"في يومنا": حوارات عميقة عن ماهية الأشياء

05 فبراير 2024
هونغ سانغ ـ سو: التزام أسلوب سينمائي يُميّزه عن غيره (ستفان كاردينالي/Getty)
+ الخط -

يؤكّد الكوري الجنوبي هونغ سانغ ـ سو (1960)، في كلّ فيلمٍ ينجزه، أنّه مخرج ملتزمٌ أسلوباً سينمائياً يُميّزه عن غيره، لا يحيد عنه، بل يُبرزه كلّ مرة بشكل أفضل وأعمق. هذا ظهر في أفلامه الأخيرة، كـ"أمام وجهك" (2021)، المُشارك في برنامج Cannes Premiere، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي، و"الروائية، الفيلم والصدفة السعيدة" (2022)، الفائز بجائزة "الدب الفضي ـ الجائزة الكبرى للجنة التحكيم" في الدورة الـ72 (10 ـ 20 فبراير/شباط 2022) لـ"مهرجان برلين السينمائي".

في أفلامه، يُقلِّل سانغ ـ سو الشخصيات، ويتعمّق في فكرة معيّنة، ويخلق ما يدعمها ويُكثّفها، ويذهب إلى أفكار يتغافل عنها الجميع، أو تُتَناول بسطحية، من دون إعطائها شحنة أحاسيس، لخلق تواصل عميق بين المتلقّي والموضوع، أو تزويدها بالبُعد المطلوب، الذي يُحوّلها إلى طاقةِ مشاعر إنسانية، تُظلّل كلّ من يقف عليها.

إنّه الأسلوب نفسه المُعتَمد في جديده "في يومنا" (2023)، الفائز بـ"نجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم روائي"، في الدورة الـ6 (14 ـ 21 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، الذي يروي قصتين تحدثان في فضاءين، يختلف أحدهما عن الآخر: الأولى بين الممثلة المحترفة والمعتزلة سانغ ون (كيم مين هي)، والممثلة الهاوية جي سو (بارك مي سو)، الراغبة في التمثيل والتعلّم منها؛ والثانية تتعلّق بشاعر كبير (كي جو بونغ)، مع المعجب جاي وون (ها سيونغ جوك). تفرز القصتان أفكاراً عدّة مهمّة، واستفسارات وجودية عن ماهية الأشياء والشعر والطعام وجدوى الحياة نفسها. هذا معطى ولّد نقاشات مهمّة، وأجاب عن أسئلة عدّة وفق وجهة نظر كلّ فرد، انطلاقاً من طريقة العيش والتفكير والتأمّل، إضافة إلى ما تخلّفه التجربة من صدق الأحكام ومعقوليتها وأفقها، وسبل وصولها إلى الآخر.

لم يفصح سانغ ـ سو، بوصفه كاتب السيناريو، عن الرابط الذي يجمع بين القصتين، إذْ اكتفى بإعطاء تلميح صغير فقط، كأنّه يحاول التنصّل من أي روابط تجمع بينهما ظاهرياً، لكنْ عملياً يُقدّم مؤشّراً خافتاً، يصعب الجزم من خلاله، يتعلق بكون الممثلة المحترفة في القصة الأولى ابنة الشاعر، الذي يقول أثناء تناوله وجبة الـ"نودلز"، إنّه الوحيد الذي يضيف لها صلصة الفلفل الحار الأحمر، وهذا تلمّح إليه سانغو ون لصديقتها، بقولها إنّها تعرف شخصاً يتناول الـ"نودلز" بالفلفل الحار، وإنّها تعلّمت منه هذا. رغم أنّ الإشارة ضعيفة، هناك ما يسندها من إيحاءات متواصلة.

كما أنّ هناك شبهاً كبيراً من ناحية بناء ـ شكل القصتين. ففي الأولى، هناك من تريد تعلّم التمثيل، أي الفن، من ممثلة محترفة سابقة. وفي الثانية، طالبٌ يبحث عن أسرار الشعر من شاعر كبير، فيسأله عن ماهيته، وعما إذا كان هناك من يقرأ الشعر في العصر الحديث. هناك أيضاً قطّة في الأولى، تفقَدها صاحبتها لفترة، ثم تعود إليها، فتُرجع لها البسمة، وتُزيح عنها حزناً كبيراً؛ وفي الثانية قطّ يفقده الشاعر، فيصير وحيداً في بيته. تتوزّع تلك الإشارات الضعيفة، لتقوى أكثر عندما يتمّ فَهم الغاية والهدف.

