تتطلب كتابة فيروز كراوية منا أن نمعن النظر في ما نريده من الكتابة في مجال الموسيقى. فكتابها، "كل دا كان ليه: سردية نقدية عن الأغنية والصدارة" (دار ديوان للنشر، 2022)، ليس تأريخاً صافياً إن أردنا بذلك أن ننظر إلى تواريخ إنتاج الأغاني والأفلام، أو إلى قصة حياة فلانة أو علان، أو تحقيق مخطوطات قديمة منسية. كما أنه ليس تدريساً وتصنيفاً للقوالب التي تحولت إلى هياكل مدرسية مفرغة، أو إلى نقاش في أصولها أو في المقامات وسيرها، وهو فوق ذلك ليس نقداً موسيقياً إذا فهمنا النقد على أنه انتقاد نقاط الضعف في منتَج ما، أو على أنه وضع القطع على المحك لفرز غثها من سمينها.
لكنها كتابة تستغل كل ذلك وأكثر من مناهج وأدوات علم الاجتماع والأداء والثقافة الجماهيرية والشعبية، للنظر إلى التحولات التي عرفتها الأغنية في مصر بالدرجة الأولى، مضاءً عليها أحياناً من خلال مقارنتها بما جرى في الفضاء الثقافي العربي نفسه، سواء في لبنان أو الجزائر أو المغرب، أو غيرها.
ما تقترحه كراوية، إذن، هو كتاب من شقّين؛ الشق الأول ملاحقة تحورات الأغنية المتصدرة، المينستريم كما تكتب أحياناً، على مدى قرنٍ ونيف من الزمن؛ من نهايات القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن الحادي والعشرين. أي من نهايات عصر العوالم إلى حقبة الراب والمهرجانات، مروراً بالانتصار الكاسح للطقطوقة بعد ازدهار المسرح الغنائي، ثم ظهور أغنية وقوالب جديدة مع محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي وملحني الست أم كلثوم، وانتقالاً إلى السينما والإذاعة، ثم فترة الغناء في ظل النظام الناصري، فصعود غناء قادم من الأطراف والهوامش و"الشعبي"، في موازاة انحسار ما سمي بعصر الوسط، أمام النجوم الشباب الذين صنعهم حميد الشاعري، أو صنعوا أنفسهم بأنفسهم كعمرو دياب، وأثر الشاشة والفيديو كليب على المغنيات وصورهن.
والشق الثاني هو متابعة الأسباب التي جعلت هذه التحورات في من هو المتصدر ممكنة، بل شبه "محتومة". وأقول "شبه" محتومة لأن مضمون الكتاب يشدّد باستمرار على أن النتيجة النهائية في سباق الصدارة، كانت دائماً حصيلة مفاوضات وشدّ وجذب وتعاونات ومواءمات بين عوامل كثيرة، وغير ثابتة، ولم يكن لها بالضرورة أن تؤول إلى ما آلت إليه، لولا تلاقي كل هذه العوامل عند أشخاص بعينهم تفاعلوا معها، ببعد النظر أو بقصره، لخدمة ما رأوا فيه مصلحتهم ومساحة قدرتهم على الإنتاج الفني.
