ذهب الممثل والمخرج شون بن إلى كييف لتسجيل ما يحدث في أوكرانيا حالياً. تذكرنا زيارته، بسابقة الصحافي غاريث جونز في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين. تكشف الزيارتان عن استمرار نضال أوكرانيا واستنزافها. كان جونز أول صحافي ينشر عن المجاعة التي حاقت بأوكرانيا السوفييتية في أوائل الثلاثينيات. توصف تلك المجاعة باسم "مجاعة ستالين" أو "هولودومور". الأخيرة كلمة مشتقة من كلمتين أوكرانيتين، تشير إلى مجاعة مصطنعة تم التخطيط لها وتنفيذها عمدًا، ما أدى إلى مقتل الملايين. والهدف هو سحق المعارضة الأوكرانية ضد نظام ستالين.
لم تكن قصة جونز معروفة على نطاق واسع حتى وقت قريب. وكان تيموثي سنايدر، في كتابه الشهير "أرض الدم"، وآن أبلباوم في "المجاعة الحمراء: حرب ستالين على أوكرانيا"، هما أول من ألقى الضوء على قصة غاريث جونز. ومن خلال هذين الكتابين، بنت المخرجة البولندية، أغنيزكا هولاند فيلمها الروائي الطويل بعنوان Mr. Jones، وهو من إنتاج بولندي أوكراني بريطاني مشترك (2019). رُشِّح العمل لجائزة الدب الذهبي في الدورة 69 لمهرجان برلين السينمائي الدولي.
يفتتح الفيلم بمشهد للصحافي الويلزي الشاب، ومستشار رئيس الوزراء البريطاني، لويد جورج، وهو ينبهه وطاقمه من مخاطر هتلر. ختم جونز عرضه قائلًا: "لقد بدأت الحرب العالمية الثانية للتو يا سادة". تُقابل توقعاته باستخفاف من قبل الحضور، فيقول يائسًا: "يبدو أن لا أحد غيري يدرك خطورة الوضع". أيامها، كان الكساد يضرب الاقتصاد الأوروبي، وخلافًا للمتوقع؛ فإن الأرقام الآتية من موسكو لا تتطابق مع واقع الكساد. "الكرملين مفلس، فكيف يُسرف السوفييت في الإنفاق؟". سؤال حيَّر جونز وأراد الإجابة عنه بالسفر إلى موسكو ولقاء ستالين. ولتحقيق هدفه، طلب من لويد جورج تفويضه للسفر إلى هناك، لكن بسبب الوضع المالي كان قد سُرِّح من الوظيفة، ما جعله يقرر السفر إلى موسكو على نفقته.
يصل جونز إلى موسكو، ويعلم أن زميله الصحافي الألماني بول كليب، قُتل بأربع رصاصات في ظهره بحجة سطو مسلح. بول كليب هي شخصية ابتكرتها هولاند تكريمًا لبول كليبنيكوف، الصحافي الذي قُتل في موسكو عام 2004. ودلالة هذا الربط هو القول إنّ موسكو لم تتغير، وإنّ ستالين الأمس هو بوتين اليوم. في موسكو، يشاهد جونز آلة الدعاية السوفيتية وهي تعمل كجهاز شامل للقمع والإكراه. ويكتشف أن الصحافيين الأجانب محتجزون ويخضعون لرقابة مشددة، تمنعهم من مغادرة موسكو إلى بقية المدن، ويقتصر عملهم على الاستشهاد بالبيانات الصحافية الصادرة عن الكرملين.
سيسمع جونز شائعات مفادها أن ستالين يحصل على المال من قمح أوكرانيا. وخلال رحلة القطار إلى خاركيف، يفر من مُراقِبه إلى قطار مخصص للفقراء. سيتأكد هناك من أن حداثة ستالين مبنية على بؤس آلاف القرى في مناطق مختلفة من الاتحاد السوفيتي، وخاصة أوكرانيا، حيث يموت الناس فعليًا من الجوع، بينما تجردهم السلطات من كل مواردهم. في القطار، يشاهد جونز أولى علامات الفقر. يقشر برتقالة ويرمي بالقشر إلى سلة فيتسابق إليها الركاب، وعندما يحاول شراء معطف من رجل، يرفض الرجل المال طالباً الخبز.