تشكّل المحور الأساسي لـ"في يومنا" حول نقاشات عميقة بين شخصياته، في محاولة فهم وتشريح ماهية الشعر من جهة، وماهية التمثيل من جهة أخرى. كلّ نقاش أفرز قيماً وتعريفات وأبعاداً في كلّ فن، خاصة أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين الفن والحياة، وكلّ فن يقف خلفه شخص. بمعنى أنّ التجارب والمحطات التي مرّ عليها الفرد تُنتج ذلك الفن وتعرّفه، أي أنّه خاضع لتجارب معينة حتى يصدر بصيغه المختلفة. إضافة إلى قيم القناعة والفهم والتنوّع، التي تزرعها في كلّ فنان، أكان شاعراً أو ممثلاً أو رسّاماً، لأنّ المعطيات تتشابه، وطرق التقبّل والقيم تختلف.

 

 

اعتمد هونغ سانغ ـ سو، في جديده هذا، على 3 منطلقات أساسية، صنعت جمالياته وسحره: عمق المواضيع التي اختارها في السيناريو، التي ولّدت النقاشات حول أبسط الأشياء، عن الموسيقى وعوالم القطط والأكل. قصص ثانوية أفرزتها ثنائية الشاعر ـ الممثلة؛ اعتماده على الكاميرا الثابتة والمقرّبة، التي حدّدها ديكورٌ محدود جداً، وهذا خلق نوعاً من قرابة بين الشخصيات والمتلقّي، وقاد إلى المنطلق الثالث: إدارة الممثلين، وطريقة تعاطيهم مع الأحداث النفسية لكلّ شخصية. مثلاً: استطاع كي جو بونغ إقناعنا فعلياً بأنّه شاعر كبير، يملك مرجعية ورؤيا، كما فعلت كيم مين هي (الممثلة المحترفة المعتزلة)، إذْ إنّ دورها مُقنعٌ إلى درجة نسيان ما خلف الشاشة، وتقفّي أثر الفيلم ومنطلقاته فقط. هكذا انعكست موهبة المخرج في تقريب شخصياته من الممثلين، لأنّهم الواجهة الأولى للمشاهد.

المنطلقات الـ3 الأساسية هذه تحوّلت إلى سمة أساسية في أفلام هونغ سانغ ـ سو. لذا، لم يتخلّ عنها، بل جعلها مقاربة فنية وقالباً شكلياً يعتمد عليهما باستمرار، لأنّه يؤدّي وظيفته الجمالية الكاملة، ويعطيه مساحة واسعة من التميّز.

بعد مراجعة البطاقة الفنية للفيلم، يُلاحظ أنّ هونغ سانغ ـ سو لم يكتفِ بالإخراج وكتابة السيناريو، خاصة أنّ الجمع بين هاتين المهنتين شائعٌ لدى مخرجين كثيرين. فهو تعدّاهما إلى التصوير والمونتاج والموسيقى والصوت والإنتاج، مستحوذاً على كلّ محاور صنع فيلم، وهذا يعكس مواهبه المتعدّدة، ويُحيل إلى أنّه يريد صنع سينما تعكسه هو شخصياً، وبالتالي يكون من أكثر المخرجين قُرباً من "سينما المؤلف".

"في يومنا" تجربة سينمائية فريدة وقوية، تُتّخذ نموذجاً عملياً لأفلامٍ ذات ميزانيات منخفضة. إضافة إلى فتنتها وسحرها السينمائيين، اعتمد على مَشاهِد طويلة وثابتة، للبحث عن حقائق الأشياء وماهيتها. كما قدّم سانغ ـ سو درساً بليغاً في عملية صوغ التفاصيل الصغيرة وإحيائها، تلك التي صنعت الشكل النهائي للفيلم، كالحوارات المتعلّقة بالقطط، وممارسة الألعاب المسلية والبسيطة. رغم أنّها أشياء تكاد لا تذكر أو ترى في الواقع، لكنّها مهمة وفاصلة في صنع الحياة، وتُحدث فارقاً كبيراً، عند التمعّن بها بعين أكثر تبصراً ومعرفة.

المساهمون