لكن هذا يستتبع سؤالاً عن المقصود بالصدارة، أو المينستريم، وهو مفهوم غير معرّف في الكتاب وربما في أي مكان آخر. فهل هي الاستئثار بالعائدات المالية والحصة من السوق؟ ليس بالضرورة، فكما تشير الكاتبة، فإن المردود المالي لنجوم الراب والمهرجانات ليس بالضرورة مرتفعاً، عدا استثناءات قليلة، لكونه مرتكزاً على سوق إنترنتية متقلبة وغير مضبوطة مالياً، فضلاً عن حصص القرصنة منها. أم هي التفوق في المهارة الفنية والإجادة؟ وهل كان عبد الحليم حافظ ونجاة، أو في زمن آخر كاظم الساهر أو نانسي عجرم، أفضل المؤدين وأكثرهم حظاً من التقنية وخامة الصوت والمعرفة بأسرار الموسيقى؟ أم هي في الشعبية والانتشار؟ وهل يمكن فعلاً أن نظن بأن أحداً من المغنين الشعبيين لم يكن يمتلك انتشاراً ومحبة لدى أكثرية الشعب، بما في ذلك الشعب خارج القاهرة، على مدى عشرات السنين حتى ظهر أحمد عدوية؟ أم هي في سَيْر المغني والمغنية في "اتجاه التاريخ الصاعد"، على ما قد يقول بعض الماركسيين القدامى فكيف يمكن عندها أن نعتبر نجاح حميد الشاعري صعوداً وفي أي اتجاه؟ أو أن نحسب الصدارة مرتبطة بالموقف السياسي لصاحبها، بينما هي انتقلت بين متقلبين تجاه الأنظمة (كأم كلثوم وعبد الوهاب) إلى مترفعين عن السياسة (كالرحابنة وفيروز) إلى مُدلّهين بحب عبد الناصر (كعبد الحليم حافظ) أو معارضين طالعين من زنازينه (كالشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم)، أو إلى من يثيرون التعاطف بقصة بلدهم المنكوب (كاظم الساهر) أو من لا يشيرون لا من قريب ولا من بعيد إلى أزمة أو نكبة، بل يعرضون علينا حياة من احتفالات وبهجة لا تنقطع (كنانسي عجرم ومثيلاتها)؟
ربما لا نستطيع إذن الإمساك بمفهوم الصدارة هذا (وأفضّله على مينستريم (Mainstream)، إذ تشير Main إلى المتن فتفترض هامشاً هو خارجه، بينما الصدارة تفترض وقوف الكل على مسرح واحد من حيث المبدأ هو مسرح الإنتاج الفني وعرضه على جمهور ما) إلا بتعريف شبه دائري: الصدارة هي ما ينتجه أصحاب الأدوات التي تحدد المتصدر، أو بتعريفٍ آخر يتقاطع معه من دون تطابق مطلق، الصدارة هي أن يكون الإنسان عَلَماً على زمنه.
وكي يكون المرء علماً على زمنه، فإن هذا يفترض أنه يجمع في مسيرته وفي نفسه تقاطعَ المسارات الأكثر تحديداً لهذا الزمن، والأقدر على منحه سمعة البقاء في الزمن اللاحق، صورة لعصر كامل، بنوع جمالياته الفنية ومستوى قدراته الإنتاجية ووسائط انتشاره وأماكن استهلاكه، فضلاً عن اختيارات المرء الذاتية، واعية أو غير واعية، في شأن ما يشاء عكسه من مناحي المجتمع المتعددة والمتعارضة أحياناً.
بمثل هذا، يمكن القول إن العوالم والمشايخ علامات على زمن ما قبل الحرب العالمية الأولى، مثلما أن أم كلثوم الريفية المحافظة وعبد الوهاب المديني المتحرر، علامتان على ما بعد ثورة 1919، ومن ثم التحديث الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في مصر، بل والتقني من حيث إدخال تقنيات الإذاعة والسينما وأثرها في فنهما... إلخ.
إذن، انتقلت الصدارة، من كونها مرتبطة بالعلم والصوت (الصييت) العالي القادر على إسماع سرادقات مفتوحة وجمهور غزير، ومن كونها مرتبطة بمجموعة من الموسيقيين المحترفين، أو أنصاف المحترفين الذين قرروا أيضاً مَنْ هم الأولى بالتسجيل على الأسطوانات، كأول وسيط لانتشار أوسع من الحفل المباشر، إلى كونها مرتبطة بصورة الرجل والمرأة في عصر اجتماعي وسياسي جديد، كما تشير كراوية في رصدها أثر اختلاط الاستماع في الحفل، أو إلى الأسطوانات على مضمون الكلام، ومن ثم على ذكاء أم كلثوم في صياغة المساحة التي تسمح لها بأن تكون الأكثر محافظة اجتماعياً، فيما يقودها القصبجي في مغامرات موسيقية هائلة الأبعاد، أو ذكاء عبد الوهاب في عبوره مختلف الطبقات الاجتماعية، وحصوله على القبول منها جميعاً ولفترة مدهشة الطول.
ثم كانت السينما، وهنا أيضاً تدرس فيروز كراوية بدقة الصورة الطبقية التي حرصت أم كلثوم على رسمها لنفسها كفتاة محافظة من أصول متواضعة، تنطلق لمواجهة عقبات الحب الممنوع، وتظل محافظة على عفافها، في مقابل المجتمع الأكثر انفتاحاً واختلاطاً وتعدداً الذي تتحرك فيه شخصية عبد الوهاب في أفلامه. كان لدخول الأسطوانة، إذن، ومن ثم السينما والإذاعة أثر حاسم، بالأخص مع انهيار المسرح الغنائي، على من يمكن له أن يحتل الصدارة، لكن ذلك لم يكن بمعزل عن الذكاء الخاص والمهارة التي قاد بها عبد الوهاب أو أم كلثوم مسيرتهما في ظل وجود أصوات أخرى لا تقل عنهما مهارة وقدرة كفتحية أحمد مثلاً.
