استمع إلى الملخص
آرا غولر، الفنان التركي الأرمني، وثّق تاريخ إسطنبول منذ الخمسينيات بعدسته، ملتقطًا التغيرات الاجتماعية والعمرانية والمعالم التاريخية والشخصيات البارزة، مما أكسبه لقب "عين إسطنبول".
- مسيرة مهنية عالمية وتأثير واسع
بدأ غولر في "يني إسطنبول" عام 1950، وحقق شهرة عالمية كمصور صحافي في مجلات مثل "تايم لايف"، وانضم إلى "ماغنوم فوتوز"، وافتتح معارض عالمية، مما جعله من أبرز المصورين.
- فلسفة التصوير والإنسان في قلب الصورة
آمن غولر بأن التصوير توثيق للواقع، مركزًا على الإنسان كعنصر مركزي، ورفض الصور السياحية النمطية، مفضلًا تصوير الحياة الحقيقية بصدق وعمق.
تستطيع الصورة الفوتوغرافية أن تخلد لحظة تاريخية إلى الأبد بدلاً من هروبها الأكيد نحو الماضي. استطاع الفنان التركي ذو الأصل الأرمني آرا غولر (1928- 2018) اقتناص هذه اللحظات ورصد لنا عبر صوره المدهشة مدينة إسطنبول منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى بدايات القرن الحالي. وعكست صوره الإسطنبولية جانباً كبيراً من تغيّر المدينة الاجتماعي والعمراني، فضلاً عن توثيق المعالم التاريخية التركية، وقبل هذا وذاك، صور شخصيات مرّت في تاريخ تركيا أو قصدها هذا الفنان لإجراء حوار صحافي معها.
على خطى آرا غولر
أتاح لي المعرض المقام في متحف الفن الإسلامي في الدوحة (على خطى آرا غولر: بصمة مصور) الغوص في عالم هذا الفنان الذي سُمّي بـ"عين إسطنبول" لأنه صوّر مدينة إسطنبول بكل أحيائها الراقية الجميلة وأحيائها الفقيرة المعدمة، والتقط نبض الحياة الدائم فيها. كان أول مصور نبه الصحافة التركية والغربية إلى مخزون بلاده الغني من الآثار، فنشر صوره عن آثار تركيا مثل صوره البديعة لمدينة أفروديسياس وجبل أرارات وجبل نمرود. ومنها ما لم يكن قد صور قبله كصور مدينة أفروديسياس. قادني هذا المعرض الذي ضمّ 155 صورة له لقراءة المزيد عنه والاطلاع على كتبه المختلفة، لا سيما كتاب (أساطير الدنيا السبع)، وهي مجموعة صور ملتقطة لسبع شخصيات مهمة في العالم. يقدم المعرض فرصة ثمينة لمشاهدة فيلم (نهاية بطلة)، وهو من كتابة غولر وإخراجه، حيث يروي فيه قصة تفكيك الطراد الحربي العثماني ياووز، الذي كان له دور محوري خلال الحرب العالمية الأولى.
مسيرة حافلة
وُلد فناننا في حيّ تقسيم بمدينة إسطنبول لأبوين من الطائفة الأرمنية، أمه من عائلة أرمنية إسطنبولية، وأبوه من منطقة شيبنكار حصار على البحر الأسود، ولكن الوالد الصيدلي لم يعرف سوى إسطنبول. يقول غولر عن نفسه في فيلم موجود على موقع آرا غولر الرسمي: "نحن أبناء جمهورية أتاتورك". تأثر غولر خلال مراهقته بالسينما، حيث عمل في استوديوهات الأفلام، وبدأ بتلقي التدريب على كتابة الدراما والتمثيل على يد والد السينما التركية محسن أرطغرل، فقد أراد أن يصبح كاتبًا مسرحيًا أو مخرجًا. بدأ بنشر قصصه القصيرة ومقابلاته في المجلات الأدبية والصحف الأرمنية، ثم التحق بكلية الاقتصاد في جامعة إسطنبول، لكنه قرر أن يصبح مصورًا صحافيًا فترك الجامعة. بدأ حياته المهنية عام 1950 في صحيفة يني إسطنبول (إسطنبول الجديدة). عمل مراسلًا ومصورًا صحافيًا للشرق الأدنى لدى مجلات تايم لايف وباريس ماتش وشتيرن، وانضم إلى وكالة ماغنوم فوتوز. وزعت وكالة ماغنوم فوتوز مقابلته المصورة عن سفينة نوح على أكثر من مائة مطبوعة.