يشاهد جونز جثث الجوعى والقرى الأوكرانية، وقد أُخليت من سكانها، بينما يُنقل القمح إلى موسكو. تكتفي المخرجة بالتلميح، من خلال مشهد يُظهر فظاعة المجاعة بتناول جونز لحماً مطبوخاً مع مجموعة من الأطفال، يسألهم عن مصدر اللحم، فيشيرون إلى باحة البيت، حيث يرقد أخوهم الأكبر ميتاً.
يتقيأ جونز ما أكله ويغادر البيت، ويُقبض عليه ويُعاد إلى موسكو ثم إلى بريطانيا بشرط تكتمه. صوَّرت هولاند هذا الجزء باستخدام اللون الأحادي بتدرجات الرمادي؛ لتعكس قتامة المشاهد المصحوبة بموسيقى الـ "أمبينت" التي تحيط بالجو العام، ولا تركز على بنية الإيقاع الموسيقي التقليدي. ومن خلال الصور الحادة المثيرة للمشاعر، والأغنية الكئيبة التي غناها أطفال القرية عن الجوع والتشرد، أوصلت الرسالة القوية حول فظائع المجاعة.
أجاد التصوير استعمال تدرجات اللون الأحادي والضوء، لتظهر موسكو ضبابية وقاتمة. وبدت المكاتب التي زارها جونز في النهار شبه مظلمة. ولندرك الفارق بين موسكو وأوكرانيا، ظهرت أوجه الترف من خلال الحفلة الماجنة التي أقامها الصحافي دورانتي، مراسل صحيفة نيويورك تايمز في موسكو. سيعرف المشاهد لاحقاً أنّ دورانتي كان متواطئاً مع الكرملين، وساهم في إخفاء حقيقة ما يجري مقابل حياة الرفاهية. دورانتي هو الوجه النقيض لجونز، في أسلوب الحياة وفي مبادئه كذلك. يفضل دورانتي مصلحته الشخصية بينما ينتصر جونز لحق الملايين في معرفة الحقيقة على حساب مصلحته وحياة ستة مهندسين بريطانيين احتجزتهم موسكو مقابل صمته.
لم ترغب الحكومة البريطانية في تصديق توقعات جونز عن هتلر. الإحباط نفسه يواجهه بعد عودته من الاتحاد السوفييتي عام 1933. يحثه جورج لويد على الصمت، وعندما ينشر ما شاهده في إحدى الصحف، يُعاد جونز إلى ويلز.
تقدم المخرجة صورة للكيفية التي تتعامل بها آلة الإعلام عند ظهور الحقيقة، باستعمال الأخبار المزيفة والدعاية. يبدو السياق مألوفًا بشكل مدهش، بلسان حال يقول: "ما أشبه الليلة بالبارحة!". لكن ثمة أمل ماثل في إصرار جونز على نشر الحقيقة حين يحاول مجددًا وينجح الصحافي الناشئ المستقل في التغلب على آلة الدعاية الكبيرة.
أضافت هولاند بُعداً فنياً عميقاً لقصة جونز، والنتيجة فيلم متقن من حيث الحبكة والرسالة. لكن الفيلم ليس عن الاتحاد السوفييتي ولا عن ستالين، ولا عن المجاعة الكبرى. إنه عن البحث عن الحقيقة كقيمة أخلاقية عليا، وعن قدرة الفرد العادي على مقارعة آلة الدعاية الهائلة. قيم كهذه استُكشفت كثيراً في الأدب والسينما، وفي أفلام سير ذاتية عديدة مثل: Truth، Spotlight ،The Post ،Mark Felt: The Man Who Brought Down the White House ،Official Secrets ،Snowden، وغيرها من الأفلام.