وبعد أن كانت الشركة المنتجة للأسطوانة، أو للفيلم، مدعومة بالكتاب والمجلات التي تنشر الإعلانات وصور المطربين والمطربات وتقرظ أعمالهم، عاملاً حاسماً في إنتاج القدرة على المنافسة من أجل الصدارة، وهو ما قاد فنانين مثل عبد الوهاب ومحمد فوزي إلى امتلاك أو إنشاء شركات إنتاج بأنفسهم، تحولت الصدارة في ظل نظام 23 يوليو الذي استعمل التأميم والرقابة والسيطرة على الإذاعة كأدوات لإنتاج صدارة موالية له تلمّع صورته وتنشر أفكاره ومواقفه.
أنتج النظام بالطبع جيشاً من الكتاب والملحنين والمغنين القادرين على إنتاج عشرات الأغنيات وتسجيلها في أيام معدودات متى دعت الحاجة. لكن الصدارة ارتبطت، ليس فقط بإرادة النظام، ولكن أيضاً بالأداة الحاسمة التي استعملها على حد سواء عبد الناصر وعبد الحليم، أي الميكروفون، وهو ما لم يغب عن ذكاء عبد الوهاب الذي امتلك ناصية استشراف النجوم، والقدرة على المشاركة في صناعتهم، كضمانة ألا تغيب شمسه مطلقاً حتى آخر يومٍ من عمره المديد. وبعد هزيمة 67 المنكرة، تراخت قبضة النظام، فظهرت أغنية سياسية متوازية مع شبيهات لها، أو سابقة لهم بقليل، في الشام ولبنان والمغرب العربي الكبير في السبعينيات، ومتكئة على تراث من الأغنية الوطنية سابق على تلك التي أنتجها النظام لنفسه.
لكن، مرة أخرى، لا يكفي التفسير بالعامل السياسي؛ إذ لم يكن لأغنية الشيخ إمام مثلاً أن تنتشر لولا ثورة الكاسيت، وهي نفسها الثورة التي سمحت لفنانين "شعبيين" مثل أحمد عدوية أو طالعين من أقاليم بعيدة، كمحمد منير النوبي، أو من محاولات خارجة عن السياق العام للأغنية المصرية آنذاك، كالفرق الجماعية البعيدة عن النجومية الفردية والمقتربة بشدة من الموسيقى الغربية.
لا يمكن بالطبع مجاراة الكتاب في الملاحقة المفصلة التي يجريها للتغيرات الاجتماعية والسياسية المحيطة بالمشهد الموسيقي، وكذلك بتطور وسائط الإنتاج الموسيقي (من الأسطوانة إلى الكاسيت فالسي دي والفيديو كليب، وانتهاء بفيديوهات يوتيوب أو تسجيلات ساوند كلاود)، وارتباط كل ذلك بالخطاب المتاح للمرأة أو الممنوع عليها في المجتمع والرقابة "الدولتية" أو الدينية على المنتَج الموسيقي الحساس لكل ذلك. ولكن، يكفي الاختتام بالإشارة إلى دور الفيديو كليب وأساليب تسجيل الموسيقى الأحدث في شهرة مغنين ومغنيات، مثل عمرو دياب وهيفا وهبي ونانسي عجرم، ومن شابههم، وإلى ثورة الإنترنت بالتوازي مع ثورة يناير 2011، في إنتاج مشهد موسيقي متغيّر تحضر فيه الموسيقى الإلكترونية بأدوات أبسط وأرخص تقنياً، وانتشار أسرع وأوسع لأطياف متعددة من الأنواع الموسيقية، حيث لأول مرة تتجاور في الأسماع أصوات الراب والتراب والمهرجانات والأغنية البديلة وأغاني المواقف السياسية.
