مشاهدة أفلامٍ عدّة من كازاخستان، في الدورة الـ4 (27 ـ 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2022) لـ"مهرجان أفلام من كازاخستان في باريس"، والدورة الـ16 (12 ـ 18 ديسمبر/ كانون الأول 2022) لـ"مهرجان أورآسيا السينمائي الدولي في آلماتي" (كازاخستان)، مناسبة لاستعادة شعور بمتعةٍ بعيدة. كأنّها ذكرى تعود. ثمّ، بعد التدقيق في الأمر، يُمكن إدراك ما كانته هذه الذكرى: لحظات اكتشاف سينما جديدة، إيرانية وعربية، منذ أكثر من 30 عاماً، في النسخ الأولى من "مهرجان القارات الثلاث في نانت" (فرنسا).
حينها، كانت هذه السينما نادرة في أوروبا، ولديها نغمة وأسلوب مختلفان تماماً عن السينما الأوروبية. إلى حدّ ما، يمكن القول إنّ شيئاً من تلك النغمة توفّر في تلك الأفلام الكازاخستانية. بعضُ بطءٍ، لكنْ لا ملل، وببساطة يجب الصبر مع سينما كهذه تُعنى بالإنسان، من دون خطاب أيديولوجي، بل مع نظرتها إلى الوجود. لا اهتمام مفتعلاً للتأثير، بل بتقديم إبداع عفوي.
السينما الإيرانية والعربية مُبتكرة، في وقتٍ من أوقاتها، أكانت تنتمي إلى هزل أو مأساة، فإنّها لم تكن من النوع الذي يروق للغرب. بل إنّ الغرب لم يحتملها. كانت ناجحة في بلدانها، ولو بشكلٍ محدّد. فيلم "بسّ يا بحر" (1972)، للكويتي خالد الصديق، بنبرته وأسلوبه وإيقاعه، لم يشبه السينما الأوروبية. مخرجون إيرانيون "معبودون" في بلدهم، كبهرام بيضائي وداريوش مهرجوي وكيانوش عياري، لهم أساليب بعيدة عن المزاج الغربي، والسينما الغربية، الأوروبية تحديداً. سينماهم محلية، تعبّر عن واقع محلي بأسلوب محلي. هؤلاء لم يستطيعوا اختراق السوق الغربية، لأنّهم حافظوا على طريقتهم في العمل، التي لم تلقَ هوىً غربياً.
السينما الناجحة في بلدها لا تنجح في الغرب، أكانت سينما مؤلّف أم سينما جماهيرية (سينما بوليوود، وفيها رقص وغناء، لا تلائم الذوق الغربي). لذلك، بدأت سينما من نوع آخر، مقبلة من هذه البلدان، تتصدّر بين حين وآخر الشاشات الغربية. لكنّها سينما لم تعد هي نفسها تماماً، ينجزها مخرجون مع جمالياتٍ لم تعدْ هي نفسها، أيضاً.
دخلت المهرجانات الأوروبية والغربية على الخطّ، ومعها الإنتاج المشترك. منتجٌ يتمتّع بسلطة، وموزّعون يطلبون قصصاً تلائم جمهورهم. إضافة إلى هذا، هناك أحلام، وعُقد أيضاً، لسينمائيي بلدان الأطراف، للاندماج في السينما العالمية، لنيل شهرة فيها. إنّهم جاهزون للخضوع إلى السائد فيها، وملاءمة السيناريو مع متطلبات "ناجحة"، تجد طريقها بسهولة إلى جمهور غربي، سواء طُلب منهم ذلك صراحةً، أم بتوجّه واعٍ منهم. وبينما لا تجذب أفلام الهزل جمهوراً من ثقافة أخرى، ولا تسلّيه (عند عرض "أمور شخصية"، للفلسطينية مها الحاج، في صالة فرنسية، كانت تتردّد ضحكاتٍ وحيدة، لمُشاهدة عربية، إذْ لم تصل روح الفكاهة الخاصة جداً فيه إلى المتفرّج الفرنسي، ما يُفسّر أيضاً عدم بقاء أفلامٍ كتلك، كثيراً، في الصالات الأوروبية)، فإنّ أفلاماً تنتقد وضع المرأة، "المُهين" و"التعيس"، في المجتمعات الشرقية، تجد لها صدى مؤكّداً.
يُمكن ملاحظة وفرة أفلامٍ عربية في أوروبا (فرنسا)، تعتمد شرط المرأة العربية، لما فيه من جاذبية للمُشاهد الغربي. كأنّ الغرب محتاج إلى أنْ يقال في هذا إنّ الأمور سيئة للغاية.
