في رحيل ماثيو بيري: كوميديٌّ وإنْ مع العصابات

01 نوفمبر 2023
ماثيو بيري وبروس ويليس في "9 ياردات بكاملها": تنافس كوميدي (Getty)
+ الخط -

مجدّداً، يُطرح سؤال الكتابة المهنيّة عن حدثٍ يختلف، كلّياً، عن حربٍ إسرائيلية جديدة في قطاع غزّة، منذ "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023): أتنفع الكتابة في رحيل "نجمٍ"، عند اشتداد المحنة وتفشّي الموت والحقد والإذلال؟ سؤال لاحق: أتُقرأ مقالة في رحيل "نجم"، والاهتمام الأبرز، حالياً، منصبٌّ على وحشيةٍ إسرائيلية، لعلّها غير مسبوقة في 75 عاماً؟

سؤالان يتكرّران، والنقاش فيهما مطلوبٌ، لكنّه يأتي لاحقاً. مع هذا، فإنّ رحيل "نجمٍ" كماثيو بيري (1969 ـ 2023)، لن يحول دون متابعة تلك الحرب، ولن يتفوّق عليها. المهنة متطلّبة، وكتابةٌ في رحيل شخصية عامة جزءٌ منها.

إذاً، يُتوفّى ماثيو بيري "غرقاً" (28 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، في "جاكوزي" منزله، في Pacific Palisades (أحد الأحياء الفخمة في لوس أنجليس)، بحسب "دايلي مايل" (الموقع الإلكتروني، 29 أكتوبر/تشرين الأول 2023). لن يكون مهمّاً معرفة سبب الوفاة. تقارير أولى تذكر أنْ لا أثر لمخدّرات أو مهدّئات في منزله، فلإدمانه مخدّرات ومهدّئات وكحولٍ تاريخٌ حافل، يصف بعضه، "بطريقة تُثير قلقاً وخوفاً"، في مذكّراته، Friends, Lovers and the Big Terrible Thing (الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2022، منشورات Flatiron Books). إدمانٌ يُخضِعه، في 15 مركزاً للتأهيل، لجلسات إزالة السموم، بكلفة تبلغ 9 ملايين دولار أميركي. هذا الإدمان يدفعه إلى بدء "رحلة طبية حقيقية" عام 2018، بعد شقاءٍ عظيم: التهاب رئوي، انفجار في القولون، إقامة قصيرة في "العناية المُركّزة"، أسبوعان في غيبوبة، 9 أشهر مع كيس "فغر" القولون (فتحة في القولون لتصريف البراز والبول خارج الجسم، تُجرى بعملية جراحية)، نحو 12 عملية جراحية في المعدة؛ وأيضاً "إدراكه أنّه، في 49 عاماً (حينها)، أمضى أكثر من نصف حياته في مراكز العلاج وإعادة التأهيل"، كما في مقالة جولي أويون، في "لو سوار" (صحيفة يومية بلجيكية، تصدر باللغة الفرنسية)، في اليوم التالي لوفاته.

ستكون غلبةٌ، في كتابات عدّة بعد رحيله، لـ"أصدقاء (Friends)"، المسلسل التلفزيوني الأميركي الأشهر له (إنتاج NBC، شبكة سمعية ـ بصرية أميركية؛ 1994 ـ 2004)، لديفيد كراين ومارتا كوفمان، لتأديته شخصية أساسية فيه، رغم اشتغاله في أعمال تلفزيونية كثيرة، ومشاركته في أفلامٍ سينمائية عدّة، وله "لعبة فيديو" واحدة، بعنوان Fallout: New Vegas (2010، تطوير: Obsidian Entertainment؛ نشر: Bethesda Softworks).

 

 

الغلبة معروفٌ سببها، فـ"أصدقاء" يبقى الأرسخ حضوراً في وجدان ملايين المُشاهدين وتفكيرهم وانفعالاتهم ومتابعاتهم، ويُقال إنّ إعادة بثّه حالياً (236 حلقة في 10 مواسم)، تحافظ على شعبيّته، التي ربما غير بالغةٍ شعبيّته الأساسية. هذا مقبول في وسائل تواصل اجتماعي، والصُور المنشورة له فيها تدلّ على معنى العلاقة القائمة بين ناشر/ناشرة الصورة والممثل، مؤدّي شخصية تشاندلر بينغ. لكنّ الكتابة المهنية تتطلّب استعادة أعمال وأفلامٍ، يغلب على معظمها مرحٌ وكوميديا، وأفلامٌ له تجمع الكوميديا بالعصابات، بنكهةٍ مبسّطة وممتعة ومُضحكة، خاصةً "9 ياردات بكاملها" (2000) لجوناثان لين، إلى جانب بروس ويليس.