يشير الكتاب، إذن، إلى أن العوامل المحددة لماهية الصدارة ولمن يمكن له أن يمتلكها، مؤقتاً، لا تكف عن التغيّر (القدرة المعرفية، القدرة الاقتصادية على الإنتاج، الدعم السياسي، التواؤم مع الوسيط التقني الأحدث، القدرة على بناء الصورة في عصر المشهد، أو الترند في عصر الانتباه، رغبات المتلقين وتجاوبهم أو رفضهم... إلخ)، وكل ذلك لا ينفك عن التقاطع مع مسار وقدرات وذكاء الفنان أو الفنانة، والسرعة في التقاط هذا المتغيّر والبناء عليه، بدل الانحصار في خطابات يكون زمانها قد فات. كل تغيير ونمو في المشهد الموسيقي يحدث من الوسط، من منتصف التقاطعات وتحوّلاتها ومن التوسّط بين علاقات وعوامل متعددة، وليس محكوماً بمعيار أوحد.
الصدارة إذن، كالبقاء، هي للأصلح دلالة على زمنه، لا للأقوى صوتاً أو مهارة أو علاقات اجتماعية. وهي بذلك ليست مفهوماً فنياً يصلح لمنح علامات التفضيل في الذائقة أو على مقياس الطرب أو الجودة الفنية. هذا لا يعني أنها ليست مفهوماً نقدياً! لكنه نقد ينظر إلى الأغنية كنتاج مجتمع كامل، بل وينظر إلى الموهبة الفردية أنها أيضاً نتاج حَدْب مجتمع كاملٍ عليها، فيرى في بلّورة الأغنية الخيوط المتعددة التي تشدها إلى مختلف نواحي الحياة (المال، المعرفة، السلطة، الذكاء الاجتماعي، التقنية، الخطاب المهيمن، الجندر)، ويتأنّى في النظر إليها حتى تتكامل أمامه كل المصادر التي تنطلق منها هذه الخيوط.
هو نقد يسمح بألا نعزل المنتَج الموسيقي إلى عناصره المتفرقة (اللحن، الصوت، الكلام)، بل أن ننظر إليه في اكتمال هذه العناصر مرتبطة بكامل المجتمع الذي يحيطها وأدواته وتاريخه. وهو أخيراً نقد يضيف إلى معرفتنا بالموسيقى معرفة بالمجتمع الذي أنتجها، مثلما يتخذ الموسيقى علامة ودليلاً لفهم هذا المجتمع والإشارة إلى مسارات القمع التي يفرضها ومسارب الفكاك منها أو التفاوض معها. وهل أبقى من أغنية علامة على عصر، وبالتالي دليلاً إليه وعليه إذا ما أجدنا استقراءها؟
وهو آخراً نقد يشكّل في ذاته علامة على عصره، متوازياً مع تشظّي الخطابات والوسائط وتعدد الأنواع الموسيقية المسموعة في عصر الإنترنت؛ إذ لا يحتكم إلى فكرة واحدة أو أداة واحدة، بل يسعى إلى التركيب والمواءمة بين ما يستعيره من التاريخ وفنون الأداء ودراسات ما بعد الحداثة والشعبية، فضلاً عن الموسيقى بطبيعة الحال واقتصادها. وهو نقد لا يزعمُ أن من الواجب الإقرار له بالسيادة واحتكار كل المساحة المتاحة ولا يدعي فرض معياره فيصلاً أوحد.
بعد مدى قرنٍ ونيّف، انقضى معظمه في إطار سلطات مركزية وفي ظلّ منطق اجتماعي يفترض أن الصدارة هي إقصاء المنافس بالكامل، كمثل إلقاء الماضي بأكمله تحت لفظ الجاهلية وكأنها مبتورة الصلة بما بعدها، أو منطق أبي فراس الحمداني في رفض التوسّط والتشديد على أن "لنا الصدر، دون العالمين، أو القبر"، وعلى العكس من كل ذلك تلاحظ فيروز كراوية أن "القمة في هذا العصر"، أي عصر الانتقال من الاستهلاك الجماهيري إلى "الإنتاج الجماهيري"، "ليست مدببة تضم عدداً محدوداً من النجوم الذين تدوم شهرتهم لعقود"، بل أصبحت قمة متسعة لأعمال أكثر وأنماط متعددة، وإن تكن أقصر زمناً.
هكذا النقد أيضاً في حاجة إلى توسيع إطار رؤيته وتنويع أدواته، كما هو في حاجة إلى القبول بأن أنواعاً أخرى من النقد ضرورية ولا نزال في مسيس الحاجة إليها. كتاب فيروز كراوية، لحسن حظ قارئه، نقد على قمة متسعة، ودودة ومرحّبة.