وسط صخب شديد وتوترات سياسية عارمة، محلياً وعالمياً، ورغبة عارمة في خلق توازن بين الفني والتجاري والسياسي، واجتذاب أكبر حضور مُمكن لنجوم هوليوود ونجماتها، نُظّمت الدورة الـ74 لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله)" بين 15 و25 فبراير/شباط 2024، الذي نجح المهرجان في اجتذاب بعض هؤلاء (تمثيلاً وإخراجاً) المعروفين بإطلالتهم ـ الجاذبة للأضواء وعدسات المُصوّرين ـ على البساط الأحمر، كمارتن سكورسيزي (الدب الذهبي الفخري) وعبد الرحمن سيساكو وبرونو دومون وهونغ سانغ سو، إلى كليان مورفي ("أوبنهايمر" لكريستوفر نولان)، وغايل غارسيا بيرنال وروني مارا وكريستين ستيوارت.
قبل حفلة الافتتاح، حصل توتر ولغط واحتجاج سياسي، غاب عنه 5 أعضاء من حزب "البديل من أجل ألمانيا"، اليميني الشعبوي، بعد قرار إدارة المهرجان، قبل أيام، سحب الدعوات المُوجّهة إليهم، لتضارب توجّهات الحزب مع سياسة المهرجان، الهادفة إلى خلق ساحة فعلية للحوار والاندماج والتسامح؛ وانصياع إدارته ووزارة الثقافة معاً للاحتجاجات المُناهضة للحزب وتوجّهاته في الشارع الألماني، والأوساط السينمائية والثقافية أيضاً. أمّا الافتتاح، فشهد عرض الفيلم الأيرلندي "أشياء صغيرة كهذه"، للبلجيكي تيم مْيَلان، تمثيل مورفي نفسه، مع إيميلي واتسون وأيلين والش وميشيل فيرلي.
إنّها المرة الأولى في تاريخ "برليناله" التي يُختَار فيها فيلمٌ في المسابقة الرئيسية ليفتتح دورة من دوراته، إذ يُختار فيلم الافتتاح عادة بعيداً عن أي قسم من أقسامه، أو من خارج المسابقة. كما أنّه ليس فيلماً أميركياً، كما جرت العادة. إنّه، أيضاً، أول فيلم أيرلندي يُعرض في الافتتاح، وتسود فيه أجواء أيرلندية، ولاختياره صلة وثيقة باحتفاء ألمانيا، كلّ العام الجاري، بالثقافة الأيرلندية، في إطار ما يُعرف بـ"روح العصر في أيرلندا 2024".
"أشياء صغيرة كهذه" مُقتبس من رواية بالعنوان نفسه (2021)، لكلير كيغان، الكاتبة والأديبة الأيرلندية المُرشّحة لجائزة "بوكر"، والمُساهمة في إنتاج الفيلم، علماً أنّ روايتها القصيرة "فوستر" (2010) مُقتَبسة أيضاً في "الفتاة الهادئة" (2022)، لكولم بيْريد، المُرشّح لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي (النسخة 95، 12 مارس/آذار 2023)، بعد عرضه في "أجيال" الدورة الـ72 (10 ـ 20 فبراير/شباط 2022) للـ"برليناله".
تدور أحداث "أشياء صغيرة كهذه" في أيرلندا، في ثمانينيات القرن الـ20: بِلْ فورلنغ (مورفي) أب مثالي ومُخلص، وهادئ الطباع، ومُحبّ لأسرته، ولمجتمعه عامة. يعمل في تجارة الفحم، فيكتشف صدفة حقائق صادمة حول "مغاسل المجدلية"، سيئة السمعة، فهذه مصحّات عقابية مُروّعة، أدارتها الكنيسة الكاثوليكية، باسم الدين، بين عشرينيات القرن الـ19 وعام 1996. هدفها الظاهري تقويم الشابات "الساقطات"، أو المُراهقات المنحرفات، وإصلاحهنّ. في هذه المغاسل، التي أدارتها وموّلتها الكنيسة بالتنسيق مع الدولة الأيرلندية، سُجنت نحو 30 ألف فتاة وامرأة أيرلندية، وفقاً للمذكور في العناوين الختامية.
تدور معظم الأحداث في فترة عيد الميلاد عام 1985. تدريجياً، مع التردّد الدائم لبِلْ على دير بلدته، "نيو روس" (مقاطعة ويكسفورد)، للحصول على أجولة الفحم، تتكشّف له الأسرار الصادمة، إذ يطّلع، من دون قصد، على بعض ما يحدث للفتيات داخل أسوار الدير، ويقف على المعاملة القاسية التي يلقوننها، ما يستدعي إلى ذهنه حقائق صادمة تخصّه شخصيا، تربطه بشكلٍ وثيق جداً بماضيه، وطفولته تحديداً.