شهرته بفضل "أصدقاء" متأتية من كون شخصيته أساسية فيه، رغم أنّ له إطلالات في أعمالٍ تلفزيونية ليست أقلّ شهرة، كـ"بيفرلي هيلز 90210" (1991) لدارّن ستار، و"عائلة سيمبسن" (2001) لمات غرونينغ، و"آلّي ماكْبيل" (2002) لديفيد إي. كيلّي، و"الجناح الغربي" (2003) لآرون سوركين. لكنّها إطلالات قليلة، إذْ يظهر في حلقة واحدة (أو أكثر بقليل)، في موسم واحد (أو أكثر بقليل)، في كلّ مسلسل. في السينما، يعمل بإدارة بول شنايدر وبيل كوندون ودوغ ليمان وآندي تانينت (دور البطولة في Fools Rush In، عام 1997)، وآدم ماك كاي، والأخير مخرج "لا تنظر إلى الأعلى" (2021)، أحد الأفلام المُثيرة لجدلٍ، غير ملتزمٍ نقاشاً نقدياً سوياً، غالباً، بسبب انقسامٍ حول كيفية معاينته أحوال العالم، ورؤيته المتشائمة المشغولة بأسلوب ساخر وممتع. لكنّ ماكاي، الذي يمنح بيري دور الجنرال ديفيد مايرز، يُلغي مَشاهده في المونتاج.

استعادة أفلامٍ له تكشف أنّه، في غالبيتها، حاضرٌ من دون بطولة أولى، إلّا نادراً. اشتغاله مع ممثل ـ نجم سينمائي، كبروس ويليس، يُتيح له إظهار شيءٍ من أداءٍ محترف في الكوميديا، مهما يكن مضمون هذه الكوميديا، وارتباطها بأنواع أخرى. أيكون هذا نتاج البراعة التمثيلية لويليس نفسه في الكوميديا، ما يُفسح مجالاً لبيري في كشف ما يمتلكه من جمالية أداء، أو يُحرّضه، بشكل غير مباشر، على كشفٍ كهذا؟ أمْ أنّ لبيري إمكانية الأداء الكوميدي، خارج "أصدقاء"؟ أميل إلى التساؤل الثاني، رغم عدم خروجه، كلّياً، من حركاتٍ وملامح وتصرّفات يُتقنها في المسلسل، فيُقدّمها في الفيلم، وإنْ بدرجةٍ أقلّ وأخفّ وطأة.

في الجزئين هذين من الـ"يارْدات" (الثاني بعنوان "الـ10 ياردات كلّها" لهاورد دويْتش، 2004)، يُمتِّع بيري في محاولته التسابق مع ويليس في إنجاح "خلطةِ" الكوميديا بأفلام العصابات والقتل والمطاردة. وإذْ يبقى الجزء الأول أهمّ من الجزء الثاني، فالثاني إضافةٌ أدائية لبيري، أو تمرينٌ لا أكثر، يحاول تأكيد أدواتها (الإضافة) المطلوبة في أفلامٍ لاحقة، علماً أنّ لها في أفلامٍ سابقة جذوراً كوميدية بحتة، كما في "خدمة سارة" (2002) لريجنالد هادْلن.

أيّاً يكن سبب الوفاة، فرحيل أصغر الـ"أصدقاء" سنّاً (جينيفر أنيستون مولودةٌ، هي أيضاً، في العام نفسه، 1969) مؤلمٌ لمحبّيه، رغم أنّ الموت قدرٌ لا مفرّ منه. والألم، المرافق لحزنٍ، نابعٌ من إحساس كثيرين وكثيرات بقُربهم/قُربهنّ من تشاندلر بينغ، بأي شكلٍ. أمّا هو، فيُدرك منذ زمنٍ أنّ "هناك جحيماً"، طالباً من الجميع عدم السماح لأحدٍ بقول عكس ذلك: "ذهبتُ إلى هناك. إنّه موجود. نقطة على السطر".

المساهمون