ينتهي الفيلم بمشد لجورج أورويل وهو يقرأ مقطعاً ختامياً من روايته "مزرعة الحيوان"، ثم بمشهد لجونز وهو يمضي قُدماً في الضباب، في دلالة على أن الوضع القاتم ما زال قائمًا، وعلى ضرورة استمرار النضال. وتُستكمل قصة جونز بسرد مكتوب في تتر الختام: قُتل قبل يوم من إتمام عيده الثلاثين، في أغسطس 1935، أثناء عمله كمراسل في منغوليا الداخلية (إقليم صيني) حين أقدم لصوص على خطفه وهو يتنقل برفقة مرشد سياحي على علاقة بالاستخبارات السوفييتية. بينما توفي دورانتي وهو في الثالثة والسبعين، في فلوريدا 1957. هكذا، يشير الفيلم إلى مصيرين مختلفين في إشارة أخيرة لا تخلو من دلالة.
في الفيلم الوثائقي Winter on Fire: Ukraine's Fight for Freedom، نشاهد نموذجًا لقوة المجتمع السلمي أمام بطش السلطة. يُظهر البوستر شموخ الفرد الأعزل في مواجهة جنود مكافحة الشغب المدجّجين بالسلاح. شهد مهرجان البندقية السينمائي الدولي الثاني والسبعون العرض الأول للفيلم. وحاز جائزة اختيار الجمهور لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي لعام 2015. الفيلم من إخراج يفجيني أفينيفسكي، ويصور قصة 93 يومًا، هي عمر ثورة الكرامة الأوكرانية في "الميدان الأوروبي" ما بين خريف 2013 وشتاء 2014.
اندلعت الثورة ضد الرئيس يانكوفيتش الموالي لروسيا واحتجاجاً على عنف الشرطة. تطورت من احتجاج على إيقاف الحكومة مشروع الانضمام للاتحاد الأوروبي إلى احتجاجات حول القيم الأوروبية. شعارات المحتجين تُظهر هذا الهدف: "أوكرانيا جزء من أوروبا". كذلك: "نقف هنا لإثبات أنّ أوكرانيا دولة أوروبية... ولأنّنا نحلم بمستقبل أفضل". وتكشف المطالبة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عن رغبة في الحرية والتخلص من بطش الدولة البوليسية.
جمع أفينيفسكي طاقمه من الناس، 28 مصوراً سينمائياً، إضافة إلى مشاركين وشهود عيان أرخوا للأحداث الدرامية والدامية أثناء تطورها في شوارع كييف. يأخذنا أفينيفسكي في رحلة الأمل المصحوب بالألم. لا يستعمل السرد التوضيحي إلّا قليلاً، وبدلًا من ذلك، يغمر مشاهديه بأصوات الساحة وبلقطات من الشوارع ومقابلات مع العديد من الثوار الذين عادوا إلى مسرح الأحداث: شباب، كهول، جنود، مدرسون، مهندسون، وأطباء... نشاهد تحولاتهم خلال مراحل مختلفة من الثورة، كالفتى البالغ من العمر 12 عاماً والذي بدا وكأنه يكبر أمام أعيننا على المتاريس.
تمكنت كاميرات أفينيفسكي من التقاط الروح الملهمة لمئات الآلاف من الأوكرانيين. يعارض الفيلم الدعاية التي تتهم الثورة بالعنف وتصفها بالانقلاب، ويُظهر قدرة الناس العاديين على التعبئة وإحداث التغيير، ويُبرز القوة الداخلية التي لا ندرك أننا نمتلكها إلى أن يوقظها حدث ما. كما يعكس إنسانيتنا ومطالبنا العالمية في الحصول على حكومة ديمقراطية ومجتمع عادل ولائق ومستقبل كريم. ينتهي الفيلم بنجاح الثورة، ليس بتغيير أوكرانيا فحسب، بل والعالم كما اتضح في ما بعد.
يبدو الفيلم محلياً، بالنظر إلى المكان، لكن ما يجعل موضوعه مهما للعالم هو النضال من أجل الحرية. في هذا السياق، تذكرنا أوكرانيا بالكثير الذي ينبغي فعله من أجل الحقوق المدنية والديمقراطية، وأننا بالتركيز على القيم سننجح في الجبهات التي تبدو مستعصية. ولعل فيلم شون بن الوثائقي القادم سيحكي لنا قصة انتصار هذه المبادئ مجدداً.