في عام 1961، أدرجته مجلة التصوير الفوتوغرافي البريطانية السنوية واحدًا من أفضل سبعة مصورين في العالم. وفي العام نفسه، قُبِل في الجمعية الأميركية لمصوري المجلات (ASMP). في عام 1962، حصل على لقب Master of Leica في ألمانيا. في العام نفسه، خصصت مجلة Camera، أهم مطبوعة في عالم التصوير الفوتوغرافي في ذلك الوقت، عددًا خاصًا له. دُعي إلى الولايات المتحدة الأميركية، وبعد التقاط صور للعديد من المشاهير الأميركيين، قدم معرضه بعنوان "الأميركيون المبدعون" في العديد من مدن العالم. افتتح مئات المعارض في جميع أنحاء العالم، ونشر عشرات الكتب، وبعد وقت قصير من عيد ميلاده التسعين، توفي في إسطنبول.
الآثار بعدسة غولر
يتحدث عن بداياته في عالم التصوير حيث زار مدينة أفروديسياس ويقول: "كانوا يستخدمون أبواب ورؤوس الأعمدة الرومانية طاولات، لقد رأيت هذه الأعمدة موجودة بصفة أساسات لمقهى بسيط، لقد أصابني الجنون، وجدت نفسي في عالم اختلط فيه الماضي بالحاضر، لم أتمكن من تحديد العصر الذي عشت فيه. من جهة، كنت أعيش في القرن العشرين، ومن جهة أخرى قد يكون القرن الخامس عشر أو قبل ذلك في الفترة الرومانية، إنها حالة غريبة". عرض تلك الصور على الصحافة المحلية، وقال مفاخرًا إنها الصور الأولى لهذه المدينة، فقوبل بالاستهزاء، وسمع كلاماً من نوع "نعرف أسلوبك، إطلاق النار على أشياء سخيفة مثل الحجارة". ثم أرسل الصور إلى مجلة بريطانية رائدة في مجال الهندسة المعمارية هي The Architectural Review ونشرت المجلة التحقيق في عشر صفحات.
تسلق آرا جبل أرارات مع أصدقائه للتخييم، وكانت معهم أربعون بغلًا، والتقط صورة لسفينة نوح من قمة الجبل. لم يكن مكان السفينة على قمة أرارت، بل على قمة (تينددريك) على ارتفاع أربعة آلاف متر. استكمل غولر تصويره البديع للآثار في جبل نمرود، حيث كانت البعثة الأثرية هناك متحفظة بنشر اكتشافاتها، وكان المسؤولون الأتراك يخشون تهريب بعض آثار المنطقة، فقام هو بتوثيق المكان.
أعمدة العالم السبعة
صوّر غولر العديد من مشاهير العالم، فضلاً عن معظم الشخصيات السياسية والأدبية والفنية في بلاده، وظل مواظباً على هذه العادة حتى وفاته. يروي كيف ذهب برفقة صديق له من سويسرا إلى منزل بيكاسو، حيث قال لصديقه الذي كان على موعد مع الفنان الإسباني بيكاسو: "إذا ذهبت إلى بيكاسو من دوني، سأقتلك". وحين بدأ بالتقاط الصور لبيكاسو، سأله الأخير: لماذا تلتقط صوري من دون توقف؟ أجاب غولر: لأنك مشهور. قال: "حسنًا، دعني أرسم لك صورة في المقابل". قلت في سري: "يا ولد! أعظم الرسامين في العالم سيرسم لك صورة".
بالإضافة إلى بيكاسو، التقط غولر صورًا يفخر أي صحافي بالتقاطها، وقائمته طويلة تشمل: أرنست هيمنغواي، ويليام سارويان، ألفريد هيتشكوك، فيديريكو فليني، صوفيا لورين، مارلون براندو، داستن هوفمان، تيسني وليامز، سلفادور دالي، الفنانة التشكيلية التركية فخر النساء زيد، أراغون، جون بيرغر، أرنولد توينبي، جاك بريفيرت، أنديرا غاندي، ونستون تشرشل، ناظم حكمت، يشار كمال، سيمون دي بوفوار، جان بول سارتر، برتراند رسل وغيرهم.
لقد تميز غولر بقدرته على التقاط صور تعكس عمق الشخصيات وتفاصيل عفوية أظهرت بُعداً مختلفاً من حياة هؤلاء المفكرين والقادة، واللافت أن هذه الشخصيات كانت تمتثل للأوضاع والحركات التي يريدها منهم لالتقاط تفاصيل حياتهم وإبداعهم.
