"من أين ينبثق الحب؟"، يسأل ابن عربيّ. هل يأتي من تراكم اللقاءات في الحيوات السابقة، كما في الاعتقاد البوذيّ؟ هذه واحدة من سرديّات الحب الغارقة في الشعرية.
تستلهم المخرجة سيلين سونغ (Celine Song) المناخ الشعري لعملها الأول Past Lives، من الارتباط السحري بين الحيوات أو In Yun كما في التسمية البوذية. الفكرة المستقاة من الديانة البوذية، قُدمت من خلال قصة تفيض بالمشاعر، عن الصديقين جونغ هاي (تيو يو) وسونغ نا (غريتا لي)، اللذين جمعهما حب طفولي قبل أن يفترقا إثر قرار هجرة عائلة سونغ نا إلى كندا، ليقضيا بعدها حياتيهما يدوران في دوامة اللقاء والوداع الطفولي ذاته.
إثر قرار الهجرة، تغيّر سونغ نا الصغيرة اسمها. ربما تعتقد أنها بهذا الأمر تنسلخ عن ذاتها القديمة. تتخذ لنفسها اسم نورا، بيد أن سونغ نا الطفلة لا تزال حيّة في وجدانها.
في وداعهما الأول، مشيا كل في سبيله، عند مفترق طرق. صعدت هي ذلك الطريق المرتفع، أما هو فمشى بتؤدة في طريقٍ مستوٍ، حتى يغيب عن الأنظار. في كل فصل من حياتها تبقى هي في رحلة الصعود، أما هو فسيبقى ذلك الطفل العادي ومن ثم الشاب العادي فالرجل العادي.
لم تعد كوريا تتسع لأحلام الطفلة التي لطالما طمحت إلى التفوّق. تكتشف نورا في شبابها، بعد أن تكيّفت مع الحياة الغربيّة المختلفة عما نشأت عليه في كوريا الجنوبية، أنها لا تزال ترنو إلى شيء ما في الماضي، فتقرر أن تجدد اللقاء. هكذا، تبحث من قبيل الفضول على حبّ طفولتها على فيسبوك، هو الآخر يبحث عنها لكن بدافع أقوى، ألا وهو استرجاع تلك الصداقة القديمة. ذاكرة شبحية تمد خيطاً رفيعاً إلى مدينتها سيول حيث كانت تلهو في الأزقة مع صديقها.
اللقاء الثاني بعد 12 عاماً هو لقاء افتراضي، كما سيكون الوداع افتراضياً أيضاً. لقاء نورا وسونغ هاي اليافعين ما هو إلا حلقة وصل بين الطفولة والنضج. شاشة الحاسوب التي تفصل بينهما مثل حاجز شفاف، تحيل تواصلهما الافتراضي إلى ذكرى حيّة.
ربما ولدا غريبين معاً وسيبقيان صديقين دوماً، كما يشير محمود درويش في قصيدته "أجمل حب". كل لقاء هو لقاء غريبين، وكلما لامسا بأطراف أصابعهما الحب يحول إلى صداقة. يسأل سوانغ هاي: ماذا لو التقينا في حيواتنا السابقة، كيف ستكون علاقتنا؟ تجيب نورا: ربما كنا غصناً وطائراً يقف عليه في صباحٍ ما.
الذاكرة ما إن تقبض عليها حتى تتسلل من بين أصابعك كالرمال. تقارب هذه الثيمة التي طرحها الفيلم ثيمة أخرى في فيلم Eternal Sunshine of the Spotless Mind لمخرجه شارلي كوفمان، وتضمّن المخرجة سونغ في الفيلم تحيّة صريحة لفيلم كوفمان الذي يعتبر أشهر الأعمال التي تتناول موضوعة الذاكرة.
لكن In Yun القدريّة أضافت للاثنين طرفاً ثالثاً جمعهما في مثلث حب وهو زوج نورا، الكاتب الأميركي آرثر (جون ماغارو)، ليتحول كلا الرجلين إلى نجمين يدوران في فلك نورا. علاقتها مع حبها القديم تنضح بالعذرية، أما مع زوجها فبالنمطية، إذ لا شيء استثنائي، رغم الحب الذي يكنه آرثر لزوجته.
على الرغم من أن الفيلم ليس حول قصة حب ميلودرامية تجمع ثلاثة أطراف، إلا أن دخول آرثر إلى المشهد جعل مثلث الحبّ أحد فصول القصّة، إذ بدأت سيلين سونغ قصتها، من نقطة تجمع الثلاثة في مطعم أميركي، حيث تتوسط نورا زوجها آرثر وحبها الأول سونغ هاي. بعد برهة من المجاملات بين الثلاثة، تتوغل نورا وسونغ هاي بحديث عاطفي مستغلين عدم فهم آرثر اللغة الكورية. يتبدّل الحديث بعدئذٍ إلى عتب بين العاشقين. يبدو آرثر واجماً، فالاثنان يتجاهلانه تماماً، حتى كاميرا سيلين يونغ تقصيه من الكادر الذي يجمع نورا وسونغ، وتعود لتلتقطه وحيداً لتظهر سأمه وامتعاضه.
آرثر ونورا يكنان حباً لبعضهما بعضا، لكن سحراً من نوعٍ آخر يتولّد في علاقتها مع سونغ هاي، هو الحنين إلى الطفولة، أو إلى كوريا بحدّ ذاتها، وهذا ما تأتي نورا على ذكره بشكل مباشر حين تصف حب طفولتها بأنه كوري للغاية، فهو صلتها بموطنها الأم كوريا الجنوبية، فتجد كثيراً من المتعة في أن تتحدث معه باللغة الكورية اللغة التي تهذي بها في نومها، كما يقول آرثر.
يودع الصديقان بعضهما بعضاً، وينقضي بهذا الوداع الفصل الثالث من القصة. يقفان وجهاً لوجه كما وداع بطلي وونغ كار واي في فيلم In the Mood for Love، ويمضي أخيراً، وتعود الذاكرة إلى عملها، بشكل شبيه بفيلم المخرج الهونغ كونغي؛ إذ تُشَفّ لها الذكرى من خلال زجاج مغبرّ، الماضي الذي يمكن أن تراه لكن لا يمكنك لمسه، كما يصفه كار واي.
العلاقة بين الاثنين مترعة بالحسية، لكنها حسية لا تتحقق وكأن بينهما حاجز شفاف، لا يتقاربان أبداً باستثناء اللمسات العذرية الطفولية، لكن كل ما يتراءى لنا هو رغبة عميقة بجعل الآخر محسوساً، الأمر الذي تصرح عنه نورا بعد أن تلتقي أخيراً بسونغ هاي بعد أربعة وعشرين عاماً.
المزاج اللوني للفيلم يتبدّل من مكان إلى آخر. سونغ تميز بين الماضي والحاضر أو بين كوريا الجنوبية وأميركا باللون. اللغة السينمائية والسرد المحكم، جعلا من المستغرب أن يكون العمل هو الأول لمخرجته.
الفيلم غارق في الذاتية، فالقصة مستوحاة من حياتها. ربما لذلك رسخت كل أدوات التعبير السينمائي في سرد قصتها، ليغدو أشبه بقصيدة سينمائية.