عن شارع في مدينةٍ لها ذاكرة وغياب

21 أكتوبر 2024
إنّها بيروت زمن حرب إبادة إسرائيلية جديدة (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -

 

إنّه يومٌ آخر من أيام القهر البيروتي، اللاحق على قهر فلسطيني ممتدّ في 76 عاماً. شارعٌ في مدينةٍ يكتظّ بأناسٍ يريدون لحظة أمان، وبعمرانٍ غارق في ظلامٍ، وبسكّانٍ يتوهون بين واجبٍ أخلاقي وضيق يزداد حدّة كلّ لحظة. شارعٌ له تاريخٌ، ومعه حكايات، وفيه عيشٌ. شارعٌ يحتفل بالحياة منذ خمسينيات القرن الـ20، على الأقلّ، والحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) تجهد في سلبه نبضه (وتنجح بذلك غالباً)، المتمثّل في اجتماع واقتصاد وثقافة وصحافة، ولـ"سهر الليالي" فيه أوسع مدى في تفاصيل حميمة لكثيرين وكثيرات.

الشارع هذا اسمه "الحمرا" (يُقال إنّ أصله ترابٌ أحمر زمن عربات الأحصنة، قبل تحوّله إلى معالمه المعروفة طويلاً)، ويكون واجهة وملاذاً ومتنفّساً لأكثر من جيل. شارعٌ يختصر زمناً، ويُقارع حروباً، وبعض تلك الحروب تفتك بوجوده، أو تحاول ذلك. شارعٌ يتفنّن بابتكار حياةٍ، لكنّ الحياة تغادره مراراً، وهذا بشعٌ ومُخيف.

إنّه يومٌ آخر من شقاءٍ لبناني، يُرافق شقاء فلسطينيين وفلسطينيات في مواجهة حرب إبادة إسرائيلية جديدة، لها (تلك الحرب) أفعالٌ سابقة في حروبٍ ومجازر، في مدينةٍ يُقال دائماً إنّها حضنٌ لعربٍ يأتونها لخلاصٍ، ولو مؤقّتاً، والآن يكون حضناً لأبناء البلد وبناته، ولو مؤقّتاً. شارعٌ مفتوحٌ على أضواءٍ واحتفالات وعيشٍ، وعلى شاشات كبيرة تصنع ذاكرةً وتكتب قصصاً وتعاين وقائع، وعند احتلالها تُتقن مقاومةً أصيلة تُرعب عدواً يريد عودةً لانتقام من هزيمةٍ له فيها. شارعٌ يُفتَح لـ12 صالة سينمائية (على الأقلّ، وأزقّة متفرّعة منه تمتلك صالاتٍ عدّة أيضاً)، قبل أنْ يُغلقها مشروعٌ غير سليمٍ كلّياً لإعادة إعمار بلدٍ مُفتّت ومنهار، وإعادة الإعمار كارثةٌ تُصيب مدينة وبلداً، وتُصيب ناس المدينة أساساً.

شارعٌ يأتيه نازحون ونازحات بعد إجبارهم على ترك منازل وقرى وأراضٍ ومدن لهم/لهنّ، لأنّ حرب إبادة وحرق وسلخ تشنّها إسرائيل في أحد أسوأ أساليبها جُرماً. يريدون مسكناً فيعثرون على شيءٍ منه. يتوزّعون على أرصفةٍ لتمضية وقتٍ، فلا عمل ولا حماية ولا أفق عودة قريبة، كتلك العودة الحاصلة في اليوم 34 لـ"حرب تموز" (2006). يريدون شيئاً من أمانٍ، لكنّ "أم كامل" (طائرة MK الإسرائيلية) "تَزِنّ" في سماء مُصادَرة، فالوحش الإسرائيلي يتحكّم فيها أيضاً، ويتحكّم فيهم/فيهنّ وفينا كلّ لحظةٍ.

والشارع، إذْ يعاني انكساراً وخيباتٍ ووجعاً وانهياراً منذ سنين، يحاول احتضان مُصابين ومُصابات بألم الانسلاخ من منزل وقرية وأرضٍ ومدينة. صالات سينمائية مُغلقةٌ منذ زمنٍ، واليوم تعجز عن استقبال نازح/نازحة، لشدّة تغييبها المزمن من سهرٍ وفرحٍ. صالات تصنع حياةً من عتمتها، فإذا بعتمة مدينة وبلدٍ تُغلقها، وحرب إبادة إسرائيلية جديدة تجعلها أكثر عتمةً من عتمةٍ مشتهاة سابقاً، فالعتمة السابقة مدخلٌ إلى عوالم وأسئلة ومعاينة ومعرفة، وهذا كلّه مندثرٌ، لأنّ الوحش الإسرائيلي متفلّتٌ من كلّ قيد ومُحاسَبة.

صورة نادية لطفي في بيروت الاجتياح الإسرائيلي (1982) حاضرةٌ. لكنّ صورة أخرى تُلحّ أيضاً في لحظاتٍ كهذه: عاطف الطيّب يُصوّر مشهداً من "ناجي العلي" (1992) في مقهى "ويمبي" (كَمٌّ من ذكريات شخصية لن يمحوها غيابه)، يوثِّق أول رصاصة مُقاوِمةٍ ضد محتلّ إسرائيلي. أحزن لعدم لقائي نادية لطفي حينها، لكنّي أفرح للقاء الطيّب في تصويره ذلك المشهد في ذاك المقهى في هذا الشارع، الذي أخاف فقدانه، فالشارع آخر حصانةٍ لي منذ أعوامٍ طويلة.

المساهمون