غزة في قلب السينما

09 سبتمبر 2024
المخرج الغزّي رشيد مشهراوي (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **الفنون والتفاعل مع الأحداث التاريخية:** بيكاسو رسم "غورنيكا" بعد قصف بلدة غورنيكا، وكتب محمود درويش "مديح الظل العالي" خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان. إنتاج فيلم عن المحرقة النازية في غزة يتطلب وقتاً وتمويلاً كبيرين.

- **السينما المصرية وحروبها:** السينما المصرية أنتجت أفلاماً عن حربي 1967 و1973 بفضل الدعم السياسي، لكن الحالة الفلسطينية تفتقر للدعم المؤسسي والسياسي اللازم للإنتاج السينمائي.

- **مبادرة رشيد مشهراوي:** أطلق رشيد مشهراوي مبادرة لدعم الشبان في غزة لإنتاج أفلام قصيرة، لكن غياب الدعم المؤسسي يحد من انتشارها. يمكن لقنوات التلفزة العربية دعم هذه الأعمال وعرضها على نطاق أوسع.

انتهى بابلو بيكاسو (1881 - 1973) من رسم لوحته الأكثر شهرة، "غورنيكا"، في منتصف يونيو/حزيران 1937، أي بعد أقل من شهرين من قصف المقاتلات الحربية الألمانية والإيطالية بلدة غورنيكا خلال الحرب الأهلية الإسبانية. وكتب محمود درويش "مديح الظل العالي" خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، غير أن ما تيسّر لبيكاسو ودرويش لا يمكن أن يتحقق ويحدث لسينمائي يرغب في إنتاج فيلم روائي، أو حتى وثائقي، عن وقائع المحرقة النازية التي تتواصل في قطاع غزة، فطبيعة الفنون الغنائية تختلف عن التركيبية، والأخيرة تحتاج وقتاً أطول، وتتطلب فرقاً عاملة وتمويلاً كبيراً، كما أنها تمر بمراحل إنتاج عديدة، ما يتطلب وقتاً أطول من ذلك الذي تتطلبه جدارية تشكيلية أو شعرية.
نقول هذا في نقاش من يرغب ويطلب ويلحّ ويلوم ويتهجم على الفنانين والكتّاب ويرى أنهم تغيّبوا، وأن تغيّبهم موقف سلبي، وأن المحرقة لا تجد روائياً أو سينمائياً يرتقي بعمله إلى مستواها، ما يعكس سوء فهم لطبيعة الفنون، ويقصر دورَها على الوظيفي لا الجمالي، ما يهدر الفن نفسه ويضر بالموضوع الذي يقاربه، وذاك حرث في بحر.
انشغلت السينما المصرية أكثر من سواها بحربي عام 1967 وعام 1973 وما بينهما من حرب استنزاف، وما سبقهما من مقدمات أفضت إليهما. أُنتجت عشرات الأفلام التي تتناول تلك المرحلة، لكن ذلك حدث متأخراً سنوات عدةً عن زمن الحدث نفسه. وتعود غزارة الإنتاج المصري آنذاك إلى إرادة سياسية كانت تتعامل مع الفنون باعتبارها مجهوداً حربياً، ما جعل هذه الأعمال تحظى بدعم سخي، إضافة إلى أن حيوية المجتمع المصري في حينه والخصب الأدبي، الذي عكس رد فعل المجتمع والنخب على الهزيمة والرغبة في تجاوزها، وفّر نصوصاً أدبية بعضها رفيع المستوى للسينمائيين، ومنها مثلاً "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ التي أعاد المخرج حسين كمال والسيناريست ممدوح الليثي تكييف أحداثها لتعبّر عن حال مصر غداة حرب عام 1967، رغم أنها كُتبت قبل الحرب بعام واحد.
على أن التجربة المصرية لا تنسحب أو تنطبق على الحال الفلسطيني في معاينة انتقالاته الكبرى سينمائياً، فلا دولة في الحالة الفلسطينية لتموّل وتنتج ولو من خلف ستار، ولا سياق عريضاً تتحرك فيه النخب الفلسطينية على الصعيدين السياسي والإبداعي، تكون فيه الفنون جزءاً تأسيسياً من حراكهم، وهو ما كان متوفراً في زمن صعود المقاومة الفلسطينية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، قبل أن يبدأ بالتآكل في مطلع السبعينيات، حتى وصل الفلسطينيون إلى ما وصلوا إليه في أيامنا هذه.
من هنا تأتي أهمية مبادرة المخرج الغزّي، رشيد مشهراوي، القائمة على دعم الشبان في غزّة على إنتاج أفلام قصيرة، روائية أو توثيقية، التي أعلن عنها بعد نحو ثلاثة أشهر من العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، وتكشف مبادرته "من مسافة الصفر" فداحة غياب المؤسسة الفلسطينية، وعسر العمل الفردي ونخبويته، فعرض إنتاج مبادرات كهذه يقتصر على المهرجانات، ولا مكان لها في دور السينما وقنوات التلفزة العربية، وعندما تعرض في المهرجانات فإنما على سبيل التشجيع والتضامن مع الفلسطينيين، أي أن التعامل معها يكون بسبب دور وظيفي مفترض لها، ما يهدر فرصة أن تكون محرقة غزة في قلب الفن لا على هامشه، وهو ما يبدو أن مشهراوي يعيه ويسعى للتحايل عليه، وقد فعله من خلال مشاركته والسينما الفلسطينية في مهرجان الجونة الأخير نهاية العام الماضي، حيث خصص المهرجان مساحة خاصة للفيلم الفلسطيني تحت عنوان "نافذة على فلسطين"، عرضت خلالها أفلام فلسطينية أو ذات موضوع فلسطيني سابقة على حرب الإبادة الحالية.
كيف يمكن تجاوز حالة الانسداد هذه التي تعوّق وصول غزة سينمائياً إلى العالم؟ ربما يكون لقنوات التلفزة العربية دور حاسم لتعويض غياب الدولة الفلسطينية الداعم وتردد شركات الإنتاج، لشراء الأفلام القصيرة التي ينتجها غزّيون بإشراف مشهراوي أو بجهودهم الذاتية، وهذا قد يوفر دعماً يحتاجه هؤلاء لتجويد أعمالهم وعرضها، لا في المهرجانات وحسب بل على شاشات تحظى بمشاهدات عالية أيضاً، وإذا حدث هذا فقد نسمع قريباً عن مشاريع حقيقية لإنتاجات كبرى تضع محرقة غزة في قلب السينما في العالم لا التعاطف الإنساني فقط.

المساهمون