لا يغرق تيم مْيَلان كثيراً في رصد قضية المغاسل، أو أمر الأديرة والراهبات، وقسوتهن وتنكيلهن بالفتيات، وغيرها من الأمور المعتادة، المُعالجة سينمائياُ من قبل. إذ سبق تناول قضية فتيات المجدلية، أو الفتيات اللواتي أُطلقت حولهنّ كلّ أنواع الشائعات المتعلّقة بالجنوح والانحراف والحبل من دون زواج، وإخفائهنّ أو التخلّص منهنّ لعقودٍ. فالمخرج يُلامس الموضوع من زاوية أخرى مُغايرة، تضعه قدر الإمكان في خلفية القصة، لتتمحور الحبكة حول بطل قصته، بِل فورلنغ، الحزين وشارد الذهن وقليل الكلام والانفعال، رغم أنّه كأب وزوج بالغ الرقّة والحنان والعطف، يُراقب بناته الخمس يكبرن بفخر وفرح. ورغم أنّ العائلة تملك مالاً قليلاً، إلاّ أنّ لديها ما يكفي للشعور بأنّها محظوظة جداً كعائلة مُتماسكة ومُترابطة.
تدريجياً، وعبر تقنية الـ"فلاش باك" المتكرّرة طوال الفيلم، للعودة إلى خلفية بِلْ والاطلاع على طفولته، تظهر أمور فظيعة تُزعج حاضره وحياته الشخصية، وإن تعمّد تيم مْيَلان التلميح إليها فقط، رغم أنّها تُفسّر الكثير عن أسباب حزنه وصمته وأرقه، وما سيُقدم عليه لاحقاً. لذا، لا يبدو الإجراء الذي يتّخذه بِل عرضياً، بل نتيجة تراكمات طويلة، ترجع إلى فترة الطفولة. مثلاً: والدته أنجبته خارج الزواج، عندما كانت تبلغ 16 عاماً، وكان يُمكن أنْ ينتهي بها الأمر بسهولة في أحد المغاسل المجدلية، ويكون مصيرها مجهولاً. لكنّ بِل ووالدته حَظِيا برعاية امرأة بروتستانتية ثرية، كانت تعيش خارج "نيو روس".
باحتكاكه الدائم بالدير، يتأكّد بِل من الظروف الرهيبة التي أجبرت الفتيات على العيش فيها، عندما يكتشف، ذات ليلة، فتاةً محبوسة في حجرة تخزين الفحم. فتاة حزينة ومُدمَّرة، بالكاد قادرة على المشي. تطلب مساعدته بشدّة، فتتعقّد القصّة قليلاً، وتبدأ الدراما في الحركة والتوتر، لاكتشاف كيفية تصرّف بِل، خاصة أنّ رئيسة الدير تحاول صرف اهتمامه بما يحدث داخل أسوار الدير، وحتى تقديم رشوة له كهدية عيد ميلاد لزوجته وبناته. كيف سيتصرفّ بِلْ؟ هل سيفعل الصحيحَ إزاء سكوت الجميع وتواطئهم، وحتى تحذيرهم له؟
يُشير الفيلم أساساً إلى تواطؤ المجتمع، الذي سمح باستمرار هذه الانتهاكات عقوداً طويلة. هذا مُرتبطٌ أيضاً بالشجاعة الأخلاقية، عند العيش في ظلّ حكم استبدادي، ويظهر الظلم واضحاً. ما يحدث في البلدة يراه ويعرفه الجميع، لكنْ لا أحد يقول شيئاً، ولا يجرؤ فردٌ على التحدّث ضد الكنيسة. بالتالي، تُصبح مقاربة الموضوع من وجهة نظر شخصٍ يرى الظلم، ويُكافح للقيام بشيءٍ ضده. في النهاية، يُمكن تفسير ردْ فعل بِل في ضوء حمايته لنفسه، والتغلّب على حزنه، ومواجهة ماضيه. كما أنّ الفيلم يحاول توضيح كيف أنّ التعامل مع الحزن، ومواجهة الماضي، والوقوف في وجه الظلم والتمرّد عليه، رغم العواقب، يجعل المرء أقوى وأنضج، وأكثر تسامحاً مع النفس، وتقبّلاً لها، وأكثر رغبة في مواصلة الحياة والاستمرار من دون مُنغّصات كثيرة.
في "أشياء صغيرة كهذه"، حاول المُخرج تيم مْيَلان إيصال كل شيءٍ من خلال الكاميرا والصورة، والتركيز الشديد على قسمات وجه كليان مورفي وتعبيراته، والإفراط في اللقطات المُقرّبة جدًا، لإطلاع المُشاهد على ما يدور في ذهن الشخصية وعذاباتها، ما جعل مورفي لا يغيب عن أي لقطة، تقريباً. هذا ربما تكون له نتيجة عكسية على التلقّي العام للفيلم وفنيّاته، لا سيما أنّ اللجوء المُفرط أيضاً إلى تقنية الـ"فلاش باك"، كانت له تبعات مزعجة، أعاقت تدفّق السرد بعض الشيء، ولم تُعمّق جيداً من الشخصية وأبعادها.