هذا المجال، قبل أن تُستحدث مزارع اللؤلؤ في دول أخرى، أبرزها اليابان، ما تسبب في اندثار هذه التجارة في قطر. كان صيد الأسماك والغوص لجمع اللؤلؤ محوري حياة سكان القرى في الشمال. لذلك، كان من البديهي أن يُقيم الصيادون مساكنهم على شواطئ الخليج العربي، كي يكونوا على مقربة من مصدر رزقهم، ومن مراكز المبادلات التجارية مع دول أخرى مثل البحرين والهند. وفي ذلك الوقت، مثّل الغوص الحر السبيل الوحيد لجمع اللؤلؤ، في رحلة مجهدة كانت تستمر لأربعة أشهر على متن مراكب الداو التقليدية، يخوض غمارها ما لا يقل عن 30 شخصاً، تتعدّد مهامهم بين قبطان وغواصين وساحبين وطباخ.

حول العالم
التحديثات الحية

بعد دخول قطر مرحلة جديدة من الحداثة والتطوّر، بفضل اكتشاف النفط والغاز في منتصف القرن الماضي، هُجرت قرى الشمال، على غرار المفير، والجُميل، والعريش، وهي على هذا الحال لم تَطُلْها يد الدولة بالعناية أو الترميم، واكتفت الجهات الرسمية، المتمثلة في متاحف قطر، بتسييجها ووضع لافتات تمنع دخولها. تعتبر هذه الخطوة ضرورية لمنع الزوار من تخريب ما تبقى من معالم هذه الأماكن، إذ إننا عند دخول قريتي العريش والجميل، لفتت انتباهنا الرسوم والكتابات التي شوّهت العديد من الجدران، حتى إننا وجدنا في أحد البيوت آثاراً لنارٍ أُشعلت داخلها، إما بغرض التدفئة أو الطبخ من قبل من اقتحموا المكان، ولم يحترموا تاريخه وأهميته الأثرية.

على الرغم من أهمية قرار إغلاق أغلب هذه القرى للحفاظ عليها، باستثناء قرية الجميل التي ظلت مفتوحة للزوار، فإن هناك أصواتاً تُنادي بضرورة ترميمها وفتح أبوابها أمام الراغبين في اكتشافها والوقوف على تاريخها العريق. لكن هذا التحدّي لا يُعتبر سهلاً أو قابلاً للتنفيذ السريع، ذلك أنه عبارة عن سباق ضدّ الزمن يستلزم تخطيطاً وتنفيذاً لعمليات الترميم، مع الأخذ بعين الاعتبار هشاشة المساكن المبنيّة من الحجارة والصدف، والمسقوفة بخشب أشجار المانغروف وسيقان البامبو، ما يجعلها هشّة، لا سيما أمام رياح الشمال ورطوبة بحر الخليج العربي. كما تبرز ضرورة انتداب حُراس أمن يسهرون على حماية القرى من مظاهر التخريب البشرية التي إلى جانب الكتابة على الجدران، تتجلّى في رمي النفايات البلاستيكية وغيرها.

تجدر الإشارة إلى أن قرية الزبارة، واحدة من أبرز وأشهر قرى الشمال، وهي أكبر موقع تراثي في دولة قطر، قد وقع إدراجها عام 2013 على قائمة التراث العالمي لمنظمة يونسكو، إذ عملت متاحف قطر على الاهتمام بها وتنظيم أوقات زيارتها، فباتت معلماً سياحياً يقصده الزوار من داخل وخارج قطر، من دون أن يعود ذلك بالضرر على المكان. ومن هنا، تبرز أهمية الاهتمام والعناية بباقي القرى والقلاع والترويج لها. فعلى سبيل المثال، تضمّ قطر قلاعاً ذات ثقل تاريخي، من قبيل قلعة الكوت والثغب وغيرهما، والتي بُنيت بغرض حماية المواقع الحساسة والاستراتيجية ضدّ الهجمات الخارجية.

في الأثناء، تظل باقي قرى شمال قطر صامدة أمام تقلّبات الزمن، في انتظار من يطرق أبواب تاريخها، ليعرف أكثر عن الحياة البسيطة التي كان يعيشها أهلها، فيسمع حكايات عن السمك واللؤلؤ، وسط قهقهات الأطفال وصرخات الكبار وهم يستعدّون لركوب الموج، قبل أن يعودوا مُحمّلين بالخيرات.

المساهمون