ينطبق الحال على أفلامٍ إيرانية، تنتقد نظاماً اجتماعياً وسياسياً، مُنفّذة بأسلوب يجذب جمهوراً غربياً، أكثر مما يجذب جمهوراً محلياً. الأفلام المنتقِدَة، والمنَفَّذَة بأسلوب محلي، تحصل على إقبال في وطنها، ولا يُهتَمّ بها في الخارج. مثلاً: "علي السنتوري" (2006)، لداريوش مهرجوي.
انقلب وضع سينما الأطراف، وتغيّرت حكاياتها. لكنّ الأخطر تحوّل الجماليات، أيّ الرؤى الإخراجية، وأسلوب التنفيذ. السينما ليست فقط حكاية أو موضوعاً. إنّها طريقة سرد وجماليات في التصوير، والحركة، وأسلوب استخدام الزمن، والتموضع فيه. ليس لسينما الغرب الإيقاع نفسه للسينما المشرقية مثلاً (عربية، إيرانية، هندية). سينماه لا تتّبع الطريقة نفسها في سرد الحكاية، وأسلوب الكلام والحركة، والانفعال. كي يُثمِّن مُشاهد غربي فيلماً "آخر"، على هذا أنْ يتحلّى بأسلوب مشابه في كيف يكون في الزمان والمكان، وفي التحرّك بينهما، وأنْ يتوافق مع مفاهيمه، وإلّا سيجد الفيلمَ مُكرّراً وبطيئاً.
أفضل مُعبّر عن جماليات كتلك "أين منزل الصديق" (1987)، لعباس كيارستمي. فيلم يمكنه جذب جمهور على درجة عالية من الثقافة السينمائية (سينيفيلي)، لكنْ ليس جمهوراً عادياً، متوسّط الثقافة. لتجاوز هذا، والاقتراب من الجمهور الغربي، يجب الخضوع. أو بكلامٍ أخفّ: يجب الانفتاح على الطريقة الغربية، وتعديل طريقة الكلام والحركة والانفعال، للاقتراب من نمط غربي. رغم روعته، لا تتلاءم جماليات "ريش" (2021)، للمصري عمر الزهيري، مع سينما محلية، ولا بطلته مع شخصية مصرية، في ردود فعلها وانفعالاتها وحركتها في المكان.
مشكلة أخرى يعانيها مخرجو القارات الثلاث، الذين يُنجزون أفلاماً لا تلائم الذوق المحلي، في العالم العربي أكثر من إيران. سينماهم غير تجارية. لا جمهور لها في بلدها. لذلك، يشكّل الحصول على جمهور من نوع جديد أمراً مهمّاً. محتاجون إلى الوصول إلى جميع محبّي السينما في أوروبا والعالم. هؤلاء قليلو العدد. إنْ أراد أحدهم أنْ يوزّع فيلمه في أوروبا، عليه أنْ يمسّ الجمهور هناك، ليس الشعبيّ بل متوسّط الثقافة. أي ذاك الذي يتخيّل أنّ الانفتاح على العالم، وعلى "الآخر"، يكون عبر هذه السينما. لإرضاء هذه الطبقة، ومعها "فانتازم الآخر"، على هذا الآخر أنْ يسمع ما يريد سماعه، وبالطريقة التي تناسبه. هو يحبّ الآخر، شرط أنْ يكون مماثلاً له.
الانفتاح العالمي على سينما المؤلّف العالمية يتمّ عبر أفلامٍ، يمكنها الوصول، شرط ملاءمتها الطريقة الغربية. هذه مشكلة العولمة، التي ليست تبادلاً بين شعوب العالم، بل اختفاء لشعوب العالم، أي اختفاء الفوارق والثقافات، وبالتالي مختلف أنواع السينما. لا يمكن أنْ يكون الأمر على نحو آخر، لأنّ الاهتمام الحقيقي العميق بثقافات أخرى نادرٌ، وهذا ينسحب على العالم كلّه، الغربي والعربي.
اللقاء يحصل بين النخب. أطلبُ من الآخر أنْ يكون مشابهاً لي، كي أقبله. الوضع ينطبق، أيضاً، على الموسيقى التراثية العربية الأصيلة، التي عليها أنْ تختلط بالغربية، لتصبح "موسيقى العالم"، وتُعجب جمهور النخبة. هذه النخبة يُمكنها أنْ تحبّ أول فيلم اشتهر عالمياً لعباس كيارستمي، لكنْ هذا ليس لديه أدنى حظّ ليُعجب العالم الصغير.