يروي غولر: "لقد أرسلت رسالة إلى تشارلي تشابلن، لكنني لم أتلقّ أي رد منه. فذهبت إلى منزله وتحدثت مع زوجته. كان مشلولًا. لم يكن يريد أن يقف في هذه الحالة. لقد كان أينشتاين ميتًا بالفعل. لكن لحسن الحظ، تمكنت من إطلاق النار على بيكاسو. حتى إن بيكاسو رسم لي صورة. ودالي أعطاني الجحيم. لقد نقر عليّ، كما فعل مع الجميع. لكنني لم أستسلم، لم أستسلم قَط! المصور الصحافي لا يستسلم".
بدءًا من الرئيس التركي الثاني عصمت إينونو، أجرى غولر مقابلات مع جميع القادة السياسيين الاتراك والتقط صورًا لهم. وكان أحدهم الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان: "أعرفه منذ أن كان عمدة إسطنبول. لقد نشأنا في الحيّ نفسه. لقد صوّرته عندما كان رئيسًا للبلدية وفي أثناء دخوله السجن".
المعمار سنان
نشر غولر كتابًا مصورًا عن آثار المعمار سنان الذي بنى مئات المباني في إسطنبول وأرجاء الإمبراطورية العثمانية، ومنها مسجد السليمانية في إسطنبول، ومسجد السليمية في أدرنة، والتكية السليمانية في دمشق، ومدرسة الخسروية في حلب وتوسعة المسجد الحرام في مكة. يصف المعمار سنان بأنه "سيد الضوء وسيد بناء الجدران حيث يضيف إليها نوعًا من الجلال، عمارة سنان عالم منفصل عن هذا العالم يصلك بالأبدية حيث تشعر بالراحة وبالقوة معًا".
فلسفة الصورة
عمل غولر مصورًا صحافيًا، والتقط صورًا مختلفة، ومنها صور الحروب في فلسطين، الفيليبين، إثيوبيا والسودان. كان يملك رؤية خاصة، فهو يرى أن فن التصوير ليس سهلًا، ويقول: "هل تعتقد أن التقاط الصورة لا يتطلب سوى الكاميرا؟ لا، قبل كل شيء يأخذ القلب. أصور الحياة، وأتعامل مع مشاكل الجنس البشري. أصور حياة الناس ومشاكلهم". لذا، فالتصوير عنده ليس فنًا يعتمد على الخيال، بل "حدث تاريخي، يمكنك إيقاف التاريخ باستخدام آلة، الفن يمكن أن يكذب، لكن التصوير الفوتوغرافي يعكس الواقع فقط".
لقد التقط غولر ووثق المباني التاريخية، ولكن برفقة الإنسان، فالإنسان عنده هو المركز، ولذلك لم يكتفِ بتصوير المباني العثمانية الجميلة والأنيقة في إسطنبول، بل دخل إلى عمق الحياة الشعبية التركية، فصور من خلال مواده الصحافية إسطنبول غير السياحية، فقد كانت التقارير تمتلئ بصور العمال والمعدمين الفقراء العاطلين من العمل في المقاهي والأزقة.
روائي المدينة ومصوّرها
التقط غولر صوراً للروائي التركي أورهان باموق، الذي فاز بنوبل للآداب عام 2006. واستعان باموق بأرشيف غولر لكتابة مذكراته المعنونة (إسطنبول: الذكريات والمدينة)، ودمج صورته وهو فتى مع صورة لغولر عن إسطنبول غلافًا للكتاب.
رثى روائي إسطنبول باموق صديقه آرا بهذه الكلمات التي ترجمها أحمد ليثي:
"كان آرا غولر أعظم مصور لإسطنبول الحديثة. شرع في التقاط صور للمدينة عام 1950، صوّر حياة الناس بجانب العمارة العثمانية الضخمة، ومساجدها الساحرة، ونوافيرها المذهلة. أما أنا فقد ولدت بعدما بدأ عمله بعامين، في 1952، وعشت في الحي نفسه الذي عاش فيه. وهكذا، صارت إسطنبول التي تخص آرا غولر هي إسطنبول التي تخصني أيضاً". يضيف أن "الصور التي أردتها لكتابي لم تكن تلك الشهيرة التي كان غولر يلتقطها ويعرفها الجميع، لكني أردت صوراً أكثر تناغماً مع سوداوية لإسطنبول التي كنت أصفها، مع الجو العام الرمادي لطفولتي. وكانت لدى آرا صور أكثر مما كنت أتوقع. كان يمقت صور إسطنبول السياحية، والعقيمة، والمطهرة. وبعدما اكتشف أين تكمن اهتماماتي بالضبط، سمح لي بالوصول إلى مكان في الأرشيف الخاص به دون أية عوائق".